لا تتوقف تحركات القاهرة على مدى الـ15 شهرًا الماضية لإفساد مؤامرة تصفية القضية الفلسطينية، فقد أدركت قبل الجميع، ومنذ الساعات الأولى لموجة الاعتداءات الإسرائيلية فى حرب غزة، أن دولة الاحتلال لن تتوانى عن توظيف هذه العملية فى تدمير قطاع غزة وما حوله بحجج واهية، وأكاذيب محبوكة، وخطط معدة مسبقًا، من أجل تنفيذ الخطة الفاسدة لتهجير الأهالى إلى سيناء حتى تكتب شهادة موت قضية القضايا، وتحذف اسم فلسطين تدريجيًا من خريطة العالم.
ها هى الوقائع المتتابعة، والمشاهد المتعاقبة، والتصريحات المتلاحقة من قادة مجرمى الحرب بحكومة الاحتلال وحلفائهم الأمريكان تؤكد أن الرؤية المصرية كانت وستظل هى الأشمل، وخبرتنا هى الأوسع، وتقديرنا للموقف هو الأصوب، وتلك اليقظة الدائمة، وهذا الاستعداد المسبق هو مفتاح النجاح فى إفساد مخططات المتآمرين على عروبة فلسطين، وتكسير أنياب الطامعين فى غزة وثرواتها، وإبطال مفعول سمهم الزعاف الذى يحاول التسرب إلى جسد القضية الفلسطينية بكل السبل، وجميع الحيل.
إن مصر ستظل تواصل طريقها المستقيم، ومسارها القويم، صادقة العهد، وفية بالوعد لكى تبقى فلسطين للفلسطينيين، وأن يتحول المطلب المصرى الدائم فى المحافل الدولية كافة، والمنتديات الأممية جمعاء، وهو حل الدولتين إلى الواقع الملموس، والحقيقة الماثلة أمام العيون، فلا بديل مطلقًا عن إقامة الدولة الفلسطينية، وكما يكرر الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ تولى دفة الأمور فى 2014 وليس خلال حرب غزة فقط، الدولة الفلسطينية شرط لاستقرار المنطقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وجه الرئيس فى خطابه الرابع بالدورة الـ72 للجمعية العامة للأمم المتحدة2017، الدعوة لإغلاق هذا الملف، من خلال تسوية عادلة تقوم على الأسس والمرجعيات الدولية، وتنشئ الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ما قبل يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، فهو الشرط الضرورى للانتقال بالمنطقة كلها إلى مرحلة الاستقرار والتنمية، والمحك الأساسى لاستعادة مصداقية الأمم المتحدة والنظام العالمى.
وسيرًا على سياسة استباق الأحداث، وحكمة توقع السيناريوهات، وتأكيدًا على انشغال الدولة المصرية الدائم بالقضية الفلسطينية، والتذكير المستمر للرأى العام العالمى بها، والدفع الجاد فى طريق حل الدولتين، خرج الرئيس السيسى فى كلمته من منبر الأمم المتحدة عن النص المكتوب وخاطب كل الأطراف بحكمة صاحب الخبرة، واقتدار محنك التجربة قائلاً بفطنة المتمرس فى نشر ثقافة السلام، ودراية المتمكن من قدرته على حماية الأمن القومى على الأصعدة كافة: «أتوجه بكلمة ونداء إلى من يهمهم هذا الأمر، وأوجه ندائى الأول إلى الشعب الفلسطينى، وأقول له من المهم للغاية الاتحاد وراء الهدف، وعدم الاختلاف، وعدم إضاعة الفرصة، وتحقيق الاستقرار والأمن للجميع.. وأوجه ندائى للشعب الإسرائيلى، وأقول لدينا فى مصر تجربة رائعة وعظيمة للسلام معكم منذ أكثر من أربعين سنة، ويمكن أن نكرر هذه التجربة مرة أخرى.. أمن وسلامة المواطن الإسرائيلى جنبًا إلى جنب مع أمن وسلامة المواطن الفلسطينى، وهذه فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى.. وكلمتى الأخرى إلى كل الدول المحبة للسلام والاستقرار، وإلى بقية دول العالم أن تقف بجانب هذه الخطوة التى إذا نجحت ستغير وجه التاريخ.. ونداءً إلى القيادة الأمريكية والرئيس الأمريكى، لدينا فرصة لكتابة صفحة جديدة فى تاريخ الإنسانية من أجل تحقيق السلام فى هذه المنطقة».
