رحلة طويلة قطعها عالم الآثار الدكتور زاهى حواس، وسط جلاميد صخور جبال البر الغربى لمدينة الأقصر، يقوده خلالها حلمه الكبير الذى لم يفارقه يوما، وهو اكتشاف مقبرة الجميلة «نفرتيتى» التى اختفت بلا أثر، لكن تتبع خطاها قاده لاكتشافات أثرية لا تمت لها بصلة، بل أقدم وأبعد من عصرها بسنوات طويلة، ليقف عند بدايات الأسرة الـ17 التى نجحت فى تحرير أرض مصر من الغزاة الهكسوس ويخوض تفاصيل الأسرة الـ18 التى بنى ملوكها الدولة القوية، وتلك الاكتشافات أخذته إلى عالم الملكة المعظمة «حتشبسوت» صاحبة الطلة المهيبة التى أبت أن تحقق له حلمه بعيد المنال، لكنها منحته بعضا من أسرارها الملكية بعد رحلة البحث والتنقيب وسط وديان الملوك لعله يهدأ قليلا.
طريق صاعد يطل عليه من بعيد معبد الملكة المعظمة «حتشبسوت» بالدير البحري، الذى يقف شامخا عند القمة تحتضنه جبال البر الغربي، وهناك يكمن وادى الملكات. وفى مقدمتهم أهم ملكة حكمت الدولة المصرية خلال عصرها الذهبى تراقب من عليائها محاولات «حواس» المتكررة للبحث عن ملكة قلبه «نفرتيتى»، صامتة لكن خيالها يداعبه بين الحين والآخر. من قبل نجحت أبحاث تحليل الحمض النووى «DNA» الخاصة بمومياتها فى اكتشاف أنها لم تتعرض للقتل وتوفيت بطريقة طبيعية بعد إصابتها بالسرطان. واليوم يتأكد «حواس» أنها أحسنت تربية الطفل تحتمس الثالث ليصبح أعظم من حكم مصر بعدها، وهو الملك الذى ظل وفيا مخلصا لها بعد وفاتها.
تلك قصة اكتشافات البعثة المصرية التى يقودها «د. زاهي» بالبر الغربى لمدينة طيبة القديمة، عمل مضنٍ من البحث والحفر العلمى بدأ فى سبتمبر 2022 واستمرّ قرابة الثلاث سنوات، لم يفقد حماسته خلالها، ظل على قناعة تامة بأنه سيصل يوما ما إلى مقابر ملوك الأسرة الـ 18 وملكاتها، وعندما جلس داخل إحدى المقابر المنقورة فى الصخر ومن خلفه عدد من التوابيت الحجريّة المتراصة ليلتقط أنفاسه مشيرا إليها بقوله: «التوابيت الريشية هى الحلم الذى طالما استحوذ على المصريين.. بلوغ السماء الرحبة بعد حياة مليئة بالشغف والمغامرات»، وتلك التوابيت يغطيها زوج من أجنحة الريش الضخمة والملون من الكتف حتى القدمين، تحمل بعضا من الكتابات الهيروغليفية المقدسة تجسد حلم الخلود فى حياة ما بعد البعث بناء على قواعد عقيدة المصريين القديمة. والتى لا تزال مستقرة داخل نفوس المصريين حتى اليوم، وهو ما نجح «د.حواس» وبعثته فى العثور عليها داخل إحدى مغارات المقبرة الصخرية، حيث تمكنت البعثة المصرية المشتركة التابعة لمركز زاهى حواس للآثار والتراث بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة السياحة والآثار من تحقيق اكتشافات أثرية عند بداية الطريق الصاعد لمعبد الملكة «حتشبسوت» بالدير البحرى.
خمسة اكتشافات علمية مثيرة نجحت فى تقديم معلومات جديدة ومغايرة لما كان سائدا منذ أكثر من 200 عام. «حواس» نجح فى تبرئة الملك تحتمس الثالث من تدمير آثار الملكة «حتشبسوت»، وهى التهم التى بلغت ذروتها باتهامه بقتلها. لكن الكشف أثبت بالدليل القاطع أنها محض افتراء. وأن الملك الذى يطل بتماثيله العظيمة ومسلاته الشامخة كان مثالا للإخلاص والوفاء للملكة التى طالما ظلمها التاريخ وأغفل حقها كأهم من حكم مصر عبر مختلف العصور.
