رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

السيرة الذاتية مخبوءة في الصدور (١) رحل «نجيب محفوظ» قبل أن يكتب مذكراته!!


1-2-2025 | 16:44

الكاتب الصحفى حمدى رزق

طباعة
بقلم: حمدى رزق

على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب، ذهبت باحثا عن جديد المذكرات والسير الذاتية مدفوعا بأصداء السيرة الذاتية لأديب نوبل، طيب الذكر «نجيب محفوظ».

ولأنى عاشق صبابة للمذكرات والسير الذاتية منذ طالعت سيرة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، السيرة النبوية لابن هشام، فى كتاب من قبل عبد الملك بن هشام، بحثت عما يروى غلتى لسيرة حقيقية لإنسان حقيقى يروى ما تيسر من سيرته الذاتية دون كذب أو تجمل، دون خجل أو وجل، سيرة عادية لا تتخفى وراء كنايات لغوية، سيرة شفافة فيها ما فيها من توفيق وإخفاق، وحب وكراهية، ووفاء وخيانات، سيرة بشرية، والقاعدة النبوية الشريفة تقول: «كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».

 

عُدت بخفيّ حنين، لجأت إلى مكتبتى المتواضعة أراجع ما تحويه من سير ومذكرات صدرت وكانت ملهمة يقينا.. وهذه هوامش شحيحة على متون بعضها.

¿ ¿ ¿

فى الأوراق المحفوظة، الصور، والرسائل، يستنطقون الذاكرة، يترددون على مرافئ الذكرى، يطول مكوثهم أو يقصر، فعندما يطول العمر بالإنسان، يشعر أن الزمن المتبقى أمامه قليل، وأنه يقترب من النهاية، ويريد أن يقول كلماته الأخيرة، يصدر لنا سيرته الذاتية، وما أدراك ما سيرته الذاتية، السير الذاتية العربية، لا ترضى أحدا، بل لا ترضى حتى صاحبها، حين يرى سيرته الذاتية مشنوقة على أعمدة الرفض الأسرى والقبلى والاجتماعى، السير الذاتية العربية – أبدا –ليست مسك الختام.

كتب أديب نوبل «نجيب محفوظ» فى كل شيء، لكنه رفض كتابة سيرته الذاتية معتبرا أن حياته ليس بها ما يُثار، ولكنه وزعها على شخوص أعماله وتطرق إليها بشكل أعمق فى كتابه «أصداء السيرة الذاتية»، بينما كان الأديب الراحل «يوسف السباعي» يرى أن القارئ حتما سيعلم سيرة الكاتب سواء فى حياته أو بعد موته، ولذلك فضل أن يكتبها بقلمه فى الكثير من قصصه، بدلا من أن يكتبها غيره.

لا يوجد عمل أدبى إلا ويحمل بذرة ولو صغيرة جدًا من كاتبه؛ أحلامه، هواجسه، آلامه، وانكساراته، لكن تظل كتابة «السيرة الذاتية» تطرح العديد من التساؤلات، فما الذى يدعو الكاتب للتعرى أمام الآخرين، وما مدى الصدق فى كشف السيرة الحقيقية، وإذا ما كان صادقا فهل تهتز صورة الكاتب الذى يفضح أخطاءه وسلبياته أمام القراء؟

بالطبع ثقافة المجتمع لها دور كبير، والصراحة الكاملة غير موجودة على الإطلاق، وهى نسبية تخضع للظروف السياسية والأوضاع الاجتماعية التى يعيشها الكاتب، فكثير من السير التى كتبها العرب كانت نمطية تقليدية، تميل لتصويرهم فى صورة الإنسان المكافح صاحب المبادئ الذى دوما يتخذ القرارات الصحيحة، لذا ليس هناك سيرة بالمعنى الحقيقى بجميع مراحلها بفشلها ونجاحها والتى تحتاج إلى قدر كبير جدا من الصراحة.. ولكن هل نقدر قيمة الصدق فى مجتمعاتنا، فـ«سهيل إدريس» مؤلف رواية «الحى اللاتيني» كتب سيرته بصدق وجرأة تامة لكن القراء لم يستسيغوا أو يتقبلوا جرأتها..!

فى الغرب الوضع يختلف، فنقرأ بمذكرات «أينشتاين» أنه كان من أسوأ التلاميذ بالفصل، وعندما كتب «جان جاك روسو» مذكراته قال «أنا أفعل شيئا لم يفعله شخص قبلى، ولن يقدر شخص على تقليده بعدي» بسبب الجرأة الشديدة التى كتب بها مذكراته، كما تألقت مذكرات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق «ونستون تشرشل» والتى نال عنها وحدها جائزة نوبل، وجان جينييه وغيرهم.

السيرة الذاتية لها سحر آسر لكاتبها وقارئها معا، كما يقول «عبد الرحمن منيف» فى كتابه «رحلة ضوء»، إذ بالإضافة للخصوصية فهى فى أغلب الأحيان منطلقة، حرة، سلسة، وفيها كمّ غير قليل من التفاصيل الحارة وفى بعض الأحيان الساخنة باعتبارها اعترافا قبل كل شيء، ولأنها استعادة لحياة كانت ذات يوم بكل ما حفلت به من متع وخيبات وجروح وما مازجها من رغبات وأحلام.

