اليوم الأربعاء الخامس من فبراير، يختتم معرض القاهرة الدولى للكتاب دورته السادسة والخمسين بنجاح فاق كل التوقعات، حيث زاد عدد زوار المعرض عن خمسة ملايين زائر، وكان قد سجل فى يوم واحد، وهو الجمعة 31 يناير 780 ألف زائر، وكان الإقبال من جميع الأعمار، ومن كل محافظات مصر، ومن خارجها، وتلك شهادة إنجاز تحسب لمصر التى نجحت فى تنظيم أكبر وأعرق عرس ثقافى سنوى، كما أنها شهادة بحق الأسرة المصرية التى أقبلت على المعرض بقوة، ما يؤكد أن المصريين يصنعون الحياة الجميلة، ويقبلون على المعرفة والثقافة والفنون بنهم، ويعشقون البهجة ويصنعونها ويستمتعون بها.
الأطفال بهجة المعرض
ولنبدأ بالأطفال الذين هم بناة المستقبل، ورهان الغد، حيث شهد المعرض إقبالاً كبيرًا جدًا من الأطفال ومن كل الأعمار، مع بعضهم البعض فى زيارات جماعية، أو مع ذويهم من الآباء والأمهات، وهذا الإقبال ينفى القول الدارج السطحى الذى يزعم أن الأطفال لا يقرؤون بعد أن خطفتهم مواقع (السوشيال ميديا)، فحب القراءة والمعرفة، والتعلق بالثقافة والكتاب يبدأ من الصغر، وينمو مع الطفل خلال سنوات نموه الطبيعي، ونظرة سريعة لجناح الطفل فى المعرض، وركن الأطفال، أكدت لنا أنه لا موضع لقدم، فالأطفال يشترون الكتب، ويرسمون، ويلونون، ويشاركون فى ورش أعمال يدوية وقراءة حرة، وفى لقاءات مباشرة مع كتاب أدب الطفل، خاصة أن إدارة المعرض هذا العام اختارت الكاتبة فاطمةالمعدول شخصية أدب الأطفال، وهى كاتبة للأطفال، وتولت لسنوات المركز القومى لثقافة الطفل، وكان المعرض قد اختار من قبل أسماء، كامل الكيلانى، وعبدالتواب يوسف ويعقوب الشارونى، ما يؤكد رسوخ ظاهرة الكتابة للأطفال فى ثقافتنا المصرية على مدار قرن كامل.
وفى صالة عرض كتب الأطفال نجحت هيئة قصور الثقافة برئاسة كاتب أدب الأطفال والقاص المترجم محمد ناصف، فى تقديم ورش فنية وعروض مسرحية، واستضافت زيارات جماعية من الأطفال من أكثر من مكان، وقدمت أنشطة متتابعة على مدار الساعة، جذبت الصغار وأدخلت البهجة على قلوبهم، تلك الورش الفنية، ورشة كاتبة أدب الأطفال صفاء البيلى، والتى تقول لنا إنها قدمت ورشة فنية بعنوان «الأطفال يمسرحون الحياة»، لعدة أيام، ولعدة سنوات حتى الآن، ومن خلالها تشرح للأطفال ماهية المسرح، ومعناه، والخشبة والستارة، والمشاهد، والنص، والتمثيل، وفى آخر كل ورشة تقود الأطفال لتقديم عروض مسرحية من حياتهم، بحيث يجمعون بين الفهم النظرى والتطبيق العملى، وهى ورش تشهد إقبالاً كبيرًا من الأطفال.
أيضًا قدمت الكاتبة صفاءالبيلى فى هذه الدورة ثلاثة كتب للأطفال، الأول عنوانه «أصدقائى» ضمن سلسة «سنابل» فى الهيئة العامة للكتاب، ونصين مسرحيين بعنوان «غرباء، وبيوت من زجاج»، كذلك قدم الزميل أشرف التعلبى كتابًا للأطفال، برسوم فنانة مجلة «المصور» نشوى سعيد، حيث قدما معًا تجربة مشتركة فى الكتابة والرسم، والمعروف أن الوصول للطفل لعقله ووجدانه أمر ليس سهلاً ولا يمكن خداعه، وعلى ذلك نستطيع أن نؤكد بثقة أن رجال المستقبل بخير طالما أنهم يقرؤون، وأن مستقبل مصر واعد وهو فى ضمانة جيل محب للمعرفة والثقافة والفنون والجمال.