والمعلوم بالضرورة، أنه لو استغلت كل الأطراف هذه الدعوة المصرية المخلصة والأمينة، كان مسار إقامة الدولة الفلسطينية قطع شوطًا كبيرًا، وأصبح الحلم واقعًا، وما وصلنا إلى حرب غزة الوحشية، سواء الفلسطينيين بتوحيد الصف بين كل الفصائل بعيدًا عن التشرذم، والتخطيط المتهور مع قوى خارجية للقيام بعمليات تضر أكثر مما تنفع على غرار «طوفان الأقصى» من وجهة نظرى منعًا للمزايدات، وها هى النتيجة فتح أبواب الذرائع على مصراعيها لمجرمى الحرب فى الحكومة الإسرائيلية لإبادة أهالى القطاع، وارتكاب مجازر أبشع من التتار، وصولاً إلى مؤامرة التصفية، وللأسف ما زال التفكك بين الفصائل مستمرًا، وهذا بيت الداء ومكمن الخطر لكن قادتهم يتعمدون التجاهل، ويتحصنون بالحجج الواهية، وأيضًا كان الجانب الإسرائيلى قد نجا من ويلات الخوف، وغياب الأمن على مدى عدة سنوات وخاصة خلال الـ15 شهرًا الأخيرة، وما تحولت حياة مواطنيهم إلى المسار الإجبارى فى المخابئ والملاجئ، وما حدث اختطاف ذويهم، وما نزح سكان الشمال، وما انهار الاقتصاد، ناهيك عن كشف ورقة التوت عن عورة السردية الإسرائيلية حول أنهم مقهورون فى الأرض، وأصبح العالم أجمع يعرف بالصوت والصورة والفيديو أنهم شعب دموى ودولة مارقة وحكومة متهمة بجرائم حرب عديدة، وجرائم الإبادة لا تسقط بالتقادم، وستظل دماء الأبرياء الفلسطينيين تطاردهم فى اليقظة قبل المنام، وبالطبع لو استجابت الدول الغربية والولايات المتحدة لنداء الرئيس السيسى ما دفعت هذه الفاتورة الباهظة فى تمويل تل أبيب بالسلاح والعتاد، وما افتضح سر هؤلاء الرؤساء فى التعامل بازدواجية فى المعايير، والكيل بمكيالين فى الحكم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
والأمر المؤكد، والعهد الموثق أن مصر، شعبًا وقيادةً، لم ولن تتراجع عن موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، والوقوف كالجبال الراسخة ضد أية مؤامرات أو مخططات لتصفيتها فى كل العصور، وخصوصًا خلال تلك الشهور التى تلت حرب غزة بأيامها الثقيلة، ولياليها الطويلة، ومآسيها الفظيعة، ولا أجد عبارة أكثر شمولية، وأجدر على التوصيف من مقولة الرئيس السيسى فى قمة القاهرة للسلام: «أؤكد للعالم بوضوح ولسان مبين، وبتعبير صادق، عن إرادة وعزم جميع أبناء الشعب المصرى فردًا فردًا: أن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث وفى كل الأحوال لن يحدث على حساب مصر، إن حل القضية الفلسطينية، ليس التهجير وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى؛ بل إن حلها الوحيد، هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة».
وأتحدى أن يأتى أحد على وجه الكرة الأرضية بعبارة موثقة تتعارض مع هذا الموقف المصرى الحاسم، وتلك القناعة المصرية الصارمة فى كل اللقاءات بين الرئيس ونظرائه على مستوى العالم، وفى جميع المؤتمرات الدولية، ومختلف الاتصالات الهاتفية بخصوص تطورات الأوضاع فى الأراضى الفلسطينية أو حتى خلال الزيارات المتلاحقة واللقاءات المستمرة لوزير الخارجية المصرى من السفير سامح شكرى إلى د. بدر عبدالعاطى، ناهيك عن نهر المساعدات المصرية المتدفق إلى أهالى قطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، منذ اندلاع شرارة العدوان الإسرائيلى الغاشم، حتى يَعض الأشقاء على بقائهم فى أرضهم بالنواجذ، وتتفرع جذورهم فى باطنها، وتمتد أغصانهم فى سمائها، فهم أصحاب الأرض، وهذا عرضهم الذى لا يُباع ولا يُشترى مهما كانت غطرسة جيش الاحتلال، ومهما تغيرت أشكال وألوان مؤامرة التهجير كالحرباء.