وكان الأدب العربى عرف كتابة السيرة الذاتية منذ القدم، لكنها كانت تقتصر على التراجم، وأشهرها كتابة السيرة النبوية الشريفة، أما السيرة بشكلها الحالى فقد ظهرت منذ نحو مائتى عام فقط مع نشأة الرواية فى العالم، ويذكر المؤرخ «فيليب حتى» إن «كتاب الاعتبار» من أوائل كتب المذكرات التى كتبت باللغة العربية، عندما ألفه قبل ألف سنة، «أسامة بن منقذ» المولود فى بلاد الشام، والذى شهد الحروب الصليبية، وجمع خلال نفس الفترة، «ابن جبير» المولود فى الأندلس، بين الرحلات والمذكرات، وسار على طريقه بعد مائة سنة، ابن بطوطة» المولود فى المغرب الذى كتب يوميات الرحلات التى قام بها حول العالم.

ولعل أبرز من كتب السيرة فى الأدب العربى، طه حسين فى «الأيام»، أحمد أمين «حياتي»، توفيق الحكيم «زهرة العمر»، المازنى «قصة حياة»، و«البئر الأولى» و«شارع الأميرات» لجبرا إبراهيم جبرا، «أوراق العمر» للويس عوض، «أوراقى.. حياتي» لنوال السعداوى، «حملة تفتيش.. أوراق شخصية» للطيفة الزيات، «رحلة جبلية - رحلة صعبة» و«الرحلة الأصعب» لفدوى طوقان، وغيرهم.

أما الغرب فلم يعرف ولادة السيرة الذاتية، بالمعنى الذى نفهمه اليوم، قبل نهاية القرن الثامن عشر وصدور اعترافات «جان جاك روسو»، وإن كان البعض يحب اعتبار اعترافات «القديس أوغسطين « (354 ـ 430) أقدم سيرة ذاتية باقية لنا اليوم.

**

لا يزال طيب الذكر الدكتور «جابر عصفور» يذكر حبه الأول، والذى قرر الكشف عنه فى سيرته الذاتية الصادرة بعنوان «زمن جميل مضى»، ورغم أن المؤلف لا يتذكر الكثير عن بدايات حياته التى تبدو له بعيدة جدا بعد أن تجاوز السابعة والستين من عمره، لكنه يسرد ذكريات عديدة عن عائلته الصغيرة.

يشير د. عصفور فى كتابه الذى ينقسم إلى خمسة أجزاء هى «النشأة، فتنة القاهرة، ذكريات تلمذة، سكندريات، ذكريات ناصرية»، إلى كثرة ما كتبه عن شعوره بالافتقاد للأمان، وهى خصلة نفسية ظلت تنضج بداخله ربما دون أن ينتبه.

يبقى لزمن الستينيات سحره فى ذاكرة عصفور، لأنه يرتبط بزهرة العمر من سنوات الشباب الممتلئة بالوعود والأحلام الفردية وسنوات التكوين الحاسمة، وكذلك ارتباطه بصحوة المشروع القومى، هذه السنوات جمعت الأحلام الفردية والقومية، وجعلت من الأحلام الفردية وجها آخر من الأحلام القومية.

لم يكن مستقبل عصفور قد تحدد تماما عندما عرض فيلم «الخطايا» الذى غنى فيه عبد الحليم «الناجح يرفع إيده»، وكان حلم التفوق لكى يصبح معيدا فى كلية الآداب لم يفارقه، ولذلك كان يتخيل نفسه الأول على كل أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، ويتخيل نفسه تلميذا لطه حسين وجالسا على كرسيه فى قسم اللغة العربية، ولم يكن مهما أن يحب فتاة فى جمال نادية لطفى – هكذا همس لنفسه – تبريرا لخيبته مع البنات التى كان سببها خجله الشديد، وخوفه من خوض تجارب تبعده عن الحلم.

«كنت أحلم أن تلحظنى ذات يوم فتاة فى جمال مريم فخر الدين أو فاتن حمامة أو نادية لطفى، وتأخذ بيدى مؤمنة بعبقريتى طبعا، ونمضى معا إلى طريق النجاح، ونغنى لأنفسنا فى النهاية «الناجح يرفع إيده». لكن لم يتحقق من ذلك الحلم البعيد إلا نصفه. نجحت وتفوقت وكنت الأول، وأصبحت معيدا بقسم اللغة العربية الذى ترقيت فيه إلى أن أصبحت رئيسه لسنوات عديدة فجلست على كرسى طه حسين، لكن لا أزال إلى اليوم، ولتسامحنى زوجتى، أبحث عن وجه أشبه بوجه مريم فخر الدين الخمسينيات أو أشبه بوجه لبنى عبد العزيز منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولا أزال إلى اليوم أبحث عن الحبيبة المثالية التى تخيلتها فحسب، وحلمت بها نموذجا للطهر والبراءة فى مطلع الصبا، وإلى الآن لم أجد هذه الحبيبة التى ظلت ذكرى جميلة تزودنى بالرغبة والقدرة على مواصلة الحلم».