فى خطاب الوداع، الذى ألقاه قبل أن يغادر البيت الأبيض الرئيس الأمريكى جو بايدن، تحدث عما أسماه بـ«المعلومات الزائفة» التى تقدم عبر السوشيال ميديا، وحذر من تلك المعلومات لأنها تهدد «شباب الأمة الأمريكية» وطالب بمحاربتها، استغرق الخطاب حوالى 15 دقيقة، وكان لافتا أن يتوقف «بايدن» عند هذه القضية، وأن يلح على ضرورة التصدى لها ومواجهتها.
ما أسماه بايدن بالمعلومات الزائفة هو ما يطلق عليه عندنا «الشائعات».. وقد سبق للرئيس السيسى أن نبّه إلى خطورة الشائعات التى تصب علينا، فى سنة 2022 تم رصد (80 ألف شائعة) بُثَّت فى أقل من ثلاثة أشهر، ولم يتوقف سيل الأكاذيب إلى يومنا هذا.
فى كل دولة وكل بلد هناك شائعات، ذلك أنها حالة إنسانية، فى جانب منها ترتبط بفضول البعض وميل آخرين إلى النميمة ورغبة نفر من الناس فى الثرثرة، وتلك هى الشائعات التى يمكن أن نضعها فى خانة «حسن النية» أو البراءة الإنسانية، لكن هناك شائعات أخرى تنبع عن العداء والكراهية والرغبة فى الهدم والتخريب، هدم إنسان ما يكون خصمًا لأحد أو هدم دولة بأكملها ودفع مجتمع نحو الانهيار، وهذا ما كان يُطلق عليه حتى وقت قريب بـ«الحروب النفسية»، وقد عانينا منها كثيرا، خاصة بعد هزيمة يونيو سنة 1967 لم تعد تسمى الآن حروبا نفسية، بل الحروب السبرانية، تعمل التكنولوجيا الحديثة على التوسع فيها وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعى.. وإذا كان رئيس الولايات المتحدة شكا من تلك الموجة وقدم توصية قبل أن يغادر البيت الأبيض بضرورة مكافحتها فماذا عن دول أخرى ليست فى قوة الولايات المتحدة مثلنا نحن؟.
الشائعة تبقى كذلك، إذا كانت حديثا بين أفراد فى جلسة بأحد المقاهى أو النوادى، باختصار تكون مجرد «شائعة» طالما أنها فى حيز الكلام أو الحديث الشفاهى ما يقال عنه «فنجرة بق» أو «فش غل»، أما إذا انتقلت إلى المجال المكتوب عبر صحيفة أو مطبوعة ما، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعى، فإنها تنتقل إلى حيز آخر هو ما قاله جو بايدن «المعلومات الزائفة»، وهذه يجب أن تعامل بالمعنى المهنى أو الحرفى وكذلك المعنى القانونى، وفق قواعد وآداب وتقاليد النشر من جهة والقوانين التى تحكم عملية النشر من جهة أخرى، فإن كانت ترتبط بالشق الخبرى تحاسب بمعيار الصدق والكذب، وما يترتب على كل منها وإن كانت فى مجال الرأى وبلغت حد السب والقذف، وهذا يحدث كثيرا تطبق عليها القوانين المرتبطة بالسب والقذف، أما إذا دخلت فى مجال تبنى الكراهية والدعوة إلى العنف أو طرح أفكار عنصرية حوسبت هى ومن أطلقها وفق قوانين وقواعد كل جانب، أما أن تعامل المادة المنشورة باعتبارها شائعة، أى كلام متطاير بلا صاحب، فهذا يعنى أننا نتحدث فى الجانب الأخلاقى فقط دون الوصول إلى الشق القانونى أو الجانب المهنى، الشائعة عندما تنسب إلى الجميع ويصعب الوصول إلى مَن روّجها أو أطلقها، نظرية تفريق الدم بين القبائل وتمييع المسئولية وتعويم الجرم الآثم وإهمال المحاسبة يدفع هؤلاء إلى التمادى.
