رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«المصور» تنشر مذكرات عبدالرحمن الرافعى حملت نعش مصطفى كامل


8-2-2025 | 23:12

المصور تنشر مذكرات عبدالرحمن الرافعى حملت نعش مصطفى كامل

طباعة

فى ختام معرض القاهرة الدولى للكتاب، نقدم الحلقة الأولى من مذكرات المفكر والمؤرخ عبدالرحمن الرافعى، المنشورة بمجلة المصور فى 16 فبراير سنة 1951.. ونعيد نشرها بمناسبة ذكرى مولده، حيث وُلد فى 8 فبراير 1889 وتخرج فى مدرسة الحقوق الخديوية، وقد تأثر بأفكار مصطفى كامل، فانضم إلى الحزب الوطنى وعمل فى جريدة «اللواء»، وشارك فى ثورة 1919، كما شغل العديد من المناصب المهمة، منها وزير التموين فى 1949 وعضوًا فى المجالس النيابية، كما كان له دور فى إعداد دستور 1953 وعُين نقيبًا للمحامين فى 1954.

 

تُوفى الرافعى عام 1966 بعد أن ألف العديد من الكتب التاريخية التى وثقت الحركة الوطنية المصرية، مثل «تاريخ الحركة الوطنية» و«مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية»، و«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى».

 

وضع الأستاذ عبد الرحمن الرافعى بك مذكرات عن حياته السياسية فى نصف القرن الأخير... وقد تفضل فبعث إلينا بطائفة من هذه المذكرات القيّمة التى نبدأ نشرها بهذا المقال الذى يتضمن: متى عرف مصطفى كامل وتتلمذ عليه، وكيف اشترك فى تأسيس نادى المدارس العليا، وإضراب سنة 1906. وهو أول إضراب للطلبة فى مصر. كما يتضمن شعوره النفسى حين وقعت حادثة دنشواى فى ذلك الحين وكيف أثرت فى حياته. ثم وفاة مصطفى كامل، وما كان لها من وقع أليم، وما كان ليومه الفاجع من أثر طبع فى قلبه ونفسه، مبادئ هذا الزعيم العظيم، فصارت عقيدة وطنية لا تمحوها الأيام.

 

ولدت بالقاهرة يوم 8 فبراير سنة 1889 - ونلت الشهادة الابتدائية فى يوليه سنة 1901، والشهادة الثانوية البكالوريا من مدرسة رأس التين فى- مايو سنة 1904، وكان ترتيبى الثالث فى الناجحين البالغ عددهم 136 طالبا وقد أراد والدى أن يُدخلنى الأزهر، ولكنى اعتذرت بصغر سنی وبأنی تعودت على المدارس النظامية ولم آلف نظام الدراسة فى الأزهر، وإذ كنت أخجل من مراجعة والدى فقد وسّطت لديه بعض الأقارب لإقناعه بالعدول عن فكرته، فأفهموه أن لا محل لتغيير منهجى فى الدراسة، وما دام قد اختار هو لى المدارس النظامية فمن الخير أن أستمر فيها، وذكروا له ميلى إلى الدخول فى مدرسة الحقوق ورغبوا إليه أن يلحقنى بها، فقال لهم إنه يريد أن يجعلني عالما من علماء الأزهر، كأبيه وعمومته، فأجابوه: «أن الزمن قد تطور، وما دام هو لا يميل إلى الأزهر فلتختر له المدرسة التى يميل إليها»، فقال: أتريدون أن يخرج منها قاضيا أهليا يحكم بغير الشرع؟ فأجابوه: « هذه مسألة لا يحين وقت البحث فيها إلا بعد تخرجه فى مدرسة الحقوق، وهل من المحتم أن يكون قاضيا؟) فلم يقتنع بهذا الجواب، وأراد أن يخلص من هذا الإحراج، فأعرب عن رغبته فى أن يلحقنى بإحدى الوظائف بالبكالوريا - وكانت لها قيمة كبيرة فى ذلك العصر فقالوا له: إنه لا يميل الآن إلى التوظف وهو صغير السن، ولا يصح أن يرهق بالوظيفة»، فقال لهم: «إنى أختار له وظيفة معاون إدارة، وهى وظيفة سهلة لا تحتاج إلى عناء»، فعرضوا علىّ الأمر فاعتذرت، وقلت لهم ولوالدى: «إنى صغير السن ولا أحتمل أعباء الوظيفة، والدراسة لا تتعبنى، فدعونى أدخل المدرسة التى تميل إليها نفسى »، وإزاء هذا الإلحاح قبِل والدى ما طلبت وأدخلنى مدرسة الحقوق.

