أبطال لا تنطفئ ذكراهم، وشموع أضاءت دروب الأمن والاستقرار، شهداء الشرطة المصرية الذين نقشوا أسماءهم بمداد من ذهب فى تاريخ الوطن. كانوا حائط الصد أمام أيادى الغدر، وقدموا أرواحهم فداءً لأمننا وكرامتنا. أحياء عند ربهم يرزقون، ومخلدون فى قلوب أحبائهم ووطنهم. فى كل زاوية من أرض مصر، يتردد صدى بطولاتهم، مؤكداً أن التضحية سبيل الأحرار، وأن دماءهم الزكية كانت ولا تزال جسراً نعبر عليه نحو مستقبل آمن ومستقر.
يتقاسم الشهداء العديد من الصفات الحميدة التى تميزهم جميعا، وخير مثال على ذلك الشهيد البطل محمود أبو العز الذى كان مشهودا له بالجد والاجتهاد وحبه لأعمال الخير وفطنته فى التعامل مع الأمور. تروى والدته أحلام محمد وكيل وزارة التربية والتعليم السابق، تفاصيل عن حياته وقصة استشهاده، تقول: تحمل الشهيد البطل المسئولية منذ نعومة أظفاره، فقد توفى والده وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، تلك المسئولية التى يسَّرت الكثير عليه فى حياته العملية، فكان مثالا للانضباط والالتزام، وكان يضع عمله على رأس قائمة أولوياته لذلك كان يظل حتى ساعات متأخرة من اليوم يتابع العمل.
تضيف والدة الشهيد: «وقته كله كان للشغل، مكنش بيحب اد شغله»، تشرد بذهنها تتذكر كيف كان ابنها بارا بها وبأخوته، فكان يحب والدته كثيرا ويحرص دائما على راحتها وسعادتها، تروى بصوت باكٍ وعيون تملؤها الدموع: «حسيت بالفراغ بعد ما استشهد»، فلم يكن البطل متزوجا، لذا قضى كامل عمره إلى جوار والدته.
تنظر إلى صورته المعلقة إلى جوار عدد من شهادات التقدير التى حصل عليها خلال مسيرته فى صفوف قوات الشرطة، وتقول: «كان يجهز لزواجه قبل استشهاده بثلاثة أشهر»، مضيفة أن الفترة التى سبقت استشهاده مباشرة كان البطل يحاول أن يستغل الأوقات التى كان يحصل فيها على أجازة من أجل الانتهاء من تجهيز مسكن الزوجية وتجهيزات عقد القران إلا أن رصاص الغدر نال من طموحات وآمال الشهيد البطل قبل شهور معدودة على زواجه.
وتروى والدة الشهيد حادثة استشهاده التى كانت فى مارس 2013، وليلتها كان وجهه يشع نورا كالبدر وهو نائم قبل أن يتوجه لعمله، وكانت هناك مجموعة من المجرمين استغلوا فترة الانفلات الأمنى الذى كانت تمر به مصر، وحاولوا سرقة أحد البنوك، وعلى الفور تحرك البطل الشهيد رفقة القوة المكلفة بتأمين البنك، وأثناء ذلك كانت هناك مجموعة من الأفراد يستقلون تاكسى أجرة ومشكوك فى أمرهم فاستوقفهم الشهيد سائلا عن بطاقاتهم والتراخيص ولم يبدِ السائق اعتراضا، بينما قام الشخص المجاور له بإشهار سلاحه وأطلق على الشهيد عدة أعيرة نارية أسقطته شهيدا على الفور.
“أحلام» كرمها الرئيس السابق عدلى منصور بدرع الأم المثالية عقب استشهاد محمود، كما تلقت أكثر من 200 درع تكريم للشهيد البطل، كما سافرت لأداء فريضتى الحج والعمرة أكثر من مرة.
أحلام تؤكد أنها دائما ما تشعر بأن تضحية ابنها لا زالت حاضرة ولم تنس، خاصة عندما يتحدث الرئيس السيسى عن الشهداء فى مختلف المناسبات والأحداث، فهو لا ينكر أبدا أنهم كانوا سببا رئيسيا فيما وصلت إليه الدولة حاليا.
وتشير إلى أن مستوى اهتمام الدولة حاليا بأسر الشهداء أو المصابين لم يحدث مسبقا، وذلك لأن الرئيس شخصيا يوجه دائما بضرورة الاهتمام بأمرهم ومتابعة أحوالهم بصفة مستمرة.