فى حالتنا نحن كمصريين نتعرض منذ سنوات لسيل من المعلومات المغلوطة أو الزائفة وصلت إلى حد القول إن مصر بصدد تأجير أو بيع الهرم الأكبر، وقبلها بيع قناة السويس وكذلك بيع مطار القاهرة الدولى.. أو طرحه للإيجار، وإذا توقفنا عند هذه المعلومات الثلاث وقد تم نفيها جميعا وثبت زيفها وكذبها.. لكن سوف نلاحظ أن كلا منها يرتبط بجانب سيادى للدولة وآخر رمزى وتاريخى لعامة الشعب، وهذا يعنى أن المقصود بهذه الشائعات أو الأكاذيب الثلاث اتهام الدولة بأنها تفرط فى جوانب سيادية أى فى وجودها ذاته، وهو كذلك محاولة اتهام الجهات المسؤولة أمام الشعب أنها تفرط فى أسسها ورموزها ومصادر تاريخها وحضارتها، قناة السويس التى فقدنا أكثر من 120 ألف عامل فى حفرها أثناء القرن التاسع عشر ثم خضنا العدوان الثلاثى بسببها.. هذا لو صح يرقى إلى درجة الخيانة والتفريط.. ولنتذكر «أكذوبة» بيع القناة قامت هيئة القناة وأعلنت أنها بصدد مقاضاة واتخاذ إجراءات قانونية ضد من روجوا تلك الأكذوبة فى أى مكان ساعتها فقط دخلت كل الفئران الجحور وقطعت الألسن وأخرست تماما واختفى ذلك اللغط.
عموما يمكننا أن نحدد بؤرا ثلاثا تنطلق منها الأكاذيب والمعلومات المغلوطة التى تسمى شائعات.
الأولى: جماعة حسن البنا الإرهابية، هؤلاء يتصورون أن بإمكانهم هدم الدولة وبلبلة الشعب انتقاما من خروجهم فى ثورة 30 يونيو وفى هذه الحالة طبقا لأوهامهم يمكن أن يعودوا مرة ثانية إلى الواجهة.
الثانية: هناك دعاة الفوضى من العدميين والمتشائمين هؤلاء يتصورون أنه ببعض هذه المعلومات يمكن استعادة الفوضى والهدم من جديد حلم استعادة أيام سنة 2011 / 2012، هم لديهم الحنين إلى ما يسمى «الربيع العربى» ويودون استعادته من جديد، لا يترددون فى أى شىء للوصول إلى تلك الحالة مجددا.
الثالثة: وترتبط ببعض الطموحين لشغل موقع ما ولم يتحقق لهم ذلك، يتحدثون من منطق الذى يشعر بأحقية معينة أو مطامع بذاتها.. إنهم يظهرون فى أوقات اختيار مسؤولين لبعض المواقع أو الهيئات والمؤسسات، وغير ذلك باختصار معلوماتهم الزائفة لها أوقات ومناسبات بعينها.
لكن المصدر الأوسع والأكبر لنشر الأكاذيب هم جماعة حسن البنا الإرهابية، هؤلاء لا سقف لأكاذيبهم، خاصة أن «الكذب»، جزء من سلوكهم وتاريخهم شرعه لهم حسن البنا بمسميات عديدة البنا نفسه كان كذوبا كذب على أعضاء جماعته كثيرًا، خاصة فى مسألة جمع التبرعات وأوجه إنفاقها، حدث انشقاق سنة 1938 عن الجماعة بسبب أكاذيبه المالية ثم وضحت أكاذيبه فى قضية اغتيال الخازندار واغتيال النقراشى باشا، فقد تبرأ من الجريمتين علنًا فى بيان رسمى خاصة اغتيال النقراشى لكن بالتحقيقات وبعض الوثائق تبين أنه هو من (أصدر الأمر أو التوجيه فى العمليتين وهم يسيرون على دربه، تاريخهم كله مجموعة من الأكاذيب) وفى السنوات الأخيرة باتوا محاصرين من الشعب ويحاولون التودد إليه والعودة ثانية، لكنهم قرروا العودة عبر الأكاذيب والمعلومات المغلوطة التى يبثونها فى الفضاء الإلكترونى.
الخطير لدى هذه الجماعة أن بعض فقهائهم أجازوا الكذب واعتبروه سلاحًا يستعمل فى مواقف بعينها، والحق أنهم طوال الوقت يكذبون، كذبوا سنة 1954 فى قضية محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية وزعموا أنها مفبركة، سيد قطب نفسه زعم ذلك فى التحقيقات، وبعد عقود تكشفت الحقيقة كاملة واعترفوا من أطلق تلك الكذبة.. ثم كذبوا سنة 1965 فى محاولة الانقلاب على الدولة واغتيال أكبر عدد من قياداتها، كذبوا ومازالوا يكذبون، ولن يتوقفوا عن الكذب، لم يبق لهم سوى اصطناع أكاذيب تبقى حضورهم فى المشهد.
