فى مثل هذا اليوم الخامس عشر من يناير قبل خمسة وثمانين عاما أطلت علينا سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة فى «يوم سعيد» على كل عشاق السينما المصرية، طفلة نعم أمام نجم زمانه الموسيقار محمد عبد الوهاب، لكنها ليست كأى طفلة، لتبدأ مشوارها الناصع مع الفن الذى وصلت فيه إلى ما لم تصل إليه أى ممثلة عربية أخرى، وفى السابع عشر من يناير أيضا ولكن قبل عشر سنوات أنهت الأقدار مشوار الفنانة الكبيرة فى الفن والحياة بعد أربعة وثمانين عاما ملأت خلالها الدنيا حضورا لافتا لم تستطع واحدة بعدها ملء هذا المكان الشاغر.
وفاتن حمامة دون أى مبالغة هى ابنة دار الهلال التى كانت تعتبرها بيتها الثانى، فمن إحدى مسابقات مجلة «الاثنين» سنة 1936 (كانت تصدرها مؤسستنا العريقة) اختارها المخرج محمد كريم دون غيرها من المتسابقات لتشارك فى فيلم «يوم سعيد» رغم أنها لم تكن الفائزة الأولى فى تلك المسابقة، وعلى صفحات مجلة الكواكب سنة 1956 كتبت فاتن للمرة الأولى والأخيرة مذكراتها، وبعدها رفضت كل المحاولات الساعية إلى كتابة هذه المذكرات مرة أخرى رغم كل الإغراءات فى زمن الفضائيات وملايين الدولارات، وطوال مسيرتها لم تتأخر فاتن عن تلبية دعوة مجلة «المصور» ضيفة عزيزة على ندواتها وحواراتها بصورة لم تحدث مع أى وسيلة إعلامية أخرى، وكثيرا ما خصتها بما لم تخص به غيرها، وهى أيضا ربما تكون أكثر نجمات السينما العربية ظهورا على أغلفة إصدارات دار الهلال المختلفة.
فاتن حمامة إذن هى ابنة «دار الهلال» كما كانت تقول دائما، ونحن أولى بتذكرها والاحتفاء بها فى هذه الأيام بالتحديد، إنها سيدة الشاشة صاحبة المقام الرفيع فى تاريخنا الفنى العريض، وتأمل معى هذا اللقب الذى اتفق عليه الجميع منذ عشرات السنين.. لم يمنحوها لقب نجمة الجماهير أو نجمة الشباك أو غير ذلك من الألقاب الدعائية الرنانة، فالجماهير تتغير ويتبدل معها نجومها ونجماتها، ونجم الشباك لا يصح أن يكون كذلك فى كل مراحله الفنية، فضلًا عن المغزى التجارى للقب والذى قد لا يتوافق مع وجهة النظر النقدية تجاه نجم الشباك هذا، أما “سيدة الشاشة العربية” فهو لقب أو وصف دائم ومستمر غير مرتبط بمرحلة فنية أو عمرية، وغير منسوب للجمهور وحده أو النقاد دون سواهم، وهو أيضًا لقب غير قابل للسحب أو تجريد صاحبه منه، إنه صك منحه كل المشاهدين - جمهورًا ونقادًا - لهذه المرأة التى احترمت المانح فتحملت مسئولية هذه المكانة الخاصة.
وسيدة الشاشة العربية - كما نرى- لقب موقوف على فاتن حمامة وحدها لم تنازعها عليه واحدة مهما حاولت بعكس أية ألقاب أخرى يمكن أن يتنازع عليها الآخرون والأخريات، إذن فهى حالة فريدة بين كل ممثلات السينما العربية.
وسيدة الشاشة العربية يعنى أنها فى عالم التمثيل السينمائى كأم كلثوم - سيدة الغناء العربى - فى عالم الطرب، فأى مكانة عظيمة تلك التى تساوى بين فاتن فى السينما وأم كلثوم فى الغناء؟، الشىء المدهش أنه من بين كل الألقاب الفنية التى دأب الجميع على إطلاقها بوعى أو بدونه لم يحظَ فنان رجل مهما كانت مكانته بلقب «سيد»، رغم كل محاولات البعض إلصاق اللقب الفريد بهذا الفنان أو ذاك. ولأن السيادة تعنى الريادة بمعناها القيادى وليس بمفهومها الزمنى فإن فاتن كأم كلثوم وقليلين غيرهما رجالًا ونساء كانوا وسوف يظلون الواجهة المشرفة التى حافظت لمصر على مكانتها الخاصة فى محيطها العربي، فكانت الاثنتان دون منازع سيدتىْ الفن العربى على مدى تاريخه الطويل، وسوف يظلان هكذا لدى الأجيال القادمة.
إنها على ذلك امرأة بمواصفات خاصة قد يتشابه بعضها مع ما لدى غيرها من ممثلات السينما فى مصر، لكنها لم تجتمع على هذا النحو إلا لفاتن، ولم تتحقق- حتى منفردة- على هذه الدرجة من التميز والتفوق إلا عندها، ولهذا أصبحت فاتن حمامة الوحيدة التى تستحق وصف سيدة الشاشة العربية.
أى مكانة إذن لامرأة بدأت مشوارها بعفوية الطفلة الواعية لما تفعل، وأنهته بحكمة السيدة الناضجة التى خبرت الحياة واستوعبت كل ما كان يدور حولها، عايشت «فاتن» منذ مولدها فى السابع والعشرين من مايو عام 1931 وحتى رحيلها فى السابع عشر من يناير 2015 كل التطورات التى شهدتها الحياة المصرية وهى عبر هذا الزمان الطويل راسخة القدمين لا تزعزعهما النوات، بارعة الحضور لا تأخذ منه الأيام والسنون، قادرة على التأثير فى الحياتين الفنية والاجتماعية.. ساندت نجومًا، وكسرت تابوهات، وغيرت بأفلامها قوانين، ووجهت بفنها – فى كثير من الأحيان – الرأى العام ولوّنته.
أثْرت فاتن إذن وأثَّرت، وبين الإثراء والتأثير استحقت أن تكون نجمة عصر فنى جميل هى عنوانه الأكبر، وأيقونة زمان سينمائى بديع هى تاجه الأغر.. ظهرت أسماء وتتابعت، وغابت أخرى وتوارت، وظلت هى كما هى فاتنة الشاشة وسيدتها، سليلة البراءة وربيبة الوقار، وصاحبة كبرياء لا يعرف التنازل أو التفريط.