رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

بالتاريخ والسياسة والهوية.. لا لعودة تمثال الأفّاق ديليسبس


23-1-2025 | 00:18

صورة أرشيفية

طباعة
بقلـم: نجوان عبداللطيف

«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. مرة أخرى يعود الحديث عن تمثال فرديناند ديليسبس وإمكانية عودته إلى القاعدة التى تم إنزاله من عليها فى بورسعيد بفعل أبطال المقاومة وأهالى المدينة الباسلة، عقب رحيل القوات البريطانية والفرنسية المعتدية على مصر فى العدوان الثلاثى عام 1956؛ ردًا على قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم شركة قناة السويس وتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية، بعد أن قرر البنك الدولى سحب تمويله لمشروع السد العالى.

هل تجوز إثارة موضوعات، تخلق لغطًا فى هذه الأوقات، التى تواجه فيها منطقتنا تحديات كبيرة تهدد وجودها، حيث تتحالف قوى إمبريالية دولية وإقليمية لإعادة تشكيلها وفق مصالحها، بما يطلقون عليه الشرق الأوسط الكبير؟

 

هل مَن يعيدون موضوع تمثال ديليسبس، الذى له أبعاد وطنية.. سياسية وتاريخية، يدركون أن مصر محاطة بحروب وقلاقل، من الشرق فى غزة ومن الغرب فى ليبيا ومن الجنوب فى السودان، وفى الشمال من دول مطلة معها على البحر الأبيض المتوسط فى لبنان وسوريا، وفى اليمن المطل معها على البحر الأحمر، والمؤثر على المرور فى قناة السويس؟ ألا يدركون أن هذا وقت لا تجوز فيه إثارة خلاف على قضايا لها رمزية وطنية؟.

 

أليس هذا وقت التمسك بهويتنا الوطنية، وتاريخنا الزاخر بالمقاومة الشعبية للاستعمار على مدى الزمان؟ أم إهالة التراب على شهداء المقاومة وأبناء بورسعيد الذين أسقطوا التمثال من على قاعدته؟.. هؤلاء مَن تصدوا لعدوان غاشم لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لا لشيء سوى استعادة مصر حقها فى قناة السويس الموجودة فى أرضها، التى تم حفرها بدماء 120 ألف فلاح مصرى، عانوا من السخرة التى فرضها الأفّاق ديليسبس، بل وتركهم فريسة للعطش والجوع والأوبئة.

 

فى احتفالات العيد القومى لبورسعيد وهو نفس تاريخ عيد النصر (23 ديسمبر) على العدوان الثلاثى عام 1956، وتم الحديث عن قرار بعودة تمثال ديليسبس إلى بورسعيد، وذلك بهدف تنشيط السياحة فى المدينة.

 

فى نقابة الصحفيين، ومن خلال اللجنة الثقافية التى يرأسها الزميل محمود كامل، قام الزميلان نور الهدى زكى وعلى القماش بتنظيم ندوة بعنوان «لا لعودة تمثال ديليسبس إلى مدخل قناة السويس»، شارك فيها د. على مصطفى الحفناوى، الباحث المتخصص فى تاريخ قناة السويس، وهو نجل الدكتور مصطفى الحفناوى، الذى كان له دور هام فى اتخاذ قرار التأميم، والدكتور أحمد الصاوى، أستاذ التاريخ والآثار، والدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية، والدكتورة آمال عسران ابنة بورسعيد، وابنة بطل المقاومة السيد عسران، والمحامى على أيوب صاحب الدعوى القانونية المرفوعة أمام القضاء ضد عودة التمثال، وشارك بالحضور د. عواطف عبدالرحمن، أستاذ الصحافة المرموقة والمشتبكة دائما مع قضايا وطنها، والصحفى محمد الشافعى صاحب الكتابات المهمة حول المقاومة فى مدن القنال، ود. منال عمر، أستاذ الطب النفسى، وعدد من الصحفيين والفنانين والمهتمين.