والملاحظ أن لهم أوقاتا ينشطون فيها ويرفعون سقف الأكاذيب سنويا مع ذكرى 25 يناير، يتصورون أن الماضى يمكن أن يعيد نفسه، فضلا عن أنهم لا يدركون ولم يستوعبوا الظروف نهاية سنة 2010 داخليا فى مصر وخارجياً فى العالم كله، الدنيا كلها أدركت أن مشروع «الفوضى الخلاقة» فشل، ما جرى فى ليبيا وفى سوريا وفى السودان نموذجا، ناهيك عن اليمن تبين أن الفوضى مدمرة تماما.. هذا الدرس استوعبته الشعوب العربية واستوعبه النظام الدولى أيضا ممثلًا فى الولايات المتحدة، مشروع أوباما لفرض الديمقراطية فرضا وإسقاط الدول باء بالنتائج العكسية، لولا مشروع أوباما ما عرفنا «داعش».
هم كذلك ينشطون مع الأزمات الاقتصادية، كل سنة كانوا يحددون موعدا يطالبون فيه الجمهور بالنزول منذ سنة 2014 وحتى 11/11 من العام قبل الماضى، فى الأخير فقدت دعواتهم كل مصداقية وكل جدية.. الأزمة الاقتصادية سوف تعبر وتمر، لنا تاريخ طويل مع الأزمات الاقتصادية، المصريون تضايقهم الأزمات الاقتصادية، يتحملون وينتظرون من الدولة أن تتدخل لإنهاء الأزمة، لكنهم يهبون ويخرجون حين يكون الوطن مهددًا، أما الأزمات فلا بد لها من نهاية، المهم أن الاحتياطى الاستراتيجى من السلع الأساسية متوافر.
حين نشبت حرب غزة سنة 2023 تصورت جماعة حسن البنا أنها لحظتهم وقد حانت، راحوا يزايدون لكن الموقف الصلب للدولة المصرية دفاعا عن القضية الفلسطينية ورفضا للمشروع الإسرائيلى فى تهجير أهل فلسطين إلى سيناء أجبر الجميع على احترام الموقف المصرى وتقديره عالميا، حتى مَن كانوا خصوما للدولة يوما أدركوا صلابة هذا الموقف.
وها هو يوم 25 يناير مرّ بهدوء استمتع المصريون بالإجازة فى النوادى وفى الحدائق العامة، اندفعت الأسر نحو معرض القاهرة الدولى للكتاب (400 ألف) زائر فى أول أيام افتتاح المعرض للجمهور، القراء يتجهون إلى الأجنحة والأنشطة الثقافية تُقام بانتظام وتجد الإقبال المعهود، هذا الشعب يريد أن يمارس حياته العادية، وأن يستمتع بهذه الحياة، لن يلتفت إلى أصحاب الأكاذيب، خاصة أنهم جميعا -أى أصحاب المعلومات الكاذبة أو الشائعات- لا يقدمون شيئًا سوى الاستعداد للهدم فضلا عن السخرية من كل إنجاز يتحقق وما تحقق كثير وكبير.
الذى يستحق التقدير فى المقام الأول هو وعى هذا الشعب وثقته بالدولة وما تقوم به وقد بنى هذا الوعى على خبرة تاريخية عميقة تميز بين مَن يريد البناء وبين دعاة الهدم.. أما أولئك الذين يروجون الأكاذيب فيجب الرد عليهم ليس بطريقة التكذيب الأصم بل شرح المواقف وتقديم المزيد من المعلومات والتعامل بشكل محترف وإعمال القانون مع دعاة الأكاذيب، ذلك ضرورى لأنهم لأسباب كثيرة لن يتوقفوا، فقد صارت تلك الأكاذيب على مواقع التواصل مصدر ارتزاق لبعض المطاريد يعرفهم المواطن المصرى بالاسم، صحيح أنهم شعبيا صاروا موضع تهكم وتندر، حتى إن بعض مَن كانوا يكفلونهم نفضوا الأيدى منهم، وفى النهاية تقول الحكمة المصرية البديعة «ياما دقّت على الراس طبول»، وتقول أيضا «البانى طالع والفاحت نازل»، أصحاب الأكاذيب يحفرون ويحاولون الهدم، وسوف يكتشفون أنهم يحفرون لأنفسهم فى التاريخ قبورًا.