شهيد الشهامة
“كان يُكنّ قدرا كبيرا من الحنان تجاه أبنائه».. هكذا تصف منى جعفر زوجها الشهيد المقدم مهندس أحمد أبو الدهب خلف، موضحة أن أسرته كانت شديدة التعلق به، فقد كان يخصص وقتا للعب واللهو مع أبنائه خلال فترة تواجده بالمنزل، لذلك كان أبناؤه دائما ما ينتظرون عودته، مؤكدة أنه كان يتقى الله فى كل تصرفاته.
بصوت حزين تتذكر منى كيف كان الشهيد البطل محبوبا من كل أهله وأصدقائه ومعارفه، فلم يكن يتوانى أبدا عن خدمة كل من يطلب مساعدته بقدر استطاعته، وكان أيضا بارا بأمه لا يترك فرضا من الفروض إلا ويؤديه فى أوقاته.
وعن لقب شهيد الشهامة، تشير منى إلى أن هذا اللقب يستحقه البطل ليس فقط لملابسات واقعة استشهاده، ولكن أيضا لأنه كان بحق يقدم كافة أشكال الدعم والسند سواء لأسرتها وزملائه فى العمل أو أقربائه أو حتى أصدقائه.
وترى منى أن أبناء الشهيد البطل قد ورثوا منه العديد من الصفات والخصال، فللشهيد البطل 4 أبناء «محمد، لوجين، بيسان، مصطفى»، يطمحون فى أن يكملوا مسيرة والدهم بأن يصبحوا ضباط شرطة ليدافعوا عن البلاد والمواطنين، مضيفة أنهم كلما تقدم بهم العمر زاد تعلقهم بوالدهم وازدادوا رغبة فى أن يصبحوا ضباطا بالمستقبل.
كان البطل خريج كلية الهندسة جامعة الأزهر الشريف والتحق بأكاديمية الشرطة بعد تخرجه وعمل منذ تخرجه بالإدارة العامة لمكافحة المخدرات مفتشا بقسم المساعدات الفنية حتى عام 2010، وتدرج حتى أصبح رئيس قسم المساعدات الفنية حتى عام 2012 ثم عمل بإدارة الاتصالات وغرفة العمليات حتى 2013 ثم تم نقله لمديرية أمن الجيزه قبل وفاته بأسبوع، نال الشهادة فى 26 سبتمبر 2013 على أيدى ثلاثة بلطجية مسلحين نتيجة مدافعته عن فتاتين.
تروى زوجته أن البطل كان يشعر بأنه سيستشهد ذلك اليوم، فقد بدت تصرفاته على غير عادته اليومية، ففى وداعه لهم ذلك اليوم كان وداعا مطولا كما لو كان يشعر بأنها المرة الأخيرة التى سيراهم فيها، تقول: «بعدما خرج من باب البيت ووصل عند الأسانسير رجع لى مرة تانية وكأنه بيقولى إن دى آخر مرة هشوفه فيها وكأنه بيودعنى ووصانى بالولاد وقالى خدى بالك من نفسك ومن الولاد”.
وعن تفاصيل تلقيها خبر الاستشهاد، تروى منى أنها تلقت منه مكالمة هاتفية بعدما أنهى عمله وأخبرها أنه عائد إلى البيت، إلا أنه بعد دقائق معدودة من تلك المكالمة استقبلت واحدة أخرى، لكنه لم يكن المتصل بل أحد المارة ممن شاهدوا البطل عقب استشهاده ليخبرهم أن الشهيد سقط جريحا.
تصف زوجة البطل اللحظات التى علمت فيها بتنفيذ حكم الإعدام على قتلة البطل بأنها أكثر اللحظات راحة منذ أن استشهد زوجها، فقد علمت بأن حقه ودمه لم يذهب هباء.
تضحيات رجال الشرطة
مرت الدولة المصرية بفترات مظلمة عقب إزاحة جماعة الإخوان الإرهابية من الحكم، فزادت حدة الهجمات الإرهابية التى استهدفت شخصيات بارزة كالنائب العام ووزير الداخليه وغيرهما، وقد استشهد البطل المقدم محمد سويلم بشرف وهو يتصدى لمحاولة إرهابية غادرة كانت تستهدف وزير الداخلية الأسبق.
