رحلة طويلة استمرت ما يقرب من الأربع سنوات قضاها الملك رمسيس الثانى خارج الحدود، طاف طوال أيامها حول العالم شرقا وغربا، لم يترك موقعًا وسط بلاد الأغراب إلا وكانت له وقفة قوية، يتأمل حالة الاندهاش التى تستحوذ على أعين كل مَن يرى مقتنياته الذهبية. الكل جاء مهرولًا ومزاحمًا ليلقى نظرة على كنوز مصر القديمة التى جلبها معه الملك الفرعونى من مقتنيات فريدة، وذهب ونصوص هيروغليفية وتمائم عجيبة، وتماثيل لا مثيل لها، ومعها 180 قطعة أثرية أصيلة تحكى تاريخ مصر وعظمتها عبر تاريخ الدولة القديمة نجحت فى تحقيق إيرادات من المتوقع أن تصل إلى 25 مليون دولار.
«ننتظر بفارغ الصبر وصول الملك رمسيس الثانى ومقتنياته الذهبية».. تلك كلمات السيدة يوريكو كويكى عمدة مدينة «طوكيو» التى باحت بها والفرحة تملؤ عينيها، خاصة أن المعرض الملكى سيكون بمثابة خطوة جديدة فى سبيل توطيد العلاقات المصرية - اليابانية العلمية الأثرية، ومن المتوقع أن يجتذب المعرض كل فئات الشعب اليابانى الذين سيأتون لزيارته من مختلف المدن البعيدة. فكما حضر إليهم من قبل الملك توت عنخ آمون وعائلته، سيحضر الملك المعظم «رمسيس الثانى» ومعه تاريخ طويل من الانتصارات الحربية، لذا بدأت الشوارع برفع لافتات الترحيب وازدانت بصور القطع الملكية معلنة عن استضافة أهم المعارض المصرية الأثرية.
ستقف تلك المدينة المتروبوليتانية المتضخمة إجلالًا للترحيب بأشهر ملوك مصر القديمة، ورغم أنها مدينة تحتضن السياسة والاقتصاد، فإنها تعد مركزًا قديمًا تتجمع فيه ملامح الثقافة اليابانية التى يفوق عمرها أكثر من ألف عام، فهى مدينة ثقافية من الطراز الرفيع تحتضن عددًا كبيرًا من المتاحف المتخصصة فى علوم الآثار والتراث اليابانى القديم، منها متاحف تستعرض تاريخ الأزياء وكيمونو, وأخرى تحكى سيرة الساموراى والتاريخ الحربي، ومتاحف توثق تراث تنسيق الزهور والحدائق والأشجار، حتى مظاهر الاحتفال بطقوس الشاى اليابانى ذى اللون الأخضر الزاهى الذى يفضله اليابانيون ويعتبرونه جزءًا من الموروث الثقافى القديم قاموا بالحفاظ عليها داخل متاحفهم.
هناك فى بلاد موطن شروق الشمس كما يطلقون عليها، ستكون المحطة السادسة لمعرض «رمسيس وذهب الفراعنة»، بعدما بدأت رحلة الطواف فى عام 2021، حيث سافرت مقتنياته أولا إلى ولاية هيوستن الأمريكية، لتبدأ معها حالة جديدة من الهوس البشرى بتاريخ ملوك مصر القديمة، وبحلول شهر مارس المقبل يبدأ الملك المعظم وعائلته الذهبية يوميات جديدة خلال محطته السادسة ويطل على أقاصى الأرض عند العاصمة «طوكيو» ليحقق مزيدًا من الاندهاش وسط شعب اليابان، ليمكن بينهم سبعة أشهر متواصلة يعيش معهم لحظة ولادة ألوان الربيع ويستمر حتى سبتمبر 2025 ليرحل قبل حلول الخريف.
