رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

المغرب الثقافى: الثقافة تؤسس للسياسة


17-2-2025 | 06:52

المغرب الثقافى: الثقافة تؤسس للسياسة

طباعة
بقلم: د. أحمد عبد الحليم عطية

هناك صفات متعددة يتصف بها رجل السياسة، خاصة السياسة الخارجية، صفات الدبلوماسى الذى يعد الصورة الأرقى التى يمكن أن تقدمها أى دولة فى تعاملها مع غيرها من الدول، فهو الأكثر تعبيراً عن دولته: تاريخها وسیاستها، إنجازاتها وغاياتها. وهو الأقدر على فهم الأحوال الدولية وتأثيرها فى القضايا التى تهم العالم وتؤثر على العلاقات بين بلده والبلد الذى أرسل سفيرا إليه، وهو يتصف بالفهم التاريخى والنظريات السياسية، وحينما يُضاف إلى ذلك الفكر والفلسفة يكون مثالاً لما حدثنا عنه أفلاطون حول السياسى الفيلسوف.

ومن حسن الطالع أن يكون العديد ممن عملوا سفراء للمغرب الشقيق فى مصر من المثقفين المفكرين الفلاسفة، الذين تفخر بهم الثقافة العربية بمعناها الأوسع والفكر العربى المعاصر بمعناه الدقيق. فقد عاش بيننا المفكر المغربى الكبير عبد الله العروى فى الستينيات مستشاراً ثقافياً فترة التحرر والاستقلال العربى، وفى مصر أنجز عمله المهم “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”، وكثير من المثقفين يذكرون أعماله المتعددة حول مفهوم الحرية ومفهوم الدولة ومفهوم التاريخ، وهى الكتب التى تؤسس للثقافة والفكر العربى المعاصر، وهناك أيضاً المفكر المغربى صاحب “الخطاب التاريخى” والدولة الوطنية والإصلاحية العربية وغيرها على أو مليل الذى درس فى مصر فى بداية الستينيات فى صحبة كثير من أساتذتنا، وعين سفيرًا فى مصر للمغرب منذ حوالى عقدين من الزمان وكان له حضوره الكبير فى مصر بين الساسة والمثقفين.

 

وهذا الأمر هو ما يحدث الآن مع السفير المغربى الجديد حميد وايت على، الذى كان بيننا من ثلاثة عقود والتحق بقسم الفلسفة جامعة القاهرة؛ ليعد أطروحته الأكاديمية حول “السياسة عند الغزالى”، وكان ذلك مع أستاذنا الدكتور يحيى هويدى وزميلتنا الدكتورة زينب الخضيري.

 

تجربة علمية إنسانية عشتها فى هذه الفترة، وهى تجربة تؤكد مع ما سبق أن ذكرته عمق العلاقات الثقافية والأخوية بين مصر والمغرب، تجربة لم تتح لى الفرصة من قبل للحديث عنها.

 

وقد زرت المغرب مرارًا وجاء الصديق والزميل السفير الحالى إلى مصر من قبل منتشراً ثقافياً، ومن هنا ونظراً لأهمية هذه التجربة فى بيان دور الثقافة والفكر والفلسفة فى العلاقات بين الأمم والشعوب ذات العمق التاريخى والثقافى أتوقف فى هذا المقال للحديث عنها ربما تفيد فى رؤية إشكاليات الواقع العربى الحالى، وفى التأكيد على ما يمكن أن يسهم به الفكر والثقافة فى تأسيس أعمق للعلاقات السياسية استرشاداً بقول زكى نجيب محمود “العروبة ثقافة”.

 

كان السفير حين كان طالبًا دائم التواجد فى مصر أثناء دراسته، على العكس من العديد من الطلاب العرب الذين يدرسون بالقاهرة، كان كثير الحضور إلى قسم الفلسفة يدرس ويناقش، يتحدث كثيراً جداً عن الفلسفة فى المغرب والتى كانت مزدهرة للغاية فى هذا الحين وحتى الآن، يحدثنا عن تيارات الفلسفة وأعلامها فى المغرب منْ نعرفهم وكذلك الجيل الجديد فى الجامعات المغربية، كان يستحضر كتبهم الجديدة التى يصعب تواجدها فى القاهرة، يقدمها للباحثين فى مصر، لا يكف عن الحديث عن الفلسفة فى المغرب بتعمق واعتزاز ممن يجتمع حوله كل منْ يريد أن يستزيد.