 

دخلت كلية الحقوق -وكان اسمها (مدرسة الحقوق الخديوية)- فى أكتوبر سنة 1904، ومقرها وقتئذ بميدان عابدين فى المكان الذى به الآن ثكنات الحرس الملكى. وكان ناظرها المسيو جرانمولان. ووكيلها عمر لطفى بك، واقتضى دخولى المدرسة انتقالى وإقامتى بالقاهرة فى شهور الدراسة، وقد بدأ وعيى السياسى يتقدم فى مدرسة الحقوق، وأخذت فى قراءة الصحف قراءة فهم وإدراك، وكان الطلبة يجتمعون فى أوقات الفراغ ويتحدثون عن السياسة وما وصلت إليه حالة البلاد تحت الاحتلال البريطانى، واخترنا لقضاء أوقات الفراغ والسهر قهوة راقية بشارع عابدين على ملتقاه بشارع الصنافيرى (على باشا ذو الفقار الآن) تدعى «قهوة الحقوق» لصاحبها «الخواجة أندريا »، وقد أعجبنا اسم القهوة، واخترناها لذلك منتدى لنا نقرأ فيه الصحف على اختلاف ميولها ومذاهبها وأهمها سنة 1904، (اللواء) و(المؤيد) و(الأهرام)... انتقلت إذن من قهوة (الحاج أحمد) بالإسكندرية إلى قهوة (الخواجة أندريا) بالقاهرة.

 

وكان لهاتين القهوتين أثر كبير فى اتجاهى الوطنى والسياسى. وبدات أقرأ «اللواء» قراءة فهم وإدراك فتعجبنى. روحه ومقالاته، وقد تتلمذت لمصطفى كامل (صاحب اللواء) منذ أواخر تلك السنة، قبل أن أراه، وصار لى «اللواء» بمثابة المدرسة التى تلقيت عنها مبادئ الوطنية، كما أنه كان مدرسة الوطنية للجيل كله.

 

قابلت مصطفى كامل

 

أما أول مرة قابلت فيها «مصطفى كامل» ففى فبراير سنة 1906، أثناء إضراب طلبة الحقوق، فقد تاقت نفسی إلى رؤيته وكان «اللواء» يناصر الطلبة فى مطالبهم الحقة. فذهبت مع لفيف من زملائى إلى دار اللواء بشارع الدواوين -نوبار باشا الآن- تجاه وزارة العدل، وكان اسمها وزارة الحقانية، وقابلت الزعيم لأول مرة، وسمعت حدیثه وشعرت بتأثيره الروحى ينفذ إلى أعماق قلبى، وصار لى بمثابة أبى الروحى فى المبادئ، وأكثرت من التردد على دار اللواء لكى أقابله وأراه وأسمع صوته، فكان يفيض علينا من الأحاديث التى غرست فى نفسى مبادئ الوطنية، ولعله -رحمه الله- قد توسم فىّ أن أكون من تلاميذه الحافظين لعهده، فعرض علىّ سنة 1907 أن يوفدنى فى بعثة صحفية إلى باريس للتخصص فى الصحافة بعد حصولى على إجازة الحقوق. فقبلت هذه الثقة شاكرًا، ولكن المنية عاجلته فى فبراير سنة 1908 قبل تخرجى فى المدرسة.

 

نادى المدارس العليا

 

كانت مدرسة الحقوق أول بيئة للشباب ظهرت فيها روح اليقظة الوطنية ولبيت دعوة الزعيم مصطفى كامل، إذ كانت الغالبية العظمى من طلبة الحقوق قد استجابت إلى ندائه.

 

وإذ كان الشعور الوطنى الصادق يستتبع النشاط الاجتماعى والعلمي، فقد ظهرت بيننا روح التكتل، وتنظيم الكفاح، وكان تأسيس نادى المدارس العليا أول مظهر لهذه الروح.