تصف ريهام فوزى وقع تلك الفترة على زوجها قائلة «مشفتهوش قلقان كدا على البلد زى الفترة دى»، فقد كان محبا لوطنه لدرجة كبيرة، فكيف لا وقد كان أحد جنودها البواسل الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أمنها دفاعا عن وطنهم الغالي.
استشهد البطل يوم 26 مارس 2015م وقد تدرج فى المناصب خلال فترة عمله بالشرطة حتى تولى منصب رئيس مباحث قسم الجناين بمحافظة السويس. تروى زوجته واقعة استشهاده حيث كان هناك هجوم على أحد الكمائن بمحيط منزل وزير الداخلية الأسبق، وحينها كان البطل محمد سويلم ضمن القوة التى تعاملت مع الإرهابيين المهاجمين واستشهد خلال تبادل لإطلاق النار، وتمكن من إسقاط أحد الإرهابيين الثلاثة قبل استشهاده.
تشيد «ريهام» بإصرار زملائه بالداخلية على القصاص لاستشهاد البطل من خلال سرعة ضبط الإرهابيين الآخرين بعد هروبهما وتقديمهما للمحاكمة؛ لينالا جزاءهما العادل، وكان منهما الإرهابى عبد الرحمن الجبرتى والذى تم إعدامه بعد محاكمته ليثلج صدر زوجته وصدر أهله وأحبائه وزملائه.
وتشدد زوجة البطل على أنه لولا تضحيات رجال الشرطة لما استتب الأمن فى كل أرجاء الدولة كما هو حاليا، فقد واجهوا الإرهاب الغاشم الذى كان متغلغلا فى كافة أنحاء الدولة بكل شرف وشهامة وشجاعة، وكان الشهيد دائما ما يؤكد لها على ذلك قائلا «هنعيش فى أمان يعنى هنعيش فى أمان» تأكيدا على رغبته وزملائه على حماية الوطن والحفاظ على المواطنين وأمنهم، واستعادة الوطن أمنه.
وتشيد «ريهام» بدعم كل أجهزة الدولة لأسر الشهداء بداية من الرئيس عبد الفتاح السيسى وحرصه على التواصل الدائم معهم خلال المناسبات المختلفة تقديرا منه لتضحياتهم ودمائهم، كما تقوم وزارة الداخلية بتقديم كافة صور الدعم والمساندة لكافة أسر شهداء الشرطة.
العبور لبر الأمان
“بطولات الشرطة المصرية عبرت بمصر لبر الأمان».. تروى هبة عبد الباسط زوجة الشهيد عقيد خالد زعفان أنها كانت حاملا فى ابنهما الأصغر ياسين وقت استشهاد والده، واليوم يبلغ من العمر عشر سنوات والتحق بالمدرسة مع أخيه الأكبر، إلا أنه دائم السؤال عن بطولات والده الشهيد ويستمع عن حكاياته بإنصات، وهنا تشيد باهتمام الدولة الدائم بأسر الشهداء خاصة وزارة الداخلية التى تحرص على التواصل معهم خلال المناسبات المختلفة، كذلك يقوم الكثير من أصدقائه وزملائه بزيارة الأبناء ومرافقتهم فى أول يوم من كل عام دراسى حتى يشعروا بالفخر بما قدمه والدهم من تضحيات فى سبيل الوطن، مع إقامة حفلات ورحلات لأبناء الشهداء وسرعة تلبية كل طلبات زوجات وأسر الشهداء، قائله «لما استشهد زوجى كنت لسه حامل فى الشهر الأول ولما ابنى اتولد كانت الوزارة معايا وبتدعمنى فى كل خطوة محستش إنى لوحدى خالص”.
الموت حبًا فى «الواجب الوطنى»
«الأب يرفض التحاق ابنه بكلية الشرطة.. طفلة صغيرة تخشى الاقتراب منه.. وتكريم للابنة فى طابور الصباح مع بداية كل عام دراسى».. ثلاثة مشاهد فارقة فى تاريخ أسرة البطل الشهيد أحمد البلكى، الذى ينتمى إلى عائلة شرطية من الدرجة الأولى، فالأب والعم ضابطا شرطة، وهو ما كان دافعًا لديه لأن يراوده حلم ارتداء «البدلة الميرى» منذ نعومة أظفاره.
