«مصر مش طبق سلطة إحنا لازم نعرف إحنا إيه ونحدد إحنا عايزين إيه علشان نعرف مصر اللى بجد هى إيه»
جملة قالها النجم الكبير الراحل صلاح السعدنى بلسان شخصية حسن النعمانى فى مسلسل «أرابيسك» الذى أنتج عام 1994 للرائع الراحل أسامة أنور عكاشة ؛هذه الجملة مازالت تبحث عن إجابة حتى يومنا فى المجتمع المصرى.
رغم أنى شاهدت المسلسل مرات عديدة مثلكم ولكن فى كل مرة أكتشف جوانب جديدة لم أرها من قبل ؛أتوقف أمام جمل وعبارات وكأنى أسمعها لأول مرة وأتعمق بالتفكير بها ؛ حتى رسم الشخصيات تجد أنها تختلف فى نظرى عن السابق.
أتذكر جيداً لمة العائلة بعد الإفطار فى شهر رمضان لمشاهدة المسلسل كعادة المصريين فى ذلك الوقت وكان المسلسل مظلوماً فى التقييم عند الشعب المصرى لأننا كنا نضع المسلسل فى مقارنة مع إحدى الروائع والتى لن تتكرر وهو مسلسل «ليالى الحلمية» بأجزائه وكان الفرق شاسعا بين شخصية العمدة سليمان غانم وحسن النعمانى وبين أحداث المسلسلين والحقبة التاريخية؛ ومع مرحلة النضوج الفكرى والتعمق فى رسم الشخصيات تكتشف أن الرائع أسامة أنور عكاشة لم يخرج من عباءة «ليالى الحلمية» ولكن برسم شخصيات مختلفة تناسب العصر المكمل لما توقف عنده فى «ليالى الحلمية».
نستطيع أن نقول إن الرائع أسامة أنور عكاشة استطاع أن يعبر عن حالة المجتمع المصرى بعمق شديد وببساطة من خلال رسم الشخصيات وطرح فكرة الهوية المصرية وانتماءاتها المختلفة أو طبقاتها وتراكماتها، ووضح ذلك من خلال التساؤل الذى طرحه فى المسلسل «إحنا مين وأصلنا إيه إحنا فراعنة ولا عرب ولا بحر متوسط؟!»
هذة الأسئلة كانت أكبر دليل على حالة فقدان الهوية التى يطرحها المسلسل من خلال شخصية «حسن النعمانى» الذى جسده على أنه نموذج للإنسان المصرى الضائع، ورمز لأزمة الهوية المصرية وتقديم «حسن النعمانى» على أنه يجسد أبرز سمات الشخصية المصرية، فرغم أنها شخصية تملك قدرات هائلة مثلها مثل الوطن ولكن الظروف التى تحيط به تعاند قدراتها وتحبط من عزيمتها وهذه باختصار مشكلة أغلب المصريين، فكلنا «حسن أرابيسك» الذى يملك الموهبة والقدرة ولكنه يترك نفسه للضياع لذا حرص عكاشة على عدم رسم صورة مثالية للبطل ولكن جاءت شخصية سلبية فى كثير من الأحيان وفاشلاً كزوج وأب، ويشرب المخدرات ويسهر للفجر.
ولكن فى مهنة «الأرابيسك» تحديداً، فهو صاحب موهبة فذة ويدرك قيمة ما يقدمه.
هكذا هى الشخصية المصرية التى استطاع الرائع أسامة أنور عكاشة أن يرسخها فى أذهان المشاهدين ومن المشاهد التى تظهر بها جلياً الشخصية المصرية عندما قال له صديقه المهندس (الفنان شوقى شامخ) «مالك مش إنت حسن النعمانى اللى حارب فى 73 وانتصر إية اللى حصل لك؟» (وفى الخلفية صورته بالبذلة العسكرية على حائط خلف مكتبه الصغير فى الورشة، دليل على أن الصورة ظلت رغم ذلك محل اعتزازه وفخره).
جملة توضح لك الوجه الحقيقى للشخصية المصرية عندما تدافع عن بلدها ضد أى عدوان خارجى وهى نفس الروح التى يحاول الكاتب أن يجعلها تنتفض بداخل المصريين وعدم الانسياق للسلبية والغرق فى اليأس والإحباط.
