كل يوم يمر فى عمر الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى على مدى قرابة 76 عاماً، يثبت بالدليل الدامغ أن رؤية القاهرة الشاملة هى الأجدر على التعامل مع التداعيات المتكررة، والأقدر فى فهم التحديات المتتابعة سواء بين الفصائل الفلسطينية وبعضها بعضاً من جهة أو بين الجانب الفلسطينى وبين دولة الاحتلال من جهة أخرى، والأصوب فى وضع السيناريوهات لإنهاء تلك القضية التاريخية، والأكثر مصداقية بقدرتها فى الحفاظ على الحوار المفتوح مع كل الأطراف المعنية، والأكفأ فى رسم خارطة الطريق لشرق أوسط هادئ، فى ظل ثوابت الدولة المصرية التى لا تتغير ومواقفها التى لا تتبدل، ليس فقط فى محطات العدوان الإسرائيلى الوحشى على غزة فى أعقاب عملية طوفان الأقصى، ولكن بطول جولات هذا الصراع، دائما تقف مصر حائط صد ضد تصفية القضية الفلسطينية، وتعتبر تهجير أهالى غزة خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وتسارع بمساندة الأشقاء على المستويات كافة عند كل محنة، وتقف بجانبهم فى كل نكبة، وتناصرهم بدفع عجلة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة للأمام.
يحسب للدبلوماسية المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، وممثلة فى كل أجهزة الدولة المعنية أنها تحملت ما تنوء بحمله الجبال فى الأزمة الأخيرة خلال 15 شهرا، فقد قادت مفاوضات التهدئة، وأدارت محادثات الهدنة، ورعت مناقشات وقف إطلاق النار بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى بنزاهة تامة، وحكمة بالغة، وخبرة واسعة، وفى الوقت نفسه نجحت فى تجييش المواقف الأممية، والرؤى الدولية لصالح حتمية وقف الحرب الغاشمة، ومواجهة مجازر الإبادة الجماعية، وضرورة العمل دوليا وأمميا على التوصل إلى توافق محدد، لإنهاء المأساة الإنسانية الحالية، وإحياء مسار السلام بداية من ضمان التدفق الكامل والآمن والمستدام، للمساعدات الإنسانية لأهل غزة ثم وقف إطلاق النار، والتحرك السريع لإحياء عملية السلام من أجل الوصول إلى «حل الدولتين»، وفقا لمقررات الشرعية الدولية مع العمل بجدية على تدعيم السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية، للاضطلاع بمهامها، بشكل كامل فى الأراضى الفلسطينية.
والمتابع لتطورات «حرب غزة» وأيامها الثقيلة، ولياليها المرهقة، وشهورها الدامية يدرك بدون عناء أن القاهرة سبقت الجميع فى التنبؤ بالمستقبل، وحذرت من العواقب، وأدركت مبكرا الخسائر من الطرفين، كما توقعت حتمية توسيع دائرة المعارك وانتقالها كالقطط المشتعلة من دولة لأخرى فى حالة استمرار العمليات العسكرية لجيش الاحتلال، ولو كان هناك رجل رشيد فى الحكومة الإسرائيلية تنبه لمخاطر جنون نتنياهو وعصابته الحاكمة، وتدبر كلمات الرئيس السيسى فى «قمة القاهرة للسلام» فى 21 أكتوبر 2023، وما بعدها من مؤتمرات حول غزة، لكانت هذه الحرب وضعت أوزارها فى مهدها، وأنُقذ الفلسطينيون من هذا الدمار الكارثى، وتلك الإبادة الملعونة فى كل كتاب، وفى ذات الوقت حمى أرواح الإسرائيليين سواء كانوا جنودا فى المعارك الميدانية أو محتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، وتعرضوا للموت خلال عمليات قصف جيش الاحتلال المكثف للأخضر واليابس بلا رحمة أو ضمير، بل كانت منطقة الشرق الأوسط كلها ستنجو من ويلات هذه الحرب الظالمة.