 

فكر طلبة الحقوق فى إنشاء هذا النادى سنة 1905، وشاركهم فى الفكرة طلبة المدارس العليا الأخرى، واجتمعت أول جمعية عمومية له، الجمعية التأسيسية يوم الجمعة 8 ديسمبر سنة 1905 بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس الإدارة، وبلغ عدد الحاضرين من الطلبة مائتى طالب من مختلف المدارس العليا، وحضره كذلك لفيف من المتخرجين، وكان اشتراكهم فى نادٍ للطلبة دليلًا واضحًا على تقديرهم للشباب المثقف وما نالوه من ثقة أسلافهم من الخريجين، فإنهم لم يجدوا غضاضة فى أن يجتمعوا وإياهم فى نادٍ واحد، وفى الحق أنهم كانوا رجالًا فى شبابهم وأخلاقهم وأساليبهم. فنالوا بذلك تقدير مواطنيهم ممن كانوا يكبرونهم سنًا، بل كان بعضهم أساتذة لهم.

 

اشتركت فى الجمعية العمومية التأسيسية لنادى المدارس العليا، إذ كنت طالبا فى مدرسة الحقوق ومن المشتركين فى تأسيسه، وأسفرت عملية الانتخاب عن اختيار المرحوم عمر بك لطفى - وكان وكيلا لمدرسة الحقوق- رئيسا للنادى. وكان من خاصة أصدقاء مصطفى كامل وأنصاره هو وشقيقه المرحوم أحمد بك لطفى.

 

كملت معدات تأسيس النادى، واتخذ دارًا بالمنزل رقم 4 بشارع قصر النيل بالقرب من سافواى أوتيل القديمة، وافتتح يوم الخميس 15 أبريل سنة 1906، وقد حضرت حفلة الافتتاح مع إخوانى المشتركين فيه من طلبة الحقوق وكان هذا الاحتفال يومًا مشهودًا، وأخذنا نجتمع بالنادى، وبذلك انتقلنا من (قهوة الخواجة أندريا)، إلى نادى المدارس العليا، وبدا لنا الفرق كبيرًا بين القهوة والنادى، فلقد كان بناءً فخمًا تحيط به حديقة غناء، وبه غرف واسعة مؤثثة تأثيثا فاخرا، الأمر الذى لم نعهده من قبل، لا فى قهوة الخواجة أندريا، ولا فى قهوة الحاج أحمد بالإسكندرية. وكان اجتماعنا بالخريجين مما زاد فى نضجنا العلمى والثقافى، وتعددت المحاضرات والاجتماعات فى النادى، فكان لنا شبه معهد علمى أكملنا فيه دراستنا وزدنا من ثقافتنا، وقد أفدت منه كثيرا وكان به مكتبة غنية بالكتب والصحف والمجلات ساعدتنى على توسيع مداركی وترقية أفكارى، ولم تفُتنى محاضرة ألقيت فيه، وظللت عضوا به إلى أن أُقفل بأمر السلطة العسكرية البريطانية سنة 1914 فى أوائل الحرب العالمية الأولى، وكان مقره حين أُقفل بمیدان حليم باشا بعمارة الخاصة الخديوية على ملتقى شارع بولاق (فؤاد بشارع إبراهيم باشا).

 

إضراب سنة 1906

 

كان لهذا الإضراب تأثير كبير فى نفسى، كان يعدل تأثير نادى المدارس العليا، إذ بداية اتصالى الروحى الوثيق بالزعيم مصطفى كامل.

 

فى يناير سنة 1906 وضعت وزارة المعارف نظامًا لمدرسة الحقوق كان الغرض منه استفزاز شعور الطلبة، والتضييق عليهم، ومعاملتهم بنظام المدارس الابتدائية، وقد يكون لتظاهرهم بالشعور الوطنى دخل فى وضع هذا النظام، إذلالًا لهم وكبحًا لجماحهم، فما إن علمنا به حتى قررنا الإضراب احتجاجًا عليه، وأضربنا فعلا عن الدراسة فى فبراير، وكانت طلباتنا العدول عن النظام الذى وضعته الوزارة والرجوع إلى النظام القديم.

 

لم يكن إضرابنا خروجًا على النظام، ولا رغبة فى التعطل عن الدراسة، أو التسكع فى الشوارع، أو سعيًا لمطالب مادية شخصية بل كان مظهرًا من مظاهر المقاومة الوطنية لسياسة الاحتلال فى التعليم.

 

كان هذا الإضراب هو الأول من نوعه فى مصر، لأنه شمل مدرسة عالية بأسرها، وكان موجها ضد سياسة التعليم التى وضعها الاحتلال، وقد تدخل اللورد كرومر (المعتمد البريطانى) فى شأنه، وأمر وزارة المعارف بأن تأخذ الطلبة بالشدة.