هنا لا أكتب عن عمل مجرد عمل فنى ولكن أبحث عن شخصية مصر بداخل سطور العمل الفنى ؛ خاصة أن الفن من أهم عوامل استمرار الشخصية المصرية كما أن الشعب المصرى يقدر ويحب ويعشق الفن بكل أشكاله المختلفة ؛ففى الماضى كان المصريون مثقفين رغم انتشار الأمية فى المجتمع واليوم تراجعت الثقافة كما تراجعت معدلات الأمية ؛ لا تستغرب من المعادلة فهى مقصودة بعد فشل الاحتلال العسكرى والمخططات لإسقاط المجتمع المصرى بالإغراءات ومحاولات طمس الهوية المصرية فإذا تحدث أحد عن المخططات والمحاولات فلن يستمع أغلبية الشعب المصرى لهذا الحديث وذلك لأن أغلبية المصريين هجروا الكتب والقراءة واعتمدوا على الملخصات (التيك اوى).
أو ثقافة السمع التى ابتدعها تجار الدين فى مرحلة من مراحل مصر المعاصرة واليوم أصبح أغلبية الشعب المصرى فريسة للسوشيال ميديا وللواقع الافتراضى وأهملت الأغلبية التفكير أو (تشغيل عقلها للحكم على الأشياء ) ورغم تلك الصورة إلا أن الشعب المصرى مازال يحمل بداخله الشخصية المصرية الممتدة عبر آلاف السنين ولكنه يحتاج لمحفز أو خطر حقيقى مباشر لكى تظهر تلك الشخصية وإن كان الجيل الحالى قد شهد ثورة يونيو فهى أقوى دليل على استمرار الشخصية المصرية داخل وجدان المصريين وليس معنى أن هناك قيادة سياسية وطنية تبنى جمهورية جديدة أن يعود الشعب المصرى إلى حالة الخمول أو الانسياق خلف السوشيال ميديا ؛فعلينا جميعاً أن نكون على يقين أن المحاولات لإسقاط مصر مستمرة من آلاف السنين وليس هذا كلاماً للدفاع عن أحد ولكنه لرفع حالة اليقظة عندنا كمصريين فالحرب على مصر ليست وليدة جديدة ولكنها قديمة وكما رصدها الدكتور جمال حمدان فى كتاب (شخصية مصر) والتى صدرت أجزاؤه من عام 1981 إلى عام 1984.
ومن الاقتباسات من كتاب شخصية مصر حيث يرى أن مصر «أصبحت مفتاح العالم العربى، إن سقطت سقط، وإذا فتحت فتح. ولذا كان الاستعمار يركز دائماً ضربته الأولى والقصوى على مصر، ثم ما بعدها فسهل أمره. وهو ما أدركته وفشلت فيه الصليبيات وتعلمه الاستعمار الحديث».
« فمصر هى حجر الزاوية والأرض الركن فى الثلاثية القارية التى يتألف منها العالم القديم والوحيدة التى تلتقى فيها قارتان وتقترب منها ثالثة أكثر ما تقترب لا سيما أنها تقع عند التقاء أربع أضلاع من هاتين القارتين وبهذه الصفة فإنها لا تمتاز فقط بالموقع المركزى المتوسط فى قلب الدنيا القديمة ولا بالموقع المدخلى أو موقع البوابة فحسب ولكن أيضًا بالموقع العقدى البؤرى “ تحليل الموقع الجغرافى ومقارنة الموضع والموقع ودورات الموقع وأدواره منتهياً إلى دور القناة باعتباره الدور الأخير ودورها فى الاستعمار العالمى من التل الكبير حتى العدوان الثلاثى و1967 ودورها بعد ثورة البترول فى العالم العربى.
وفى فصل خصصه للشخصية الاستراتيجية ذكر أن لمصر خاصية مميزة هى أنها «كانت دائماً قطب قوة وقلب إقليم» مضيفاً أنها «حتى وهى مستعمرة محتلة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فقد كانت مصر -للغرابة والدهشة- مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى.. ولا شك أن هذه الصفة الجوهرية ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة».
كتاب شخصية مصر بأجزائه يجب على وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم تدريسه للطلاب وإعادة نشره بأسعار مدعومة لكى تكون هناك نسخ منها داخل وجدان كل مصرى.
شخصية مصر ممتدة والحديث عنها مستمر.
المحاولات لإسقاط مصر مستمرة من آلاف السنين وليس هذا كلاماً للدفاع عن أحد ولكنه لرفع حالة اليقظة عندنا كمصريين فالحرب على مصر ليست وليدة الفترة الأخيرة ولكنها قديمة وكما رصدها الدكتور جمال حمدان فى كتاب (شخصية مصر)