الجهود المصرية لم تتوقف يوما واحدا من أجل التعجيل بوقف إطلاق النار مع مواصلة نهر المساعدات الإنسانية للأشقاء المحاصرين فى قطاع غزة، وتتابعت رسائل الرئيس السيسى لوضع الأمور فى نصابها، وقطع الطريق على مؤامرة مجرم الحرب نتنياهو ورفاقه بن غفير وسموتريش ومن سار على نهجهما الخبيث لتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد، وتهجير أهالى قطاع غزة إلى سيناء، ومن العبارات الجامعة المانعة فى «قمة القاهرة للسلام» للرئيس السيسى: «أؤكد للعالم بوضوح ولسان مبين، وبتعبير صادق، عن إرادة وعزم جميع أبناء الشعب المصرى فردًا فردًا: «أن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث وفى كل الأحوال لن يحدث على حساب مصر»، وبالخبرة المصرية الطويلة والمواقف الثابتة تاريخيا، قال الرئيس السيسى: «إن حل القضية الفلسطينية، ليس التهجير وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى؛ بل إن حلها الوحيد، هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة».
ولم تتزحزح القاهرة قيد أنملة عن موقفها الراسخ كالجبال فى المطالبة بالوقف الفورى لإطلاق النار فى غزة تمهيدا لفتح الأبواب أمام مفاوضات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما تجسد فى نقاط حاسمة حددها الرئيس السيسى بالقمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية بالمملكة العربية السعودية فى 11 نوفمبر 2023، عندما طالب المجتمع الدولى بتحقيق 6 شروط بشكل جاد وحازم، هى الوقف الفورى والمستدام لإطلاق النار فى القطاع بلا قيد أو شرط، ووقف الممارسات كافة التى تستهدف التهجير القسرى للفلسطينيين إلى أى مكان خارج أرضهم، والاضطلاع بمسئولية ضمان أمن المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطينى، والنفاذ الآمن والسريع، والمستدام، للمساعدات الإنسانية وتحمل إسرائيل مسئوليتها الدولية باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، والتوصل إلى صيغة لتسوية الصراع، بناء على «حل الدولتين» وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها «القدس الشرقية»، وإجراء تحقيق دولى فى كل ما تم ارتكابه من انتهاكات ضد القانون الدولى.
وقد التزمت الدبلوماسية المصرية والمفاوض المصرى هذا الطريق المستقيم منذ اليوم الأول للأزمة فى عشرات المؤتمرات والمحافل الدولية ومئات اللقاءات الثنائية والاتصالات الهاتفية وآخرها المكالمة التى تلقاها الرئيس السيسى، الثلاثاء الماضى، من الرئيس الأمريكى جو بايدن، وفى ظنى أنها كانت الضربة القاضية لمماطلات حكومة الاحتلال فى التهرب من جهود الوساطة المكثفة التى تقوم بها مصر والولايات المتحدة وقطر، وشدد الرئيس السيسى خلال هذا الاتصال على ضرورة التوصل إلى اتفاق فورى لوقف إطلاق النار من أجل وضع حد للمعاناة الإنسانية الخطيرة التى يعانى منها المواطنون فى القطاع، ولإدخال المساعدات الإنسانية لهم دون قيود أو عراقيل، وهو ما تحقق على أرض الواقع فى بنود الاتفاق النهائى بمراحله الثلاث.