الكتاب المدعم
والظاهرة الثانية المؤكدة أن جمهور المعرض كان من الذكاء بحيث أقبل بشدة على أجنحة الكتاب المدعم من الدولة، وعليه فقد شهدت الأجنحة التابعة لوزارة الثقافة إقبالاً كبيرًا، مثل «هيئة الكتاب، وهيئة قصور الثقافة، وصندوق التنمية الثقافية، والمجلس الأعلى للثقافة، والمركز القومى للترجمة، وأكاديمية الفنون»، أيضًا شهدت أجنحة دور الصحف المصرية إقبالاً كبيرًا ممثلة في: «دار الهلال، والأهرام، والأخبار، ودار التحرير، ودار المعارف، والشركة القومية للتوزيع»، وشهدت جناح الأزهر والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية إقبالاً كبيرًا أيضا، وبذلك نقول إن الكتاب المدعم يلقى رواجًا كبيرًا، رغم تنوع أجنحته وعناوينه، فالقارئ الحصيف يذهب مباشرة لسلاسل الذخائر والتراث للحصول على مجلدات بسعر زهيد، لا يتجاوز العشرين جنيهًا للكتاب الواحد، كما أن هيئة قصور الثقافة طرحت أغلب كتب المفكر عباس العقاد فى طبعات جديدة دون أن يتجاوز سعر الكتاب الواحد ثلاثين جنيهًا، كما طرح المركز القومى للترجمة رواياته وكتبه بخصم يصل إلى خمسين فى المائة، وشهدت سلاسل هيئة الكتاب مثل «تاريخ المصريين» التى بدأها المؤرخ الراحل د. عبدالعظيم رمضان، إقبالاً من الجمهور وسعر الكتاب لا يتجاوز عشرة جنيهات، وفى جناح الأزهر الشريف، وجدنا عشرات الكتب الدينية المهمة لأعلام الفكر الدينى من فحول الأزهر وبأسعار زهيدة، ولذلك يبقى الكتاب المدعم من الدولة هو فرس الرهان لنجاح المعرض، فى تسويق وبيع الكتاب، ويستطيع الزائر وبمائة جنيه فقط أن يقتنى أكثر من عشرة كتب مهمة وفى كل المجالات، فعلى سبيل المثال طرحت هيئة الكتاب بعض أجزاء كتاب «الفتوحات المكية» لابن عربى، وهو أشهر كتبه، بسعر لا يتجاوز عشرين جنيهًا للمجلد الواحد، وهو ما يعتبر مجانًا تقريبًا، لأن دور النشر الخاصة طرحت نفس الكتاب بمجلداته بآلاف الجنيهات، ورأيت بنفسى صديقًا يشترى مجلدات الكتاب من بائع كتب قديمة بستة آلاف جنيه.
«سور الأزبكية»
وحرصًا من الدولة على توفير الكتاب الرخيص والقديم فى آن واحد، وفرت صالة كبيرة لباعة «سور الأزبكية»، وبالفعل شهدت الصالة زحامًا كبيرًا، وعادة ما يكون زائر صالة «سور الأزبكية») من المترددين على الباعة باستمرار، يعرفونه ويعرفهم، وأحيانًا يدخر البائع الكتب المهمة لقارئ بعينه لأنه يعرف أنه سوف يقتنيها وبأى سعر، فقد تطورت العلاقة بينهما لتصبح علاقة صداقة وثقة، وليس مجرد علاقة بائع ومشتر.
«مبادرة المليون كتاب»
وعلى هامش المعرض أطلقت وزارة الثقافة المصرية مبادرة المليون كتاب مجانًا، حيث تقدمها الوزارة للجهات والمواقع المختلفة من مراكز الشباب، وقصور الثقافة، والجامعات، والمدارس، والمساجد، والمكتبات العامة، وهى مبادرة ستغطى كل أرجاء ومحافظات ومدن وقرى مصر، بحيث تحقق العدالة الثقافية جغرافيًا، وتصل للقارئ المستهدف والمحب للكتاب الورقى أينما كان، فقط أتمنى على مسئولى الجهات التى سوف تتسلم الكتب الهدية المجانية ألا تتعامل معها كعهدة لا تمس، فالهدف من المبادرة، ومن كل جهود الدولة هو الإنسان وبناء وعيه، فهو الغاية الكبرى من كل إنجاز، وبالتالى مثلما أتاحت الدولة هذا الرقم الكبير مجانًا، فليس أقل من إتاحته للاطلاع والاستعارة من قبل المواطنين فى كل مكان.