 

تصدى هؤلاء المشاركون فى الندوة لتفنيد دعاوى مَن يريدون عودة تمثال ديليسبس وفنّدوها، بالعلم والتاريخ الموثق ردّوا على أكذوبة أن ديليسبس صاحب فكرة القناة والربط بين البحرين الأبيض والأحمر، وأكدوا أنها بدأت فى عصر الفراعنة لدى فرعون مصر سنوسرت الثالث.

 

تمثال فرديناند ديليسبس تم تشييده عام 1899 بعد 5 سنوات من وفاته، بأيدى المثال الفرنسى «إيمانويل فريم» بناء على تكليف من شركة قناة السويس، ليتم وضعه فى المدخل الشرقى للقناة فى بورسعيد فى الاحتفال بمرور 30 عامًا على إنشاء القناة، ويزن التمثال 17 طنًا، ويبلغ ارتفاعه بالقاعدة المعدنية سبعة أمتار ونصف المتر، وهو ينظر لقناة السويس بينما يعطى ظهره لمدينة بورسعيد.

 

الدكتور على مصطفى الحفناوى، قال إن تاريخ قناة السويس هو تاريخ مصر، وإن البحث عن طريق يوصل التجارة القادمة من الهند والصين إلى أوروبا، هو أساس الفكرة، منذ القدم وتكرر مرارًا، منها عندما جاء التجار الإيطاليون إلى مصر وكانوا مسيطرين على تجارة أوروبا، وعرضوا على قنصوة الغورى إنشاء القناة، ولكنه لم يهتم.

 

هذه الفكرة تكرر طرحها، وقد لفتت نظر نابليون بونابرت، لأهمية موقع مصر الاستراتيجى، فكانت الحملة الفرنسية على مصر، وأرسل نابليون مجموعة هندسية لدراسة مشروع القناة، ولكنها أخطأت فى حساب منسوب البحر الأحمر بالنسبة للبحر الأبيض، ما أوجد صعوبة فى تنفيذ المشروع.

 

عندما تولى محمد على حكم مصر طرح عليه مجموعة من حركة (السان سيمونيه) الفرنسية عام 1838 مشروع قناة تربط بين البحرين فى مصر، ولكن محمد على رفض، لأنه رأى أن هذا المشروع سيؤدى لاحتلال بريطانيا لمصر. وبعد تولى الخديو عباس حلمى، ارتبط بفرديناند ديليسبس، ابن ماتيو ديليسبس، الذى كان راعيا لمصالح فرنسا فى مصر، وعيّن فرديناند نائب القنصل فى الإسكندرية، كما أصبح مشرفًا على مطابخ القصر الملكى، وكان عباس قد عهد لفرديناند بتعليم ابنه سعيد الفروسية، وكان يغريه بالأكل الذى يحبه ليلتزم بالتدريب، وقد فضح فرديناند ديليسبس نفسه والوسائل الدنيئة التى استخدمها للسيطرة على الخديو سعيد فى مذكراته، بتشجيعه على شرب الخمر وجلب الفتيات وإرضاء نزواته، يؤكد د. «الحفناوى» أن فرديناند لم يكن يومًا مهندسًا، بل التحق بكلية الحقوق عاما واحدا ولم يكمل دراسته، ولكن مجموعة (السان سيمونيه) طلبت منه إقناع سعيد بإنشاء القنال، وأعطته الدراسة التى أعدتها، فقدمها لسعيد على أنها من صنعه، وطلب منه عدم السماح لهذه المجموعة من دخول مصر، مؤكدا أنهم سيعملون ضد مصر، وحصل على عقد الامتياز الأول لشركة قناة السويس لـ99 عامًا، على أن تقدم مصر العمالة اللازمة لحفر القناة بنظام السخرة، وأقنع سعيد بأنه سيبيع كل الأسهم، ولكنه لم يستطِع واضطرت مصر لشراء 44 فى المائة دون أن يكون لها علاقة بالإدارة، وتكبّدت بالديون، وكان نتاج ذلك الاحتلال البريطانى.