 

وكنت بدورى أحدثه عن الفلسفة فى مصر وبداياتها وأعلامها. والحقيقة أن هناك مهمة كانت مصدرا للاهتمام المشترك بيننا تتعلق بدور عدد من الأساتذة المصريين ممن قاموا بالتدريس فى المغرب، أشير إلى عدد منهم لبيان أهمية هؤلاء الأساتذة بالنسبة للأجيال الأولى من فلاسفة المغرب، والأهم هو عناية الأساتذة فى المغرب بالاحتفاء بهم وبأعمالهم، ربما أكثر مما فعل الأساتذة فى مصر، وهم على التوالى: على سامى النشار ونجيب بلدى وحسن حنفى، ونحن لا نزال نتذكر العمل المشترك “حوار المشرق والمغرب” بين حسن حنفى ومحمد عابد الجابرى كما نتذكر الكتاب التذكارى الذى أصدره أساتذه المغرب عن أستاذهم الفيلسوف، الذى للأسف لا نذكره فى مصر رغم حضوره الفلسفى الكبير وهو نجيب بلدى: لم نتذكره نحن واحتفى به فى المغرب الاحتفاء اللائق به.

 

ذكرت ما كان يقوم به حينها فى زمن دراسته بالجامعة الأم فى مصر -سفير المغرب الحالى وهو عمل ليس رسميًا بل مهمة ثقافية فكرية إبان إعداده للحصول على أطروحته للماجستير، حيث قام بدور السفير الثقافى والفكرى للفلسفة المغربية، لكن هذه المهمة تمثل فى الحقيقة نصف الجهد الذى قام به، يكتمل هذا الجهد بالتجربة التى عشتها بنفسى فى زيارتى للمغرب والتقائى به، ووجدت الدور الذى يقوم به للثقافة والفلسفة فى مصر بين الأساتذة فى المغرب يُحدثهم عن جهود المفكرين والمنظرين فى مصر وكتاباتهم وأهم ما يطرحونه من آراء، وأنا أصغى إليه باهتمام متذكرًا حديثه المستمر فى القاهرة عن الفلسفة فى المغرب، الذى يقابله حديثه المستمر فى المغرب عن الفلسفة فى مصر وكأنه يجسد الجهود الثقافية المصرية، وهو ما كان يدركه جيداً، كما فيما أكد عليه حين التفت إلىّ والابتسامة تعلو وجهى ويقول: “حين أكون فى مصر أتحدث عن المغرب وأنا ها هنا بالمغرب أتحدث دائماً عن مصر”، كان يزرع أو يرعى بذور التعاون الثقافى العربى منذ نهاية الثمانينيات سفيراً للثقافة والفكر العربى.

 

