رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ذكريات عبرت مع قطار مفعم بالأمل!! «نوستالجيا» شاب منوفى ساذج يحسب كل شيء أحمر صندوقا للبريد!!


26-1-2025 | 23:48

ذكريات عبرت مع قطار مفعم بالأمل نوستالجيا شاب منوفى ساذج يحسب كل شيء أحمر صندوقا للبريد

طباعة
بقلم: حمدي رزق

حلمت صبيا يافعا يطالع دروسه المدرسية على شريط القطار (البطال) بطيب الذكر عميد الصحافة الخبرية الأستاذ «مصطفى أمين» صاحب الكتابة الناعمة فى عموده اليومى «فكرة» بصحيفتى المفضلة «الأخبار».

 

والشريط البطّال هو الشريط الاحتياطي، لا تطأه عجلات القطارات إلا فى الملمات (الكوارث)، وللتخزين عادة إذا تزاحمت القطارات على الخط الرئيس الذى يربط مدن ومراكز محافظة المنوفية بالقاهرة.

وكأنه كان معبدا لأمثالنا من الطلاب المجتهدين، نذاكر ونحن نتمشى عليه جيئة وذهابا، تقريبا نقطع مابين منوف وشنوان القريبة، كيلومترات طويلة قطعناها دون كلل ولا ملل.. ومن كتبت عليه خطى مشاها..

 

حلمت كثيرا بركوب القطار إلى القاهرة، لعله يحملنى يوما إلى دار «أخبار اليوم» إلى مكتب العميد «مصطفى أمين».

 

وصلت القاهرة باكرا فى عمر الـ 18، وسبحان الله لم ألتقه، فات القطار، رحل قبل أن ألقاه، الله يرحمه ويبشبش الطوبة اللى تحت رأسه، جزاء وفاقا على الحلم الذى تحقق لشاب جاء إلى القاهرة ع فطرته.

 

كنت مثل قروى ساذج يحسب كل شيء أحمر صندوقا للبريد، يفكرك بـ«إمام» فى فيلم «شباب امرأة» وهذا على سبيل الإنصاف ورد الاعتبار لطيب الذكر «شكرى سرحان» الله يرحمه.

 

ولم يغادر القطار مخيلتى حتى ساعته، قطار المنايفة، بحق قطار الغلابة، لا يأمه سوى الموظفين والعمال البسطاء فى طريقهم إلى لقمة العيش فى القاهرة التى يسمونها، (مصر)، يجمعهم القطار يوميا فى مواعيد محفوظة تبدأ فجرا وتنتهى ليلا، يقضون فى القطار القشاش وقتا مستقطعا من أعمارهم.

 

صارت بينى وهذا القطار علاقة شكر وامتنان هو من حملنى إلى القاهرة يافعا طامحا إلى النور من ظلمة الفقر التى تعشش فى بيوت المنوفية، ويتغلبون عليها بالوظائف الميرى ذات الدخول الشهرية المنتظمة، وإن كانت شحيحة مربوطة على الدرجة الثامنة والناس درجات.

 

وصار لافتا حكمة المنايفة «إن فاتك الميرى اتمرمغ فى ترابه»، ومن هذا التراب نبه من النباهة من أرض المنوفية السوداء، أشجار سامقة فى سماء القاهرة، علماء ورؤساء، ومفكرون وقادة جيوش، وفنانون وصحفيون وممثلون، نبغوا نبوغا يحسده عليهم نوابغ المحافظات الأخرى..

 

¿ ¿ ¿

 

فى مسيرة كل منا قطار يجرى فى حلمه، يحمله إلى محطات حياته، البعض أخفق فى ركوب قطاره، وبعضهم لحق بالعربة الأخيرة، «السبنسة»، ويقينا نفر منهم، من النوابغ ركب قطار خمسة إلا تلت فجرا مثلى، ونشفت عظامه من برد طوبة ينخر فى العظام الناتئة لا يحميها من الصقيع باب قطار ولا شباك.

 

قطار (منوف - القاهرة) زمان على أيامنا الحلوة، قبل القطارات المجهزة السريعة التى اختطفت البراءة من فرط سرعتها، كان يسمى «القطر القشاش»، عادة منسى على الرصيف الأخير فى محطة القاهرة العريقة بجرار عتيق، وعربات كانت من « سواقط القيد» فى سجلات هيئة السكك الحديدية.

 

والمنايفة عادة راضون حامدون شاكرون، ودعاؤهم فى غبشه الفجر اللهم احفظها نعمة من الزوال..

