فى إطار محاولات الإدارة الأمريكية الحالية لتقليص الإنفاق الحكومى وإصلاح الحكومة الفيدرالية، أعلن الملياردير إيلون ماسك، بدعم من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية«USAID»، مما أثار حالة من القلق بشأن تفاقم الأزمات الإنسانية، وأدى إلى موجة انتقادات من الديمقراطيين فى الكونجرس والعاملين فى الخدمة الخارجية، الذين اعتبروا القرار غير قانونى وتعهدوا بخوض معركة قضائية.
ومع دخول قرار إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حيز التنفيذ، تم إبلاغ موظفى الوكالة بالبقاء فى منازلهم، وإغلاق مقرها الرئيسى فى العاصمة واشنطن كما أُزيلت الشعارات والصور من المكاتب، وتم تعطيل الموقع الإلكتروني، بالإضافة إلى ذلك، وُضع اثنان من كبار مسئولى الأمن فى إجازة إدارية لرفضهما السماح لأفراد من إدارة كفاءة الحكومة «دوج»، التى يقودها ماسك، بالوصول إلى أنظمة الوكالة، بما فى ذلك الملفات الشخصية للموظفين والمعلومات السرية،. علاوةً على ذلك، أعلن وزير الخارجية ماركو روبيرو ضم الوكالة إلى إدارته، مؤكدًا تعيينه مسئولًا عنها، ومشدّدًا على أنه سيوقف «تمردها» على أجندة ترامب.
تأسست وكالة التنمية الدولية عام 1961 على يد الرئيس جون ف. كينيدي، وهى تقدم مليارات الدولارات من المساعدات الإنسانية للدول حول العالم، ويؤكد المدافعون عن الوكالة أن تمويلها رغم ضآلته مقارنة بالميزانية الفيدرالية الإجمالية، يمثل شريان حياة بالغ الأهمية لأكثر من 100 دولة، كما يسهم فى بناء التحالفات ومواجهة النفوذ الروسى والصيني، ومع ذلك، انتقد ترامب الوكالة، معتبرًا أنها تهدر الأموال وتعزز البرامج الاجتماعية الليبرالية. كما أنه لطالما عارض الإنفاق الخارجي، معتبرًا أنه لا يمثل قيمة مقابل المال لدافعى الضرائب الأمريكيين. بناءً على ذلك، فرض تجميدًا شاملًا على المساعدات الخارجية الأمريكية لمدة 90 يومًا، وكلف ماسك بتقليص دور الوكالة فى المساعدات الإنسانية. بدوره، قام ماسك بتسريح آلاف الموظفين وإغلاق برامج المساعدات فى جميع أنحاء العالم خلال الأسبوعين الماضيين.
أثار تورط ماسك فى الوكالات الفيدرالية موجة من الإدانة بين الديمقراطيين، إذ اعتبروا ذلك دليلًا على النفوذ الهائل الذى يمارسه والصلاحيات الواسعة الممنوحة له كما نظموا احتجاجًا خارج مقر الوكالة، معتبرين القرار «غير دستوري»، وطالبوا بإجراء تحقيق فى التهديدات الأمنية المحتملة التى يشكلها فريق ماسك، لا سيما بعد أن كلفه ترامب وفريقه بمراجعة نفقات وزارة الدفاع «البنتاجون»، التى تبلغ ميزانيتها المقترحة لهذا العام 850 مليار دولار.
فى المقابل، أصدرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفات، بيانًا جاء فيه: «إيلون ماسك يخدم إدارة الرئيس ترامب بلا أنانية كموظف حكومى خاص، وقد التزم بجميع القوانين الفيدرالية المعمول بها»، وفقًا لما أفادت به شبكة «سى بى سي”. فى الوقت نفسه، أثار القرار موجة غضب عارمة، إذ رفعت جمعية الخدمة الخارجية الأمريكية والاتحاد الأمريكى لموظفى الحكومة دعوى قضائية لوقف ما وصفوه بـ»التفكيك الفعلي» للوكالة.
