على مر التاريخ، كان التعليم فى مصر يرتكز على تحقيق التوازن بين القيم الدينية والأخلاقية والعلوم المختلفة، وقد لعبت مادة التربية الدينية دورًا محوريًا فى تشكيل وعى الأجيال ونقل القيم الإنسانية، ومع ذلك شهدت العقود الماضية تراجعًا فى مكانة التربية الدينية فى المناهج الدراسية، حيث أصبحت تُعامل كمادة غير مضافة للمجموع، مما أثر على اهتمام الطلاب بها، واليوم تعود هذه المادة لتأخذ مكانتها المستحقة كمادة أساسية تُضاف إلى المجموع الكلى فى البكالوريا المصرية الجديدة، وهو قرار يعكس أهمية ربط التعليم بالأخلاق.
تُعد التربية الدينية جزءًا أصيلًا من نظام التعليم المصرى منذ نشأته، فى العقود الأولى من القرن العشرين، كانت المناهج الدراسية تشمل مواد دينية تهدف إلى تعزيز القيم الأخلاقية والدينية، ومع تطور النظام التعليمى بقيت التربية الدينية حاضرة كجزء من المنهج، إلا أن قيمتها التقييمية تراجعت تدريجيًا فى السبعينيات والثمانينيات، بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بجعل هذه المادة أكثر أهمية فى حياة الطلاب، لكنها بقيت تُدرس دون تأثير مباشر على المجموع الكلي.
اليوم، يعكس قرار إعادة إدراج التربية الدينية كمادة أساسية تُضاف إلى المجموع الكلى إعادة التفكير فى دور التعليم فى تشكيل شخصية الطالب المصرى وإعداده لمواجهة تحديات المستقبل.
وما يميز هذا القرار أن التربية الدينية فى مصر تُدرس بطرق تحترم خصوصية كل دين، حيث تُخصص المناهج لطلاب كل فئة دينية على حدة، الهدف من المادة ليس المقارنة بين الأديان، بل غرس القيم المشتركة مثل الصدق، والأمانة، والتسامح، التى يتفق عليها الجميع، كما أن المادة تهدف إلى تعزيز فهم الطلاب لدينهم بصورة أعمق، مما يُسهم فى خلق بيئة من الاحترام المتبادل والتعايش السلمي.
لقد أثبتت تجارب دول متعددة، مثل ماليزيا وإندونيسيا، التى تُدرس التربية الدينية بجدية، أن التعليم الدينى يعزز الوحدة الوطنية بدلًا من التفرقة، إذا ما تم تقديمه بأسلوب يركز على القيم المشتركة والإنسانية.
التربية الدينية ليست مجرد مادة أكاديمية تهدف إلى تحفيظ النصوص الدينية أو تعلّم الفروض، بل هى نافذة لتعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية التى تُعتبر الأساس لبناء المجتمعات السليمة، فالدين، بما يحمله من مبادئ كالسلام، والعدل، والصدق، والتسامح، يُعد مرجعًا أساسيًا لتوجيه السلوك البشري.
إذن.. فإن التربية الدينية ليست مادة معقدة من حيث المحتوى الأكاديمي، بل تعتمد على تعزيز القيم والفهم الأساسى للنصوص الدينية، كما أن دراسة المادة لا تتطلب نفس الجهد المبذول فى مواد مثل الرياضيات أو العلوم، مما يعنى أن تأثيرها على العبء الدراسى سيكون محدودًا.
علاوة على ذلك، فإن المادة تُضيف بُعدًا إنسانيًا وروحيًا يُساعد الطلاب على التعامل مع الضغوط الدراسية بمرونة أكبر. فهى تُعزز القيم الأخلاقية التى تُسهم فى بناء شخصية قادرة على التوازن بين متطلبات الحياة الدراسية والشخصية.
لذا فإن ربط تدريس التربية الدينية بالأخلاق يساعد الطلاب على فهم كيف يمكن لهذه المبادئ أن تُطبق فى حياتهم اليومية، فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون الدروس عن الأمانة وسيلة لتعزيز النزاهة الأكاديمية، كما يمكن أن تُشجع دروس التسامح على تعزيز العلاقات الإيجابية بين الطلاب من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية.
مرحلة الثانوية العامة تُعد من أهم المراحل التعليمية فى حياة الطالب المصري، حيث تتسم بالضغوط الدراسية العالية التى تهدف لتحقيق التفوق الأكاديمي،فى هذا السياق قد يشعر الطلاب أن التعليم يركز فقط على الجانب العلمى دون الاهتمام بتكوين الشخصية والأخلاق، وجاء هذا القرار ليعيد التوازن بين التربية والتعليم، حيث يُذكّر الطلاب بأن التعليم ليس مجرد وسيلة للحصول على درجات عالية، بل هو رحلة تهدف إلى تكوين إنسان كامل من حيث الفكر والأخلاق.
كما يساهم هذا القرار فى التخفيف من الضغوط النفسية، من خلال تقديم مادة تهدف إلى بناء الروح والقيم، بل يمكن أن تكون التربية الدينية وسيلة للتخفيف من الضغوط النفسية التى تواجه الطلاب فى مرحلة الثانوية العامة، بالإضافة إلى تكوين شخصية متوازنة حيث يساهم القرار فى إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات ليس فقط بالعلم، ولكن أيضًا بالأخلاق والقيم.
وهنا أتحدث عن مميزات تدريس التربية الدينية كمادة أساسية والتى تجعلها إضافة قيمة للنظام التعليمى المصرى، منها غرس القيم الإنسانية خاصة فيما يتعلق بمواجهة التحديات الأخلاقية فى عصر التكنولوجيا والانفتاح، حيث تواجه المجتمعات تحديات أخلاقية كبيرة، وتُمكّن التربية الدينية الطلاب من التمييز بين الصواب والخطأ، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات صحيحة.
ومن المميزات المهمة أيضا تعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية الروابط بين الطلاب من مختلف الأديان والخلفيات الثقافية، مما يعزز روح الوحدة والتعايش، وإعداد جيل متزن .
ختاما .. إن إعادة إدراج مادة التربية الدينية كمادة أساسية فى المجموع الكلى للبكالوريا المصرية الجديدة ليست مجرد قرار إداري، بل هى خطوة استراتيجية نحو إعادة صياغة أولويات التعليم فى مصر، من خلال هذا القرار، يتم التأكيد على أن التعليم لا يقتصر على نقل المعرفة الأكاديمية، بل يشمل أيضًا غرس القيم الأخلاقية التى تُعد أساسًا لبناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة.
وفى ظل التحديات الأخلاقية التى تواجه المجتمعات اليوم .. فإن عودة مادة التربية الدينية كمادة أساسية ليست عبئًا إضافيًا، بل استثمار فى أجيال قادمة تحمل القيم الأخلاقية والإنسانية جنبًا إلى جنب مع المهارات العلمية، وضرورية ملحّة لضمان أن يكون التعليم وسيلة لبناء الفرد المتزن والمجتمع القوي.
ويُعد هذا التحول فرصة لإعادة تعريف مفهوم النجاح لدى الطلاب، بحيث لا يكون مقتصرًا على التفوق الأكاديمي، بل يمتد ليشمل بناء الشخصية المتزنة التى تجمع بين العلم والأخلاق.