أكدت وعمقت اللقاءات والحوارات الدائمة فى مصر والمغرب مع سفير المغرب الدبلوماسى الثقافى معرفتى بأجيال متعددة من الفلاسفة والأساتذة المغاربة مثل الدكتور بنشريفة رئيس الخزانة الحسينية والدكتور محمد عزيز الحبابى عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورائد الفلسفة فى المغرب، الذى شارك كلا من المصرى محمود قاسم عميد دار العلوم والسورى بديع الكسم أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق فى تعريب الفلسفة فى الجزائر فترة الستينيات بعد الاستقلال فى الجامعات الجزائرية تأكيداً لعروبتها. تعرفت على الحبابى منذ 1975 مثلما تعرفت على كل من محمد عابد الجابرى حيث يأتى إلى مصر ويلتقى صنوه حسن حنفى فى القاهرة ونجلس معاً فى حديقة غرناطة فى مصر الجديدة، مثلما التقيت فى مصر مع طه عبد الرحمن. الوجه الأكثر حضوراً اليوم والذى ما زلت أحتفظ بكتبه الأولى التى وصلتنى من المغرب، وجاء طه عبد الرحمن إلى قسم الفلسفة بالآداب القاهرة، استمعنا إليه وتحاورنا معه وتكررت لقاءاتنا به فى السودان والأردن فى العديد من الملتقيات الفلسفية بالنسبة للجيل الحاضر فى الفلسفة المغربية من تلاميذ الحبابى، التقيت مجموعة ممن حضروا لقاء الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التى أسسها مراد وهبة، وكان اللقاء الأول بمبنى جامعة الدول العربية، وحضره «أير» الفيلسوف الإنجليزى الكبيرـ والذى كان الحبابى نداً له فى العديد من المواقف. وعائلا منذ الحبابى لتكريمه وترشيحه لجائزة نوبل، وشاركت فى ذلك بدراسة كان يعتز بها عنوانها «الكوجيتو الإبداعى عند الحبابي». كان هؤلاء الذين حضروا معه وهم الآن أساتذة الأساتذة فى المغرب؛ على ما أذكر كمال عبد اللطيف ومحمد وقيدى ومحمد المصباحى وعبد السلام بنعبد العالى، وأرجو المعذرة فى الذاكرة فهناك نصف قرن على هذا اللقاء. وتعددت لقاءاتنا مع هذا الجيل فى المغرب والقاهرة وعمان وبيروت يضاف إليهم عدد من الوجوه البارزة اليوم فى العالم العربى وخارجه مثل إسماعيل المصدق ومحمد الأشهب، ونذكر أيضاً ممن تواصلنا معهم مثل يوسف بن عدى. والحقيقة أن الدور الذى يقوم به أهل الفلسفة فى المغرب ومثقفوه دور مهم للغاية فى الحوار والتواصل ليس فقط داخل الحضارة والفكر الفلسفى الغربى المعاصر، مثلما نجد لدى الكثيرين خاصة نور الدين أفايه وفريد الزاهى، بل التواصل مع الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الإسلامية، كما يظهر بصورة واضحة لدى محمد المصباحى. هذا التواصل والحوار والسعى إلى خطاب فلسفى عربى جديد هو ما دفعنى إلى الحديث عن المغرب الثقافى، وهو حديث يطرح علينا سؤالا «آن أوانه». هو دور الثقافة والفكر فى تحديد توجهات الحاضر العربى، الذى يمر بالكثير من الأزمات لغياب رؤية شاملة للأمة العربية ودورها فى العالم المعاصر ونهوضها بالدور الذى يتفق وحضورها التاريخى، وهى رؤية تقوم فى جوهرها على الفلسفة، وهى الرؤية المتوارية فى الدوائر الثلاث أو المهمش فى المثلث الذى يضم الدين الذى يمثل العمق التاريخى والحضارى، والسياسة التى تمثل الحضور فى العلاقات الدولية وما يحكمها من موازين القوى، ويظل الفكر وما يحمله من رؤى مستقبلية هو هذا الضلع الثالث الذى يقدم لنا خطابًا فلسفيًا يؤازر ويساعد خطاباتنا الدينية والسياسية، وهى ما نقصده بكون العروبة ثقافة، تلك الدعوة التى تأكدت لدىّ ولدى عدد من المثقفين العرب وفى مقدمتهم الأساتذة فى المغرب، وصار التأكيد أكثر إلحاحاً بعد حصار غزة وإبادة أهلها، حيث نهض هؤلاء بعدما قام كبير فلاسفة الغرب اليوم يورجين هابرماس بإصدار ما أسماه “بيان التضامن” الذى يؤيد حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها دون أية إشارة لما يلاقيه أهل غزة من قتل وإبادة وطرد وتشريد، فاندفعت مجموعة من أساتذة المغرب كانوا تلاميذ مخلصين لفلسفة هابرماس، كتبوا عنه وترجموا أعماله، بجملة مهمة ليس فقط للرد على الفيلسوف اليهودى الألمانى الذى تجاوز التسعين، ونادى بأخلاق الحوار وأبعد الفلسطينى منه؛ بل لتأكيد أهمية حضور الفلسفة العربية المعاصرة لمناقشة قضايانا الوطنية، وهو ما أدعو إليه للتحول من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل، وهى دعوة ليس لتأكيد ضرورة الانتقال من التلقى إلى اللقاء مع الغرب، بل أيضاً وفى الأساس للتلقى واللقاء مع أنفسنا فى عالمنا العربى، وهو موضوع يحتاج إلى نقاش وحوار طويل خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العربية- العربية، بعضها مع بعض والتى تشترك فى حدود مشتركة، وما يمهد إلى ذلك هو الدور الذى يمكن أن تنهض به الفلسفة، كما ظهرت فى تلك التجربة المتميرة للسفير الذى توحدت فيه الدبلوماسية مع الفلسفة، معبرًا عن المغرب الثقافى، مما يجعلنا نأمل فى الدور الذى يمكن أن يقدمه الفكر والثقافة للأمة العربية.