«طوكيو استعدت لاستقبال الملك رمسيس الثاني، ووفرت له كل إمكاناتها كى تليق به»، هكذا تحدث د. محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الذى تابع بنفسه حالة الاستعداد القصوى التى وفرتها مدينة طوكيو قبل وصول الملك المعظم إلى أراضيها، مشيرا إلى توفير فتارين عرض متحفية وأنظمة إضاءة وتأمين وحماية غير مسبوقة من أجل ضمان تحقيق الشكل الأمثل للمعرض الأثرى الذى يحمل اسم «رمسيس وذهب الفراعنة»، خاصة أن المعرض طاف خمسة مواقع حول العالم بعدما حقق نجاحا كبيرا فى أولى محطاته بمدينة هيوستن الأمريكية عام 2021. ومن المتوقع أن يحقق عائدا 25 مليون دولار بما يعادل 5 ملايين دولار فى العام الواحد، مشيرا إلى أن المعرض يضم قطعًا أثرية لواحدة من أهم حقب التاريخ المصرى القديم عامة والملك رمسيس الثانى خاصة والذى يعد أحد أهم ملوك مصر القديمة، وتعد فترة حكمه الأطول فى تاريخ مصر على الإطلاق.
ويضم معرض «رمسيس وذهب الفراعنة» 180 قطعة أثرية من مقتنيات عدد من المتاحف المصرية، منها تابوت الملك رمسيس الثانى إحدى أهم القطع الأثرية وهو من مقتنيات المتحف القومى للحضارة المصرية، وبعض القطع الأثرية الأخرى من مكتشفات البعثة المصرية بمنطقة البوباسطيون بسقارة، ومقتنيات تكشف عن الخصائص المميزة للحضارة المصرية القديمة من عصر الدولة الوسطى وحتى العصر المتأخر.
المعرض يسلط الضوء على إنجازات الملك رمسيس الثانى العسكرية والسياسية والدينية والفنية بعدما استمرّ حكمه أكثر من 66 عاما خلال القرن الـ13 قبل الميلاد، حيث يضم مجموعة من التماثيل يقف فى مقدمتها تمثال ضخم للملك رمسيس الثانى ويظهر فيه كحاكم وإله مبجل فى نظر المصرى القديم. ومعه مجموعة من المجوهرات والحلى الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والتى تعكس براعة الصناعات اليدوية المصرية القديمة، علاوة على عدد من التمائم الدينية خاصة المستخدمة فى الطقوس الجنائزية لحماية المتوفى خلال رحلته إلى العالم الآخر، إلى جانب عدد من القطع التى تمثل أدوات التجميل، واللوحات، والكتل الحجرية المزينة بالنقوش، بالإضافة إلى بعض التوابيت الخشبية الملونة. كما يحوى المعرض عددًا من الأدوات الحربية مثل الأقواس والدروع التى تكشف عن قوة جيش الملك وانتصاراته العسكرية.
وبالتالى فعندما يدخل الزائر المعرض ينتابه شعور لا يضاهيه شعور وسط أجواء مشوقة، يجد نفسه أمامه رأس الملك رمسيس الثانى الضخم المصنوع من الحجر الجيرى المزين بالتاج الملكي، وبملامح قوية تعكس هيبة حاكم لإمبراطورية مصرية عظيمة تطل عليه لتمنحه شعورا بعظمة ما سوف يشاهده داخل المعرض الملكي. وبعد الدخول يقابله الملك بتمثاله الجالس على العرش بالحجم الطبيعى حاملًا التاج الملكى والنقوش التى تمجده كإله حى على الأرض، وهو أحد التماثيل التى كانت تُقام أمام المعابد الكبرى مثل معبد أبو سمبل.
المعرض يأخذ الزائر فى رحلة عبر سنوات حكم الملك الأكثر شهرة فى الحضارة المصرية القديمة، والتى تجسد جزءا كبيرا من تاريخ رمسيس الثاني، وتسلط الضوء على قوته العسكرية، إبداعه الفنى، وتطور مصر كدولة خلال فترة حكمه، كما أنها تتيح للزوار فرصة فريدة لاستكشاف أسرار بناء الحضارة المصرية القديمة.
يحوى عددًا من الأسلحة المستخدمة فى معركة «قادش» الشهيرة والتى قادها الملك رمسيس الثانى بنفسه وطرد بسببها الحيثيين من مصر، ومنها عدد من السهام والأقواس والخناجر والسيوف المزينة بالذهب والنقوش الملكية، والأهم لوحة الانتصار التى توثق تفاصيل المعركة واستراتيجية الملك العسكرية التى حقق بها النصر.