والمؤكد أن القاهرة كانت مهبط الوفود من الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى لهندسة ملامح التوافق بين الجانبين سواء فى الهدنة الإنسانية الأولى التى تمت فى نوفمبر 2023 للإفراج عن 50 رهينة محتجزة لدى فصائل المقاومة مقابل الإفراج عن 150 من الأسرى الفلسطينيين على مدار 4 أيام، وحتى الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
ومن المعلوم بالضرورة أن القاهرة تسلحت بالنفس الطويل، وبعد النظر، والمصداقية الثابتة خلال ملحمة جهودها المتواصلة بالتنسيق مع الولايات المتحدة وقطر لوقف إطلاق النار بغزة، وكان الاقتراح المصرى، الذى قدمته القاهرة فى 27 مايو الماضى، يشكل الأساس للاتفاق الأخير، وهو ما يوضح الدور المصرى المبكر فى دفع مسار الحل، والمساعى المستمرة لإنجاح المبادرة بالتشاور المكثف مع جميع الأطراف، عبر جولات متعددة فى القاهرة وخارجها، وقد تميز الجهد الوطنى بقدرته الفريدة على تقديم رؤية شاملة مبنية على المصلحة الفلسطينية، مع الحفاظ على الحوار المفتوح مع جميع الأطراف المعنية، وليس الاقتصار على طرف بعينه، وهذه المصداقية مستمدة من ثوابت مصرية لم تتغير منذ بداية الأزمة، كما أن القاهرة تتحرك فى تعاملها مع قطاع غزة من منطلق أنها منطقة جوار مباشر وهو ما ينعكس بشكل إيجابى على الفهم العميق والدقيق لواقع القطاع وتفاصيله.
وينبع توافق الشارع الفلسطينى، وليس قيادات الفصائل فقط مع الموقف المصرى المحترم والمحترف خلال مهمة إنقاذ غزة، وعملية إدارة مفاوضات وقف إطلاق النار، من الثوابت الراسخة، والمبادئ الأساسية التى تحرص على ضمانها دبلوماسية القاهرة، ولا ترضى عنها بديلا مهما كثرت الصعوبات الفلسطينية، أو تعددت العراقيل الإسرائيلية، وهى حقن دماء الشعب الفلسطينى وضمان حياة كريمة له كما حدث على مدى الشهور الماضية بمواصلة المساعدات الإنسانية برا وبحرا وجوا عندما دمر جيش الاحتلال معبر رفح من الجانب الفلسطينى، وسيطر عليه لقطع ما اتصل من المعونات المصرية وبمشاركة كل الجهات الرسمية والأهلية بمعدل أكثر من 80 فى المائة من إجمالى المساعدات التى دخلت إلى القطاع، وها هى الشحنات المصرية تتسابق فى الدخول لغزة بعد سريان وقف إطلاق النار، إلى جانب إصرار المفاوض المصرى على الحفاظ على الوحدة السياسية والجغرافية الفلسطينية، والتصدى لأية مخططات من جيش الاحتلال للتآمر على هذا المبدأ، مع الالتزام المصرى بالشرعية الفلسطينية، ودعم المؤسسات القائمة وتقوية شوكتها فى مواجهة مؤامرات الاحتلال، فضلا عن تقديم الأولوية لمصلحة الشعب الفلسطينى بالمحاولات المستميتة لتوحيد صفوف الفصائل من أجل القضية الفلسطينية فى المقام الأول، ووأد الخلافات التى تلعب على وترها إسرائيل لتأجيل حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلة.
ويكفى الدبلوماسية المصرية صاحبة السيرة المشرفة، والسمعة الطيبة فى مساندة القضية الفلسطينية تاريخيا بكل الأدوات ومختلف السبل أنها خلال 15 شهرا نجحت فى فضح السردية الإسرائيلية بأن شعبها مستهدف من الدول العربية والفلسطينيين، وكشف تل أبيب للرأى العام العالمى كقوة احتلال، تمارس سياسات العقاب الجماعى ضد المدنيين الأبرياء، وتورط جيشها التتارى وحكومتها الفاشية بالصوت والصورة فى جرائم الحرب والإبادة، بالإضافة إلى منع تصفية القضية باعتبارها قضية القضايا، وإعادة إحياء حل الدولتين عالميا، كما تحلى المفاوض المصرى بالصبر على المكاره الإسرائيلية التى أدمنت نسج الأكاذيب وصناعة الشائعات حول دوره العظيم فى جولات التفاوض بهدف إبعاده عن استكمال المسيرة، ومغادرة ركب المباحثات على غرار ما حصل من بعض الأطراف حتى تستمر الحرب، ويتواصل التدمير، لكن بحسن تدبير رجالنا الأقوياء، ورباطة جأشهم، وهدوء أعصابهم تحقق المراد، وانتهى العدوان.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها ومؤسساتها الوطنية من كل سوء.