كان لإغلاق الوكالة تأثير عميق وفورى على قطاع المساعدات العالمية، إذ تمثل المساعدات الخارجية الأمريكية أربعة من كل عشرة دولارات تُنفق عالميًا على المساعدات الإنسانية. ووفقًا لصحيفة «الجارديان» البريطانية، حذرت منظمات الإغاثة من تصاعد خطر الأمراض والمجاعة، إلى جانب العواقب الكارثية فى مجالات مثل تنظيم الأسرة وتعليم الفتيات.
وفى القارة الإفريقية، تُرك مئات الآلاف من الأطفال، الذين كانوا يعتمدون على وجبات المدارس الممولة، بلا طعام. كما أُغلق مشروع تعليم الفتيات فى نيبال، مما يزيد من خطر ارتفاع حالات زواج الأطفال والاتجار بالبشر. وفى جوهانسبرج، أغلقت المشاريع التى اعتمدت لأكثر من 20 عامًا على تمويل برنامج الاستجابة لفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز فى الولايات المتحدة، والمعروف باسم «بيبفار”. فى المقابل، رأى البعض أن ما حدث كشف عن هشاشة برامج التنمية التى تعتمد على المساعدات الخارجية، حيث حث الرئيس الكينى السابق أوهورو كينياتا الدول الإفريقية على اعتبار تجميد المساعدات «دعوة للاستيقاظ»، تحث القارة على إعطاء الأولوية لتنميتها الذاتية.
وفى تحليل خاص لـ«المصور»، أوضح الدكتور إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مورى ستايت وعضو الحزب الجمهورى الأمريكي، أن هناك اعتقادًا واسعًا بين الأمريكيين بأن بلادهم تنفق أموالًا طائلة لمساعدة العالم، رغم أن هذه المبالغ، وإن بدت ضخمة، تظل ضئيلة مقارنة بحجم الاقتصاد القومى الأمريكي، بل أقل مما تقدمه بعض الدول الغنية الأخرى.
وأضاف الخطيب أن أنصار ترامب يرون أن هذه الأموال تُنفق على مشاريع لا تدعم مصالح الولايات المتحدة، بل تعزز أجندة الحزب الديمقراطى التي وفقًا لهم، تضعف القيم التقليدية للأسرة. كما يرون أن الأموال لا تُنفق بطريقة مسئولة، بل تُخصص لمشاريع ليست ذات أهمية، مثل تخصيص 20 مليون دولار لبرنامج الأطفال «أهلًا سمسم» فى العراق، وصرف مليونى دولار على مشروع تعليم صناعة الأوعية الفخارية فى المغرب.
وأشار «الخطيب» إلى أن هناك أيضًا برامج ممتازة تحارب المجاعة وتوفر فرصًا تعليمية، مما يعزز القوة الناعمة للولايات المتحدة ويخلق صداقات. فالولايات المتحدة تنفق سنويًا 880 مليار دولار على الدفاع، بينما تُخصص مبالغ ضئيلة نسبيًا للتنمية، وهو ما يجعل إغلاق البرامج فجأة أمرًا غير عادل، لما يسببه من خسائر للمستفيدين، إلى جانب ما يخلقه من دعاية سلبية تؤثر على المكانة الدبلوماسية لأمريكا.
وفيما يتعلق بشرعية إغلاق الوكالة، أوضح «الخطيب» أن الرئيس، بصفته رأس السلطة التنفيذية، يتمتع بصلاحيات واسعة فيما يتعلق بتجميد الإنفاق ومراجعته، ولديه الحق فى إحاطة مستشاريه بهذه الأمور. ومع ذلك، أشار إلى أن «ليس كل ما هو قانونى جيدا بالضرورة»، مشددًا على أنه كان ينبغى التعامل مع الأمر بحكمة، عبر تقييم كل برنامج على حدة بدلًا من إيقاف جميع المشاريع دفعة واحدة. وأضاف أن ترامب سبق أن جمّد الإنفاق على برامج داخل الولايات المتحدة، لكنه واجه مقاومة داخلية شرسة اضطرته إلى التراجع. أما بالنسبة للمستفيدين خارج أمريكا، فقد باتوا ضحايا أبرياء للصراعات السياسية الداخلية.