تمثيل كل الأجيال
وكما كان زوار المعرض من كل الأجيال، ومن مصريين وعرب وأجانب، جاءت فعاليات وأنشطة المعرض المصاحبة لأيامه لتمثل كل الأجيال المبدعة، فقد شهدت القاعة الرئيسية وهى باسم شخصية المعرض د. أحمد مستجير إقبالاً كبيرًا من الزوار على ندواتها الفكرية، وأمسياتها الشعرية، كما شهدت القاعات الأصغر ندوات مهمة غطت كل مناحى الإبداع المصرى والعربى، شعرًا وقصة ومسرحًا وعروض وتوقيعات كتب، فقد التقينا على سبيل المثال وليس الحصر بكل رموز الثقافة المصرية والعربية فى أروقة المعرض، فمن لبنان جاءت الروائية هدى بركات، ومن الجزائر جاء الروائى واسينى الأعرج، ومن كندا جاءت الروائية المصرية د. مى التلمساني، ومن باريس جاءت الكاتبة الكبيرة إنعام كجه جى، فضلاً عن أغلبية كاسحة من المثقفين المصريين من العاصمة ومن كل محافظات مصر، وبذلك فلا إقصاء لأحد أو تيار أو رأى، الكل ممثل، فى ديمقراطية ثقافية مشهودة من الجميع، فصحى وعامية، تراثًا ومعاصرة، عربيًا وأجنبيًا، فضلاً عن ندوات ضيف الشرف «سلطنة عمان»، الشقيقة العربية التى قدمت لنا الخليل بن أحمدالفراهيدى مكتشف بحور الشعر العربى، ورائد البحارة العرب أحمد بن ماجد، وكما يقولون فى عمان «يوجد شاعر تحت كل صخرة»، فهى بلد تنبت الشعراء، وذات جذور حضارية سحيقة، كما وجدت ندوات لدول أجنبية.
الكتاب الدينى والتراث
ولا يزال للكتاب الدينى رونقه، ولا تزال دور النشر المتخصصة فى طبع ونشر كتب التراث مثل مجلدات صحيح البخارى، ورياض الصالحين، والسيوطى وابن حجر، وغيرهم الكثير، لا تزال موضع إقبال من الشباب المقبل على تلك النوعية من كتب التراث الإسلامى، خاصة من طلبة مدينة البعوث الإسلامية الذين يدرسون فى جامعة الأزهر، ومن كل الجنسيات، خاصة من دول جنوب شرق آسيا، أيضًا شهدت دور النشر المتخصصة فى الكتاب الدينى الصوفى إقبالاً من قارئ خاص، وهذه الدور أغلبها من لبنان وسوريا والعراق، وطبعت بالأساس تراث الشيخ الأكبر ابن عربى، وغيره من مشايخ الصوفية كالحلاج، وإن كانت الكتب غالية الثمن فإن القارئ الحريص على اقتناء مجموعة كاملة لا تعنيه سعرها كثيرًا، لأنه جاهز من قبل وأعد عدته لشرائها مهما كان ثمنها.
الروايات
وتظل الرواية كنوع أدبى يهيمن على ظاهرة شراء الكتاب الورقى من كل الأعمار، خاصة من الشباب، وإذا كانت هذه الدورة قد خلت من رواية بعينها طاغية ومسيطرة على المشهد الثقافى كالسابق، إلا أن إقبال الشباب على شراء الروايات حتى لكتاب مجهولين، أو ينشرون قصصهم الأولى ظاهرة جديرة بالمتابعة، وتؤكد أن فن الرواية والرغبة فى البوح والحكى والفضفضة تسيطر على المشهد الإبداعى لرغبة المبدع فى الحكى، ورغبة القارئ فى متابعة السرد والحكايات، فهى رغبة مشتركة من الطرفين، وتؤكد أيضًا أن مواقع «السوسيال ميديا» على قدر ما حققته من عزلة اجتماعية، وانكفاء على الذات، فإنها فجرت الرغبة فى الحكى، ومتابعة الآخرين وما يحكونه، ونشير هنا إلى تراجع ظاهرة رواية الرعب والجن والعفاريت، وغيرها من المضامين الغرائبية، وهيمنة ما أشبه بالسيرة الذاتية، فقد أصدرت الكاتبة د. مى التلمسانى ثلاثة كتب فى المعرض، رواية واضحة بالاشتراك مع إدوار الخراط، وكتابين عن تجربة السفر والإقامة فى كندا لربع قرن، فضلاً عن كتاب رابع مترجم عن الأديب التشيكى الذى عاش فى فرنسا وكتب بالفرنسية «كافكا»، ونشر الأديب خليل الجيزاوى، روايتين هما «عتبات السلطان» عن المجلس الأعلى للثقافة، وهى تدور مكانيًا فى منطقة السلطان الحنفى والسيدة زينب، والثانية «أولاد عيد غطاس» عن دار نشر خاصة، وهناك ظاهرة مصاحبة، ألا وهى نشر الشباب لرواياتهم لأول مرة، فضلاً عن الكتب للزملاء الصحفيين الذين جمعوا حواراتهم فى كتب، كما فعل الزميل صابر رمضان من «الوفد» والذى جمع حواراته مع أعلام العصر فى كتاب، وكذلك الزميل جمال عبدالمجيد، فعل ذلك فى كتابين، وهى تجربة مهمة فى توثيق الحوارات فى كتب تبقى.