كما يستعرض مجموعة من التمائم المقدسة والتماثيل الصغيرة التى تجسّد الألهة «رع» و«آمون» والتى كان المصرى القديم يستخدمها فى الطقوس الدينية والتعاويذ السحرية للحماية وجلب البركة للملك والشعب.
ومن النادر أن يضم معرض أثرى برديات تحوى نصوصا هيروغليفية دينية وقانونية، حيث يستعرض عددا من النصوص الجنائزية من كتاب الموتى التى كان المصرى يضعها مع المتوفى لمساعدته فى الحياة الآخرة. علاوة على عدد من الرسائل الدبلوماسية المتبادلة بين الملك رمسيس الثانى وحكام الشرق الأدنى والتى تعكس العلاقات الخارجية للإمبراطورية المصرية فى ذلك الوقت.
ويأتى المعرض الملكى نتاج علاقة ممتدة من التعاون بين مصر واليابان فى مجال الآثار واكتشافها وترميمها، بدأتها اليابان ممثلة فى الوكالة اليابانية للتعاون الدولى «جايكا» فى عام 2006 بدعم مشروع إقامة المتحف المصرى الكبير، حيث قدمت الدعم المالى من خلال قرضين ميسّرين للمساعدة الإنمائية الرسمية فى بناء المتحف بناء على طلب من الحكومة المصرية، ومنذ عام 2008 قدمت الوكالة اليابانية دعما فنيا عبر المشروع المصرى - اليابانى المشترك لترميم وتوثيق وتغليف ونقل 72 قطعة أثرية من بينها عدد من القطع الخاصة بالملك توت عنخ آمون من المتحف المصرى بالتحرير إلى المتحف المصرى الكبير بالتعاون المشترك بين الخبراء المصريين واليابانيين، حيث شارك حوالى 90 خبيرًا يابانيًا، واستمرت علاقة التعاون فى مجال ترميم الآثار تجسدت فى ترميم واستخراج القطع الخشبية لمركب الملك خوفو الثانية كواحد من أهم مشروعات الترميم التى تعبر عن أوجه التعاون المثمر بين البلدين.
وها هو المعرض الملكى يسافر إلى أقاصى الأرض حيث موطن شروق الشمس فى اليابان، بعدما نجح عبر رحلته الممتدة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب فى تحقيق إيرادات غير مسبوقة وبيع عدد ضخم من تذاكر الدخول. أعداد الزائرين تجاوزت الملايين، ففى ألمانيا تزامن افتتاح المعرض مع إجازات أعياد الميلاد والسنة الجديدة مما حقق أرقامًا قياسية للزيارة كما هو الحال فى مدينة «سيدني» الأسترالية، نظرا لما يحويه من قطع أثرية تروى تاريخ الحضارة المصرية خلال عصرها الذهبي، مما وفر فرصة كبيرة لزوار المعرض للتعرف بصورة أعمق على تفاصيل الحضارة المصرية القديمة، الأمر الذى يعتبر وسيلة من وسائل الترويج السياحى لمنتج السياحة الثقافية وجذب مزيد من السائحين الأجانب لزيارة مصر والتعرف على ما تحتويه من كنوز أثرية متفردة.
وكان معرض «رمسيس وذهب الفراعنة» قد بدأ رحلته خارج مصر فى أولى محطاته داخل متحف «هيوستن للعلوم الطبيعية» بداية من شهر نوفمبر2021، ثم انتقل إلى ثانى محطاته داخل متحف «دى يونج» بمدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية فى أغسطس 2022، بعدها غادر القارة الأمريكية ورحل إلى أوروبا فى شهر أبريل 2023 ليستقر ستة أشهر داخل العاصمة الفرنسية باريس ويحقق فيها رواجا منقطع النظير، وبعدها رحل نحو أقصى الشرق إلى مدينة «سيدني» الأسترالية فى نوفمبر 2023، قبل أن يعود مرة أخرى إلى أوروبا حيث استضافته مدينة «كولن» الألمانية فى نوفمبر 2024.