 

فأعلنت تعطيل الدروس فى المدرسة من يوم 26 فبراير سنة 1906 حتى يوم السبت 3 مارس، وأنذرتنا بأن مَن يتأخر عن الحضور فى ذلك اليوم يُفصل من سلك التلاميذ وكان للإضراب لجنة تقوم على تنظيمه، فاجتمعت على عجل للنظر فى هذا الإنذار، وتدخل المستشار القضائى البريطانى «السير مالكولم ماكلريث» فى الأمر، وكان يعطف على الطلبة بعكس المستر دنلوب، فوعدهم بالنظر فى طلباتهم على شرط أن يعودوا إلى الدراسة، فاتفق الطلبة رأيًا على الرجوع إلى المدرسة يوم السبت 3 مارس سنة 1906، وكان لهذه العودة أثرها فى نفوسنا، وكان فيها معنى الرضوخ والإذعان. فزادتنا سخطًا على الاحتلال وسياسته، وأراد اللورد كرومر تثبيت مركز المستر دنلوب وكان إلى ذلك الحين سكرتيرا عاما لوزارة المعارف، وعليه تقع مسئولية الإخلال بنظام التعليم الذى أدى إلى الإضراب، فرُقِّى مستشارًا للوزارة فى مارس سنة 1906 مكافأة له على أخذ الطلبة بالشدة.

 

وكتبت مقالة عن هذا الإضراب، ذهبت بها إلى مصطفى كامل يوم رجوعنا إلى الدراسة، وكانت لهجتها شديدة ضد الاحتلال، فقرأها الزعيم، وأثنى علىّ، ولكنى فهمت من حديثه أنه لا يرى نشرها حرصًا على مستقبلى، وكانت هذه المقالة (التى لم تُنشر) بدء مراسلتى للصحف.

 

حادثة دنشواى

 

وقعت حادثة دنشواى فى 13 يونيو سنة 1906، فزادتني سخطًا على الاحتلال وتعلقًا بالحركة الوطنية، كنت عام وقوعها طالبا بالسنة الثانية بمدرسة الحقوق، وكنت أطالع أنباءها فى (اللواء)، فأُدهَش لمخالفة منهج التحقيق والمحاكمة فيها لما كنا نتلقاه من أصول المحاكمات الجنائية التى تقضى بها القوانين، وتساءلت: ما فائدة ما نتلقاه من الدروس والقواعد القانونية إذا كانت لا تُطبّق على الناس كافة؟ ولما تلوت وصف تنفيذ الحكم فى( اللواء) بقلم الأستاذ أحمد حلمى أحد محرريه اقشعرّ بدنى من هول ما قرأت، وأدركت مبلغ هوان المصرى فى نظر الاحتلال، وتحققت أن لا كرامة لأمة ولا لأى فرد من أبنائها بغير الاستقلال، وحفزتنى هذه الحادثة إلى أن أخصص حياتى للجهاد فى سبيل الاستقلال.

 

وفاة مصطفى كامل

 

كنت فى السنة النهائية لمدرسة الحقوق لما فُجعنا بوفاة مصطفى كامل يوم الاثنين 10 فبراير سنة 1908، ويا لها من لحظة رهيبة حين فوجئنا بنعيه، ونحن فى المدرسة، فقابلناه بالذهول والوجوم، وفاضت دموعنا حزنًا وأسى على الزعيم الذى كان لنا إمامًا وطنيًا، وأبا روحيًا، وفى غمرة الذهول الذى أصابنا من هول الكارثة تباحثنا فيما يجب علينا عمله إظهارا لشعورنا، فقررنا بالإجماع اعتبار يوم تشييع جنازة الزعيم يوم حداد عاما. تُعطل فيه المدارس جميعها، ويشترك طلبتها فى تشييع الجنازة، واتصلنا بالمدارس العليا والثانوية فرأينا من طلبتها نفس هذا الشعور، ونفس هذا الإجماع، واتخذوا نفس القرار الذى اتخذناه، واشتركنا فى الجنازة، وكنت ممن حملوا النعش ضمن طلبة الحقوق الذين ندبوا لذلك من قبل جميع طلبة المدارس العليا، وكان لهذا اليوم فى نفسى أثر لم تمحُه الأيام والأعوام، فلقد طبع فى قلبى مبادئ الزعيم فصارت عقيدتى الوطنية.