كبر الطفل «أحمد»، ومعه كان يكبر حلمه بالالتحاق بكلية الشرطة، حتى جاءت اللحظة الحاسمة وتخرج فى الثانوية العامة، ليخبر والده برغبته فى الالتحاق بكلية الشرطة، غير أنه فوجئ برفضه القاطع، مبررًا خوفه هذا بخشيته عليه مصاعب المهنة، فما كان من «أحمد» إلا تنفيذ رغبة والده ليلتحق بكلية التجارة، وإن كان لم ينسَ حلم «الشرطة»، وأمام إلحاحه المستمر لم يجد الأب حلًا إلا تنفيذ رغبة ابنه الذى اجتاز اختبارات الالتحاق بجدارة.
التحق «أحمد» بكلية الشرطة، ليحقق حلم الطفولة، مرت الأيام وتخرج برتبة «الملازم أول»، وفى العام 2011 تزوج «أحمد»، بينما كانت مصر تشهد أحداثًا استثنائية، كانت تلك من أصعب الأيام التى مرّ بها حيث افتقد النوم خوفًا من المستقبل المجهول للبلد بأكمله، وبالأخص عندما رزقه الله بطفلة كان خائفًا عليها من القادم.
ذات يوم ذهب إلى مأمورية فى بحيرة المنزلة استغرقت عدة أيام، وعندما عاد إلى المنزل أحضر «عروسة» لعبة لطفلته، ولكنه فوجئ أنها خافت منه ولم تتعرف عليه لأنه تأخر عنها بضعة أيام، وهو ما دفعه لأن يدخل فى نوبة بكاء شديدة تأثرًا بالموقف.
«رباب»، زوجة البطل الشهيد أحمد البلكى، التى روت المواقف السابقة، أضافت: مرت الأيام حتى جاء يوم أذكر أنه قال لى «أنا رايح مأمورية بورسعيد» وعلمت منه أن اسمه لم يكن ضمن المدرجين فى هذه المأمورية، إلا أنه طلب من رئيسه فى العمل أن ينضم لقائمة أسماء الضباط المكلّفين، وذلك لحبه الشديد لعمله، وبالفعل وافق القائد وفى يوم الخميس الموافق 24/1/2013 طلب منى أن أعتنى بطفلتنا قائلًا: «لو مرجعتش متزعليش وخلى بالك من لى لى.. أنا هبقى فى مكان أحسن».
وتابعت: توجه «أحمد» إلى طريقه إلى بورسعيد لتأمين السجن، وفى صباح السبت 26/1/2013 العاشرة والنصف، جاءت الأخبار بصدور حكم بالإعدام على 21 شخصًا مشتبهًا فيهم فى الأحداث، وفوجئت بالتلفزيون يعلن خبر استشهاد النقيب أحمد البلكى، خرج أحمد لتأمين السجن بعد سحب السلاح منه ومن زملائه، ذهب أحمد إلى الموت وحيدًا أعزل، ذهب أحمد وترك طفلة عمرها سنة وأسبوعان، وعزاء أسرته الوحيد أن نحتسبه شهيدا فى جنة الخلد، فقد كبرت «لى لى» ابنة الشهيد أحمد البلكى، وأصبحت ذات الـ14 عاما الآن، وتُكرَّم كل عام بمدرستها فى ( يوم الشهيد)، ويحضر زملاء الشهيد وأصدقاؤه ليشاركوها هذه اللحظات احتفاءً بذكرى والدها والذين دائما ما يتذكرون مواقفه الشجاعة ودماثة خلقه ووطنيته الشديدة وحبه وتفانيه فى عمله. ورغم حزنها وانكسارها المختبئ لفقدانها حضن أبيها، فإنها رغم ذلك تظهر فخرا وقوة وثقة بالنفس وأيضا تفوق دراسي.
وأكملت: ابنتى وهى صغيرة كانت دائما تسألنى خاصة عند رجوعها من المدرسة وهى فى أول سنة بالمدرسة «فين بابا».
وأردفت: كنت حريصة أن أخفى عنها تاريخ الاستشهاد حتى لا يكون لها ذكرى حزينة فى حياتها، خاصة أنها لم تشبع من حضنه، ولكن مع مرور الوقت
استطاعت أن تبحث فى الإنترنت وفهمت الحكاية وحفظت تاريخ الاستشهاد.