زيادة الناشرين
الملاحظ أيضًا زيادة فى أعداد دور النشر، وإذا كانت دور النشر بالمعرض قد تجاوزت الـ1300 عارض، وهو عدد كبير، فإن بعض دور النشر قد شاركت لأول مرة فى المعرض، وعن نفسى زرت خمسة منها، تشارك لأول مرة، وهذا يؤكد لنا أنه رغم ارتفاع سعر الورق، ومستلزمات الطباعة إلا أن صناعة النشر لم تتوقف، بالعكس زادت دور النشر، وإن كانت بعض الدور تلجأ معذورة لأخذ مساهمة مالية من المبدع لنشر كتابه أو أن يشارك فى شراء عدد من نسخ كتابه، وفى كل الأحوال لا تغامر الدور الوليدة بطباعة آلاف النسخ، بل أصبحت تميل لطباعة الكتاب «ديجتال»، بكميات محدودة لجس النبض أولاً، وعلى كل زيادة الناشرين ظاهرة ملفتة وتؤكد أن الصناعة باقية ومستمرة رغم جثامة التحديات.
ولأول مرة جرى التنسيق بين اتحاد الكتاب كنقابة مستقلة، وبين وزارة الثقافة التى خصصت جناحًا للاتحاد لعرض كتب الأعضاء واستقبالهم والاحتفاء بهم وإبداعاتهم على مدار أيام المعرض، وهى سابقة مهمة نتمنى أن تستمر وأن تكون مساهمة الاتحاد إيجابيةً وكبيرةً فى السنوات المقبلة.
«دار الهلال» تتألق بالمصور التذكارى وشخصية مصر
أيضًا من الظواهر اللافتة للمتابع تألق ونجاح دار الهلال فى معرض هذا العام، وكان جديدها الذى شهد إقبال الجمهور «المصور التذكارى» الذى صدر قبل أيام؛ بمناسبة مرور مائة عام على صدور مجلة (المصور) فى أكتوبر من العام 1924م، وهو مجلد ضخم مزود بالصور التاريخية النادرة، والملفات والمقالات النادرة على مدى مائة عام، فهو جامع لرموز الفكر والفن وأعلام العصر فى شتى المجالات.
أيضًا لا تزال مجلدات «شخصية مصر» فى أربعة مجلدات، للعبقرى د. جمال حمدان هى درة أعمال (دار الهلال)، حيث تقدمها الدار سنويًا وبأسعار مخفضة للقراء، وهى تشهد إقبالاً من الجميع، أيضًا أعمال د. عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ»، فضلاً عن روايات «الهلال» وكتاب «الهلال»، وهى سلاسل تُباع بخصم وأسعار زهيدة لا تتجاوز العشرين جنيهًا للكتاب، أيضًا ضم جناح دار الهلال نسخًا من الأعداد الخاصة من مجلات «المصور وحواء والكواكب والهلال»، وكذلك نسخًا من أعداد مركز التراث وهى مطبوعات تاريخية مهمة بأسعار زهيدة، وكذلك نسخًا من مجلدات ومطبوعات مجلتى الأطفال «سمير وميكى»، وبذلك لبى جناح دار الهلال أذواق كل أفراد الأسرة المصرية، وبأسعار مدعمة، وهو ما يؤكد استمرار رسالة «دار الهلال» فى خدمة الثقافة والتنوير ولأكثر من مائة وثلاثين عامًا.
أخيرًا.. لا يمكن إحصاء كل ظواهر أهم وأعرق معرض للكتاب فى منطقة الشرق الأوسط، والأقدم والأكبر عالميًا بعد معرض فرانكفورت فى ألمانيا، ولكن يحسب لمعرض القاهرة الدولى للكتاب أنه استمر بانتظام من سنة 1969م عندما وُلد فى عهد الوزير ثروت عكاشة، ورأسته د. سهير القلماوى، ثم الشاعر صلاح عبدالصبور، فالكاتب المسرحى والمترجم د. سمير سرحان، حتى يومنا هذا، أيضًا المعرض ورغم انتقاله مكانيا للمرة الثانية من أرض المعارض بالجزيرة إلى حى مدينة نصر ثم إلى التجمع، فإنه أصبح أكثر بهاء وجمالاً وأكثر تنظيمًا، وأصبح يليق باسم مصر وحضارتها، من حيث التنظيم والخدمات والنظافة والعرض، وقد صادف هذا العام طقسًا ربيعيًا خلابًا، وجوًا مشمسًا أغلب أيام المعرض، مما شجع الأسرة المصرية على زيارته، فجاء المعرض لوحة فنية وجمالية رائعة مثلت قوة مصر
الناعمة فى صناعة ونشر الكتاب والحفاوة به.