 

أجيال وراء أجيال ركبت هذا القطار، على الدرب سائرون، هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وهم وجدوا عليه أجدادنا، ومن جدود الجدود والقطار يقطع المسافة بين منوف إلى القاهرة بتؤدة لا يسرع أبدا، يمر الهوينا بشنوان واشمون والحلواصى، يسمونها ضاحكين من بين أسنانهم الصفراء من أثر التدخين، «الحلو - اسى»، من القسوة المحببة.

 

ويمر على مهل مخترقا الحقول المندية بندى الفجر، وقعه ثلجيا على الكعوب المكشوفة مغروزة فى الطين، طين الغيط على كعابه، يفرد الفلاح الطيب طوله من ثنية الظهر المحنية على الفاس العتيق، ينظر إلى القطار الذى يمر عليه، يصبح على أولاده فى يحملهم القطار إلى حيث لا يدري، ينظر إلى رؤوسهم الصغيرة تطل عليه بصباح الفل من خلف بقايا زجاج مهشم، يتمنى لهم السلامة، القلب داعي لك، ينتظرهم فى العودة بعد يوم عمل شاق فى مصر.

 

¿ ¿ ¿

 

رواد القطار نفر منهم كانوا مثلى طامحين بلوغ عنان سماء العاصمة، الغالبية بسطاء يطلبون فتات الرزق من بقايا القاهرة، علاقتهم بالقاهرة ليس فيها حب ولاكراهية، فقط فيها برجماتية بسيطة، القاهرة الباهرة المبهرة النداهة مصدر الرزق (من بعد الله تعالى) وهم طالبو الرزق، والرزق فى البكور.

 

يبكرون فى الوصول إلى القاهرة، يصلونها السابعة صباحا قبل أن يفيق أهلها من نومتهم الثقيلة، يشعلونها نشاطا، المنايفة كعادتهم شغيلة، أقصد المنوفى فى أية شغلانة يتقنها، ويطلب الأجر والثواب من الله..

 

غالبية ركاب قطار منوف - القاهرة من البسطاء، ضاقت بهم الأرض الضيقة، القصبات من الطين (الحيازة فى المنوفية بالقصبة لا بالقيراط ولا بالفدان)، لا تكفى تعليم العيال، ترك أبو العيال حتة الأرض لزوجته الفلاحة النابهة فى علوم الفلاحة وأصولها المرعية منذ فجر الدولة الفرعونية، تحزم وسطها كالرجال، تعزق، وتخضر، وتبذر، وتروى بالطنبور، يسعى هو على رزقه فى القاهرة، وتسند هى ظهره وتربى العيال..

 

يرضى المنوفى بقليله، لا يأنف عملا، سعاة، عمال نظافة، سكرتارية، كتبة، والنابه منهم محاسب وكاتب ورئيس مصلحة، والشاطر شاطر جدا بدرجة ممتاز، وبينهم طابور من رؤساء المصالح والوزراء والهيئات، جميعا يتحركون بوازع من ضمير وحرص على المصلحة العليا.

 

مثل شعبى لافت فى حق المنايفة، «المنوفى لا يلوفى حتى لو أكلوه لحم الكتوفى»، وهو مثل طيب يؤشر على توقى المنوفى المجاملة على حساب المصلحة العامة، فهو لا يجامل فى حق حتى لو كان ثمن المجاملة من لحم الكتوفى، وهو أغلى اللحوم، من الكتف..

 

¿ ¿ ¿

 

قطار منوف الذى فجره إخوان الشيطان يومًا عقابًا للمنايفة على إسقاطهم رئيسهم «مرسى العياط» وإخوانه، كان حكاية تروى، برز المنايفة رجالا، صفا واحدا ضد الإخوان، حتى فى أعتى لحظات العتمة الإخوانية، رفضوا دستور الظلام، وصوتوا للفريق أحمد شفيق ابن المؤسسة العسكرية الوطنية، وشكلوا صفا متينا آنذاك، وقفوا وقفة حب مع القائد السيسى المخلص (المنقذ) وثورة 30 يونيو..

 

فى كل وقفات الوطن كانوا رجاله ووقفوا وقفة رجاله، ولم يفت فى عضدهم تفجير مجرم، ولم يوقف قطارهم المحبوب إلى القاهرة، ولم يثنهم عن طلب الرزق دماء نزفت على محطة منوف غدرا، زادتهم إيمانا بموقفهم فى ظهر الدولة المصرية، وعادوا يمتطون القطار فى رحلة السعى على لقمة العيش.