وعلى نفس الثبات تتابع المواقف القاطعة، والبيانات الحازمة من وزارة الخارجية المصرية ردًا على مخططات تصفية القضية، وكشف زيف نتنياهو وأعضاء حكومة مجرمى الحرب بالتأكيد على أن مصر تحذر من تنفيذ مخطط تهجير الشعب الفلسطينى من أرضه، وبما يعد خرقًا صارخًا وسافرًا للقانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى ولأبسط حقوق المواطن الفلسطينى، ويستدعى المحاسبة، وأن التداعيات الكارثية التى قد تترتب على هذا السلوك غير المسئول، والذى يضعف التفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار ويقضى عليه، كما يحرض على عودة القتال مجددًا إلى جانب المخاطر التى قد تنتج عنه على المنطقة بأكملها وعلى أسس السلام، والتشديد على أن القاهرة ترفض تمامًا أى طرح أو تصور يستهدف تصفية القضية الفلسطينية من خلال انتزاع الشعب الفلسطينى أو تهجيره من أرضه التاريخية والاستيلاء عليها، سواء بشكل مرحلى أو نهائى، وتلك الأفكار تعد إجحافًا وتعديًا على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، ولن تكون مصر طرفًا فيه.
وما دامت حكومة الاحتلال قد أصابها عمى البصر والبصيرة، وتحاول تمرير مؤامرة التصفية فى أى مكان، أعادت الخارجية المصرية إدانتها ورفضها بأشد العبارات للتصريحات غير المسئولة والمرفوضة جملة وتفصيلًا الصادرة عن الجانب الإسرائيلى والتى تحرض ضد المملكة العربية السعودية الشقيقة وتطالب ببناء دولة فلسطينية بالأراضى السعودية فى مساس مباشر بالسيادة السعودية وخرق فاضح لقواعد القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، وتعدٍ على حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة وغير القابلة للتصرف فى إقامة دولته المستقلة على كامل ترابه الوطنى فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وفقًا لخطوط الرابع من يونيو 1967.
ثم أعادت الدولة المصرية استهجانها للتصريحات التى أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلى لإحدى القنوات الإعلامية الأمريكية يوم الأحد الماضى لأنها تتضمن ادعاءات وتضليلاً متعمدًا ومرفوضًا يتنافى مع الجهود التى بذلتها وتبذلها مصر منذ بدء العدوان على غزة وقيامها بإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة للشعب الفلسطينى وآخرها أكثر من 5000 شاحنة من مصر منذ وقف إطلاق النار، وتسهيل عبور الجرحى والمصابين ومزدوجى الجنسية، والإعراب عن الرفض المصرى التام لأية تصريحات تستهدف تهجير الشعب الفلسطينى إلى مصر أو الأردن أو السعودية، وعن تضامنها مع أبناء غزة البواسل الذين يتمسكون بأرضهم رغم كل ما يتعرضون له من أهوال للدفاع عن قضيتهم العادلة والمشروعة، كما تؤكد على التمسك بالثوابت المصرية والعربية الراسخة والمرتكزة على حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ومن موقع الشقيقة الكبرى الذى أكدته تطورات الأحداث بلغة الأفعال، تسابق القاهرة الزمن لقطع الطريق على السياسات الإسرائيلية، والدسائس الأمريكية لإفشال حل الدولتين، وذلك بالمسارعة فى «توحيد العرب» والتوافق على رؤية استراتيجية موحدة تجاه القضية الفلسطينية، وبحث خطوات إعمار غزة خلال استضافتها لقمة عربية طارئة 27 فبراير الحالى بالتنسيق مع مملكة البحرين الرئيس الحالى للقمة العربية.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء