تستحق الدولة المصرية تقديرًا خاصًا للدور الذى تقوم به منذ السابع من أكتوبر 2023، ثبت أن الدولة كان لديها رؤية متبصرة ورصينة، فضلا عن امتلاك مؤسسات وأجهزة وكوادر تمسك جيدا بقضايا الأمن القومى والقضية الفلسطينية، مع الأيام ثبت أن الموقف المصرى كان فى غاية الوطنية والإدراك لمخاطر ما يُدبر للمنطقة كلها.
منذ اللحظة الأولى لنشوب الحرب فى غزة، أبلغ بنيامين نتنياهو الإدارة الأمريكية أن الرد الوحيد لديه على عملية السابع من أكتوبر، هو دفع سكان غزة نحو سيناء، ليقيموا بها فى المنطقة الحدودية، هكذا أبلغ نتنياهو وزير الخارجية الأمريكى –وقتها- «بلينكن»، جاء الوزير الأمريكى إلى القاهرة ليقابل الرئيس السيسى ويفاتحه فى الأمر، التقى الرئيس بالوزير منفردًا، وأذاع جانبًا من الاجتماع على الهواء مباشرة، ليبلغه أمام الرأى العام المصرى والعربى، فضلا عن العالم كله، أن مصر ترفض رفضًا تامًا تهجير الفلسطينيين خارج وطنهم، لأن ذلك تصفية للقضية الفلسطينية وترفض بهذا المعنى أن تستقبلهم، يمكن أن يأتى الفلسطينى ضيفًا عزيزًا، أما أن تتم تصفية غزة من سكانها، فهذا غير مقبول، وأكد الرئيس كذلك أن الحل الوحيد هو حل الدولتين، أى إقامة الدولة الفلسطينية وفق القرارات الدولية، وطالبت مصر بضرورة وقف العدوان على المدنيين فى فلسطين والعمل على إدخال مساعدات إنسانية وغذائية لهم.
كانت إسرائيل والإدارة الأمريكية استعانت على مصر -بالأحرى حاولت الضغط عليها- ببعض المأخوذين بالنموذج الأمريكى، ورفعوا شعار «افتحوا الحدود لإخوتنا»، وقامت اللجان الإلكترونية التابعة لجماعة الإرهاب بتبنى ذلك الشعار، لكن الرئيس تحمّل وأصرّ على موقفه، وفى النهاية ثبت أن الموقف المصرى هو الصحيح.
إلى جوار هذا الموقف عملت الأجهزة المصرية مع الأشقاء فى قطر، ومع الولايات المتحدة على تقديم مشروع للهدنة فى غزة يفتح الباب لوقف دائم لإطلاق النار، ثم إطلاق عملية إعادة الإعمار فى غزة مع مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، جهود مضنية بذلها فريق التفاوض المصرى، وفى مايو الماضى اكتمل المشروع، لكن التعنت الإسرائيلى عطّل تنفيذه، فى النهاية تم تطبيقه وبمقتضاه يتم الإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس، وكذا الأسرى الفلسطينيون لدى إسرائيل، ورغم عمليات الاستفزاز هنا وهناك، تتم العملية حتى الآن بنجاح.
رسالة الرئيس عبدالفتاح السيسى، التى أعلنها على الهواء مبكرًا أمام الرأى العام، يبدو أنها لم تصل إلى الإدارة الأمريكية الجديدة، التى راحت تنظر إلى القضية من نقطة الصفر، صحيح أن الرئيس دونالد ترامب هو مَن ضغط حتى قبلت الحكومة الإسرائيلية باتفاق الهدنة وكذا حركة حماس، لكن الاقتراحات غير المدروسة التى صدرت بعد ذلك عن الرئيس ترامب من جانبه ثم عن بنيامين نتنياهو؛ تثبت أن الرسالة لم تصل بعد.
اقترح الرئيس الأمريكى بتهجير سكان غزة جميعا إلى كل من مصر والأردن لمدة قد تصل إلى 15 عاما، كى تتم إعادة الإعمار، ويتم منحهم «قطعة أرض جديدة وجميلة» بدلا من غزة، وأنه يريد أن يجعل من غزة «ريفيرا الشرق الأوسط»، ولو صح ذلك فهذا يعنى أنها سوف تصبح منتجعًا سياحيًا كبيرًا، وليست مدنًا سكنية لأهلها، ومن ثم فلن يكون هناك أى إمكانية لعودة أهل غزة ثانية، اللهم إلا كزوار وسائحين فقط.
كالعادة، اتخذت الدولة المصرية موقفًا صلبًا على لسان الرئيس السيسى، بأن الحل الوحيد هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن مصر ترفض تهجير أهل غزة، وقدمت مصر خططًا لإعادة التعمير دون حاجة إلى إخراج الأهالى، مصر لديها خبرة عميقة فى ذلك الأمر، قامت مصر بعد حرب أكتوبر 1973 بإعادة إعمار مدن القناة الثلاث، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وكان أهلها يقيمون بها، عادوا من التهجير بعد حرب 73 مباشرة، وتم التعمير فى وجودهم.
مصر لم تتحرك هنا منفردة، لكن نجحت فى بناء موقف عربى موحّد، شمل ابتداء من المملكة الأردنية باعتبارها مستهدفة بشكل مباشر مثل سيناء، وجرت محاولات من الإعلام الأمريكى، وكذا بعض المسئولين فى الإدارة الإمريكية للضغط على مصر أو ابتزازها بأنها إذا وافقت فإن الأردن سوف يوافق وكذا الفلسطينيون، لكن لم تعبأ مصر بذلك، بل دعت إلى اجتماع الوزراء الخارجية العرب فى القاهرة، التقى ستة وزراء من ست دول عربية هى السعودية والإمارات وقطر والسلطة الوطنية الفلسطينية إلى جوار مصر والأردن.
الوزراء أكدوا فى بيانهم الختامى على الموقف المصرى الواضح برفض التهجير والإصرار على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
والحق أن الموقف والوعى الشعبى كان جارفا وداعما للدولة وموقفها وللرئيس خاصة، كان الحشد من الأحزاب والنقابات وعموم المواطنين أمام معبر رفح بشعار «لا للتهجير» رسالة للجميع أن الدولة لا تعمل منفردة، لكنها تعبر عن موقف وطنى عميق لدى الجميع فى مصر، من مؤسسات وأفراد ومجتمع أهلى، ونواب البرلمان، والأحزاب المختلفة.
تعليقات الصحف الغربية على الحشد المصرى أمام معبر رفح بأنه تفويض جديد من المصريين للرئيس السيسى، والحق أن الرئيس ليس بحاجة إلى تفويض جديد، نتيجة الانتخابات الرئاسية العام الماضى التى تؤكد ذلك.. لكن هذا الحشد يؤكد أن الدولة المصرية والرئيس تعبر بصدق عن روح وموقف الشعب بمختلف طوائفه، هو مشهد للتلاحم بين القيادة والشعب، إنه الاصطفاف الوطنى.
هذا الموقف القوى شعبيا كان رسالة، ليس فقط فى رفض اقتراح التهجير لكن لأولئك الذين يقبعون فى بعض العواصم والمدن من فلول جماعة حسن البنا وغيرهم، أولئك الذين احترفوا المزايدة على المؤسسات الوطنية، وارتزقوا من الهجوم على المؤسسات الوطنية وعلى الرئيس شخصيا، الرسالة مفادها أن مجموعات المرتزقة والمزايدين لا يعبرون عن أحد فى مصر، ولا يعبرون حتى عن أنفسهم، بل عمن يقوم بتوظيفهم واستخدامهم ومَن يمولهم أو يدفع لهم، يمكن أن نختلف فى قضايا وأمور سياسية أو حياتية يومية، لكن لا يمكن الاختلاف حول قضايا وطنية، تتعلق بتراب هذا الوطن وأمنه القومى.
رغم كل هذا، تصر الحكومة الإسرائيلية على تصفية القضية الفلسطينية، حينما رفض الرئيس السيسى تهجير أهل غزة إلى سيناء، تصوروا أن القضية تتعلق بسيناء فقط فاقترحوا أن يذهبوا إلى داخل مصر، مدينة العاشر من رمضان أو مدينة العبور، وكأن القضية تتعلق بنا نحن وبالموقع الذى يجب أن نختاره للأشقاء، القضية هى أن يظلوا فى وطنهم، يعيشون على أرضهم، ومن حقهم أن تكون لهم دولة على ترابهم الوطنى وكأن هناك توزيع أدوار.
الرئيس ترامب تراجع عن اقتراحه، وذكر أنه تعامل مع الموضوع بمنظور تجارى فقط، وأنه مع التريث فى الأمر وإعادة دراسته، وهذا يعنى أن الصوت المصرى والأردنى والعربى كله وصله، لكن ما إن أعلن ذلك، حتى أطلّ علينا رئيس الوزراء الإسرائيلى باقتراح غريب، وهو أن المملكة العربية السعودية يمكن أن تقيم الدولة الفلسطينية على جزء من صحاريها، يبدو أن الرجل انزعج من الموقف السعودى الصلب بأنه لا تطبيع دون إقامة الدولة الفلسطينية، فكان هذا الاقتراح السمج.
ومرة جديدة، كما هو متوقع، ظهر على الفور الموقف المصرى الصلب تجاه الأشقاء العرب جميعا، خاصة مَن هم على حدودنا، كان رد الخارجية المصرية واضحًا وقويًا، برفض ذلك الاقتراح وعدم القبول المساس بأمن المملكة السعودية وسيادتها، كل هذا وإسرائيل لا تريد أن تقر بحق الفلسطينيين، الآن، فى إقامة دولتهم على الضفة وغزة، دولة عاصمتها القدس الشرقية وفق قرارات الأمم المتحدة والجامعة العربية.