« لكل معبد جنائزى هناك آخر يحمل اسم معبد الوادى، وهذا ما نجحنا فى اكتشافه»، هكذا تحدث «حواس» بفخر عن نجاح بعثته العلمية فى العثور على أركان معبد الوادى الخاص بالملكة «حتشبسوت» التى حكمت مصر خلال عصر الأسرة الـ 18 من الدولة الحديثة بين (1479- 1458 قبل الميلاد)، حيث عثرت البعثة على جزء من أساسات معبد الوادى الذى كان يقع عند مشارف الوادى، وهو بوابة الدخول الرئيسية للمعبد الجنائزى للملكة «حتشبسوت» ويطلقون عليه اسم «جسر جسرو»، وهو ما يصفه «حواس» بقوله: «الأجمل على الإطلاق»، مشيرا إلى اكتشاف عدد كبير من النقوش الجميلة النادرة التى تمثل نموذجا بديعا لفنون النحت خلال فترة حكم الملكة «حتشبسوت» ومن بعدها الملك «تحتمس الثالث»، مرددا قوله: «لا مثيل لها فى متاحف العالم أجمع»، وإن كان هناك عدد قليل منها داخل متحفى الأقصر والمتروبوليتان بنيويورك فقط، وهى عبارة عن مجموعة من الأحجار المتوسطة الحجم تحمل نقوشا ملكية مكتملة تمثل بقايا معبد الوادى الذى تعرض للهدم خلال عصر الرعامسة والأسرة الـ19 بالدولة الحديثة.
تلك اللوحات الملكية الحجريّة المنقوشة بلغ عددها أكثر من 100 لوحة تحمل اسم الملكة «حتشبسوت» وخراطيشها الملكية، حيث توثق لاسم الميلاد واسم التتويج على العرش للتأكيد على ملكيتها للمعبد، والتى حرص د. محمد إسماعيل خالد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار على أن يقف بالقرب منها داخل المقبرة التى تحتضنها، حيث قامت البعثة باستخدام إحدى المقابر المكتشفة كمتحف صخرى لاستعراض أهم القطع الأثرية المكتشفة بشكل متميز ووقع اختيارها على عدد محدود من اللوحات الملكية الملونة فقط؟ فى حين ستنتقل بقيتها كى تكون جزءا من العرض المتحفى داخل المتحف المصرى المطل على ميدان التحرير، حيث أكد «إسماعيل» أن تلك اللوحات الرائعة تستحق أن تكون فى ضمن سيناريو العرض كونها تعكس جماليات الفن المصرى المبهر خلال فترة حكم الملكة «حتشبسوت»، ويردد قائلا: «إلى جانب جمالها تعتبر تلك اللوحات هى أهم الاكتشافات العلمية التى تخص الملكة حتشبسوت»، خاصة بعد مرور قرن كامل على اكتشاف العالم هيربرت وينلوك لآخر مجموعة كاملة من ودائع الأساسات لها فى موقع معبدها الجنائزى فى عامى 1923 و1931، ومن بين تلك اللوحات الحجرية لوحة حجرية فريدة من الحجر الجيرى تحمل النقش البارز اسم ولقب المهندس المعمارى للملكة المهندس «سنموت» ولقبه المشرف على القصر.
كما نجحت البعثة العلمية فى العثور على عدد من المقابر الصخرية ترجع إلى عصر الدولة الوسطى (2050 – 1710 قبل الميلاد). لكن الأهم هو اكتشاف التسلسل الزمنى التاريخى داخل موقع معبد الوادى، والذى بدأ العمل على بنائه فى عصر الدولة الوسطى واستمر حتى بداية الأسرة الثامنة عشرة، لكن المهندس الملكى «سنموت» أمر بوقف الدفن فى المنطقة بعد اختياره لها كموقع لتشييد معبد الوادى وجزء من امتداد الطريق الصاعد الذى يربط بين معبد الوادى والمعبد الجنائزى للملكة «حتشبسوت»، ونجحت البعثة فى العثور على عدد من القطع الأثرية منها موائد القرابين المميزة لعصر الدولة الوسطى والمصنوعة من الفخار وعليها مجسمات للقرابين من خبز ونبيذ ورأس وفخذ الثور.
كما اكتشفت البعثة العلمية عددا من أبيار الدفن (1580 – 1550 قبل الميلاد) والمنحوتة فى الصخر بداخلها عدد من التوابيت الخشبية بالهيئة الإنسانية والتى تعرف بالتوابيت الريشية المميزة لعصر الأسرة السابعة عشرة، منها تابوت لطفل صغير مغلق وموثق بالحبال والتى لا تزال على هيئتها منذ دفنها قبل 3600سنة، وبجانبها حصير ملفوف لا يزال بهيئته الأصلية.
والجميل أن البعثة المصرية وضعت برنامجا خاصا لترميم ونقل القطع المكتشفة للعرض بالمتحف القومى للحضارة المصرية، حيث قامت البعثة بنقل واحد من أهم مكتشفاتها، وهو سرير من الخشب والحصير المجدول إلى متحف الحضارة فى موسم الحفائر الماضى 2023 – 2024 والذى يعود إلى تلك الفترة وكان يخص أحد حراس الجبانة، حيث عثرت عليه داخل حجرة صغيرة مخصصة لإعاشة حرس الجبانة.
كما عثرت البعثة العلمية على رءوس الرماح الحربية وهى بمثابة الدليل القاطع بأن أصحاب الجبانة هم من ذوى خلفية عسكرية، وأنهم توفوا خلال كفاحهم لتحرير أرض مصر من الغزاة الهكسوس.
كما اكتشفت البعثة داخل الموقع مقبرة المدعو «جحوتى مس» المشرف على قصر الملكة «تتى شيري» جدة الملك «أحمس» محرر مصر من الهكسوس وأم والده الملك «سقنن رع» أول ملك شهيد فى حرب الكفاح والتحرير، وهى الجدة الكبرى لملوك الأسرة الثامنة عشرة صاحبة العصر الذهبى للحضارة المصرية القديمة.
تلك المقبرة تكشف تفاصيل جديدة لم يسبق لأحد معرفتها، حيث أرخت لحكم الملك «أحمس الأول»، حيث تم بناؤها خلال العام التاسع من حكمه المسجل من (1550 – 1525 قبل الميلاد) وذلك طبقا للتاريخ المكتوب على اللوحة الجنائزية للمقبرة، كما عثرت البعثة داخلها على بقايا رسوم ملونة باللون الأحمر على طبقة من الملاط الأبيض، وفى أرضية الحجرة عثر على بئر مستطيلة تؤدى إلى حجرتى دفن، وفى البئر تم العثور على مائدة قرابين من الحجر الجيرى وكذلك على اللوحة الجنائزية لصاحب المقبرة.
وعلى الرغم من أهمية صاحب المقبرة ومنزلته الرفيعة واللقب الذى يحمله بوصفه المشرف على قصر أهم وأقوى ملكة فى التاريخ المصرى القديم، إلا أن مقبرته تكشف بوضوح عن الوضع الاقتصادى للدولة المصرية مع بدايات الأسرة الثامنة عشرة والتى جاءت بعد حروب مريرة من أجل تحرير الأرض.
كما يحتضن الموقع اكتشافات أثرية أخرى، حيث نجحت فى العثور على جبانة بطلمية ممتدة شغلت موقع الطريق الصاعد ومعبد الوادى، حيث تم بناء مقابرها من الطوب اللبن وأجزاء من حجارة معبد الملكة «حتشبسوت»، البعثة العلمية استكملت ما قام به عدد من البعثات الأجنبية من حفائر علمية فى بدايات القرن العشرين، لكن أعمال تلك البعثات لم يتم توثيقها أو الكتابة عنها بشكل علمى، لذا قامت البعثة المصرية باكتشاف أجزاء منها ودراستها وتوثيقها بشكل دقيق.
كما كشفت البعثة المصرية عن عدد كبير من الآثار من تلك الفترة ومنها عملات برونزية تحمل صورة الإسكندر الأكبر وتعود لعصر بطليموس الأول (367 - 283). والعثور على ألعاب أطفال من التراكوتا (الطين المحروق) وبأشكال آدمية وحيوانية، وكذلك عدد من قطع الكارتوناج والماسكات الجنائزية التى كانت تغطى المومياوات وعدد كبير من الجعارين المجنحة والخرز والتمائم الجنائزية.