 

مَن يريدون إعادة تمثال ديليسبس، لأنهم يعتقدون أنه صاحب الفضل فى طرح فكرة القناة، هذا ما نفاه قطعيا د. على الحفناوى من خلال سرده للحقائق التاريخية، وما ذكره من بعده محمد الشافعى صاحب كتاب «ديليسبس.. الأسطورة الكاذبة» الذى يؤكد أنه نصاب بحكم صادر من إحدى محاكم فرنسا بحبسه 5 سنوات، لارتكابه جريمة النصب والاحتيال فى مشروع قناة بنما، ولم يسجن فقط مراعاة لتجاوز عمره الثمانين، كما أنه قد أُصيب بالشلل، وأن المهندس الإيطالى النمساوى نيجرلى هو صاحب الدراسة التنفيذية لقناة السويس، وبعد وفاته قام ديليسبس بالاحتيال على زوجته وشراء الرسومات منها بسعر زهيد ونسبها لنفسه، واستطاعت ابنة نيجرلى الحصول على تعويض مادى من ديليسبس وشركة القناة وقتها بحكم محكمة.

 

أما الذين ينادون بعودة التمثال لأنه جزء من تاريخ بورسعيد، فيرد عليهم الدكتور أحمد الصاوى البورسعيدى، بأن عودة التمثال هى فى إطار الحرب على تاريخ مصر، وأن هناك محاولة للعب على الذاكرة المؤقتة، بعيدًا عن الذاكرة الحقيقية، من لأجل تقبل لأمور تمحى ما ترسخ فى العقل من الذاكرة الوطنية، يريدون عودة تمثال لمجرم أثيم باعتراف قضاء بلاده، نصاب سارق بحكم التاريخ، ارتكب جريمة إنسانية بإلزامه بجلب العمالة بالسخرة، وبالتسبب فى إزهاق آلاف الأرواح عطشًا وجوعًا ومرضًا.

 

ومن ثم غاية ما يصبو إليه الراغبون فى التمثال، هو وضعه فى متحف كما هو موجود الآن، وتسجل وتكتب بجانبه القصة الحقيقية.

 

يؤكد «د. الصاوى» أن إعادة الاعتبار للتمثال هى إعادة اعتبار للاستعمار، ولنهب ثروات الأوطان، وتجاهل لتاريخ المدينة الباسلة والمقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثى. فأبطال المقاومة وأهالى بورسعيد هم مَن أسقطوا التمثال؛ بعد أن استفزهم قيام الجنود المعتدين قبل انسحابهم من بورسعيد بتعليق علمى بريطانيا وفرنسا على يدى التمثال. علينا أن ندافع عن هويتنا ومصالحنا الوطنية، والتاريخ علم يؤخذ من مصادره الأساسية، وكرامة مصر وتاريخها ودماء شهدائها خط أحمر لا يجب تخطيه.

 

وأشار «الصاوى» إلى أن ما تردد عن أن جمعية «أصدقاء ديليسبس» الفرنسية رفعت قيمة المبلغ الذى ستدفعه من أجل ذلك من 50 مليون يورو إلى 100 مليون يورو؛ أمر مخجل ومرفوض.. هى رشوة لنمحو تاريخ العزة والكرامة والمقاومة.

 

وكما قال الشاعر أمل دنقل «هى أشياء لا تُشترى»... (التمثال سيجلب السياحة لبورسعيد ومن ثم انتعاش الاقتصاد لأهالى بورسعيد)، هكذا يقول المدافعون عن عودة التمثال، وهكذا ترد عليهم الدكتورة آمال السيد عسران ابنة أحد أبطال المقاومة الشعبية، متعجبة: هل سمعتم عن بلد يذهب إليه السياح لرؤية تمثال؟