هذا الموقف القوى الواضح والجريء للدولة، وللرئيس السيسى شخصيا، يؤكد لكثيرين أن المقاومة لها أشكال ووسائل عديدة، ليست قاصرة على حمل السلاح، فى بعض الأوقات لا يكون بديلا عن استعمال السلاح، وفى بعض الأوقات يكون استعمال الأسلحة النارية خطأ وخطرا، خطرا حين لا ندرك نواياه والمدى الذى يمكن أن يذهب إليه الخصم، فإذا كان الخصم يسعى نحو الإبادة الجماعية للشعب وتكون لديه الأسلحة، فضلا عن الحصانة الدولية من أى عقاب جراء الإبادة، هنا يكون الخطأ والخطر، ذلك أن واجب المقاومة حماية حياة المدنيين، حماية وجودهم على الأرض، إذا كان الهدف إبادتهم وتهجيرهم طوعيا وحماية كبريائهم وكرامتهم.
فى التاريخ وجدنا غاندى يقود مقاومة ضارية ضد الاحتلال البريطانى للهند، كانت سلمية تماما، لم يطلق غاندى رصاصة واحدة، ومع ذلك نجح فى الحصول على الاستقلال، فى جنوب إفريقيا فعل نيلسون مانديلا شيئا مشابها، فى النهاية أسقط الحكم العنصرى، وتحرر شعب جنوب إفريقيا من سيطرة الأقلية البيضاء.
ولماذا نذهب بعيدًا؟، الشعب الفلسطينى فى انتفاضة الحجارة، وكانت سلمية تماما، حقق مكاسب وطنية وسياسية عديدة، دفعت الانتفاضة الرأى العام العالمى إلى الانتباه للمشكلة الفلسطينية، إسرائيل جلست تتفاوض مباشرة مع منظمة التحرير التى كانت تعتبرها «تخريبية». اتفاق أوسلو سنة 1994، فى جانب منه نوع من التفاعل مع نتائج الانتفاضة، بالإضافة إلى ظروف دولية وإقليمية، جرت –وقتها- بالمنطقة، المقاومة لها أساليب عديدة.
الدور المصرى منذ 7 أكتوبر 2023 نموذج للمقاومة الهادئة والمدروسة، دون اللجوء إلى الأعمال العدوانية، وثبت أن هذا المنهاج هو الذى يجد استجابة وصدى، والحق أن هذا الدور الوطنى العظيم، الذى قاده الرئيس السيسى ومعه كافة أجهزة الدولة من الخارجية إلى المخابرات العامة، فضلا عن دور المجتمع المدنى؛ يتسق تماما مع الدور التاريخى المصرى مع هذه القضية منذ أن تبلورت فى قرار التقسيم سنة 1947، وقتها اقتُرح التهجير على الحكومة المصرية، ورفضت مصر رفضًا تامًا، كان المطروح تهجير 80 ألف فلسطينى داخل مصر مقابل الجلاء البريطانى التام عن منطقة القناة، مع وعد بدعم مصر اقتصاديا، مصر -ممثلة فى محمود فهمى النقراشى (باشا) رئيس الوزراء- قالت لا، كان الرفض قاطعًا، وهكذا الأمر فى زمن الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك إلى يومنا هذا، باختصار مصر الملكية رفضت، ومصر الجمهورية رفضت مع رؤسائها الثلاثة.. ومع الجمهورية الجديدة تأكد هذا الموقف بأنصع وأوضح معانيه.
حين قال الرئيس السيسى إن الموقف المصرى ثابت، سواء كان هو موجودا فى موقعه أو غير موجود، فإنه كان يؤكد هذا المعنى، تلك روح مصر وشخصيتها وتاريخها، ومَن يراجع تاريخ القضية الفلسطينية، يجد أن مصر نبهت مبكرا فى مطلع القرن العشرين من خطورة الهجرات اليهودية المتزايدة إلى فلسطين، وفى القاهرة كانت مظاهرات الغضب ضد وعد بلفور سنة 1917، ثم فى حوادث البراق سنة 1929، وهكذا إلى يومنا هذا.. حين اتخذ الرئيس السيسى الموقف الصلب فى وجه الإدارة الأمريكية كان يعبر عن روح مصر وشخصيتها.
القضايا الوطنية التى تتعلق بحدود مصر وسيادتها لا موضع للمجادلة فيها، ولا تحتمل مزايدة الصغار، لذا باء المزايدون فى هذه الأزمة بسخط وازدراء الرأى العام، وانكشف وجههم القبيح.
كان العظيم توفيق الحكيم هو الذى صاغ فى رائعته «عودة الروح» شعار «الكل فى واحد» تعبيرا عن الروح الوطنية فى ثورة سنة 1919، ونحن فى هذه القضية جميعًا واحد، الحاكم والمحكوم، الرئيس ورجل الشارع، كلٌّ فى موقعه وحسب مسئوليته، وهنا لا بدّ من التقدير لموقف الدولة.. التقدير لمسناه حول العالم وفى المنطقة وفى الشارع أيضًا.