كتابة المقدمات للمؤلفات فن لا يجيده سوى المجيدين، وعادة ما يكتب المقدمة اسم (علم) فى تخصصه، مضاف إليه، يضيف إلى الكتاب وصاحبه.
أخشى كتابة المقدمات، يقينى لم أرتق هذه المكانة العالية، لا يرتقيها إلا أصحاب الأفكار المدهشة، وإذا كان الكتاب «يبان من عنوانه»، فالمقدمات تنبئ عن مكنونه، والدرر المكنونة تحتاج إلى جواهرجى حاذق، يميز الأحجار الكريمة، يجليها تبرق فى عين الشمس.
وعلى ذكر الأحجار الكريمة، لا تجد مثيلًا لأحجار سيناء العزيزة، لذا تحليت بشجاعة عادة ما تنقصني، وقبلت جوهرة من الأديب الأريب الدكتور «صلاح سلام»، مؤلفه العذب، «العريش.. سنوات الحب والحرب»، وعزفت على أُرْغُوله لحن كلمات صاغها بحنو، ورقة، وعشق لأرض الفيروز.. وفاجأنى الدكتور سلام بتصديرها مقدمة لكتابه الجميل..
«نوستالجيا» كلمة جذرها يوناني، ومعناها الحرفى يترجم هكذا، نص الكلمة «نوست» بمعنى الرجوع للبيت و «الجيا» بمعنى ألم أو وجع، مثل وجع البعاد، وجع الفراق، معناها الأقرب نفسانيًّا، الحنين للماضى، للأهل، للعشرة القديمة، والعيش والملح، وأيام القمر ينير ليالى العاشقين، وونسة الشاى المسكر بصحبة الطيبين بعد صلاة العشاء.
والحنين بالإنجليزية Nostalgia، تعود أصوله إلى اليونانية القديمة وتعنى «ألم الشوق»، مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، إذ يشير إلى الألم الذى يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد.
«نوستالجيا» فى المراجع الطبية النفسانية، وصفت على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب، كان ذلك فى زمن ماضٍ، فى بدايات الحقبة الحديثة ثم أصبحت بعد ذلك موضوعًا محببًّا للأدباء، ذا أهمية بالغة فى فترة الرومانتيكية.
فى الغالب يختصرونها فى الحُنان هو نزوع شديد، وحب عميق للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها، وتعتمد النوستالجيا على المشاعر والحالة الفسيولوجية للجسم والمكان والحالة السيكولوجية..
¿ ¿ ¿
كتاب «العريش.. سنوات الحب والحرب» للصديق الأديب الأريب الدكتور «صلاح سلام»، يقع فى منطقة الـ»نوستالجيا»، الحنين للبيت والفرن والضيعة والقبيلة، لحصى الأرض وافتراش الرمل على ضوء القمر، ولهيب الشمس تلوح الوجوه، ودموع الفرح بعد الانكسار، وزوال الغمة، غمة الاحتلال، ولقاء الأحباب بعد غياب، والحب العذرى فى صحراء الطهر والعفاف، والعزف على أرغول على صدى صفير الرياح، والجنب على رمل الأرض يرتاح، والرجل «تدب مطرح ما تحب».. كما تغنى طيب الذكر شيخنا وشيخ الطريقة الشيخ «سيد مكاوي» مسحراتى المحروسة.
مفارقة هذا الكتاب مقدمته، تخيل كاتب السطور (منوفى قح) يلحن على ما خطه (سيناوى قح)، المفارقة الأجمل أن ذكريات السيناوى ملونة على منوفي، ما أبعد المسافة، لكن القرب الوجدانى حاضر حتى فى «يوم الخبيز» .. ومثله أيام سعيدة..
تستغرب، نفس تفاصيل وملامح اليوم الدافئ السخى المشبع.. صحيح المنايفة حاربوا الاحتلال جندًا مجندة فى صفوف الجيش الوطني، وكانت لهم صولات وجولات فى معارك سيناء، ولكن جند المعركة هم «المرابطون» من أهل سيناء، كانوا سندًا وظهرًا حاميًا لجنودنا فى الصحراء..
¿ ¿ ¿
المذكرات كما تعرف أدبيًّا، كتابات تأريخية أو أدبية يكتب فيها المؤلف عن محطة أو محطات من حياته باعتباره «شاهد عيان» على فترة تاريخية أو وقائع محددة، وعادة ما تأتى المذكرات بمفاجآت كإضافة معلومات غير معروفة أو كشف خبايا أو إماطة اللثام عن أسرار محفوظة فى صدور أصحابها.
ما بين أيدينا ليس «مذكرات» بالمعنى الحرفى للمذكرات، «العريش.. سنواتُ الحب والحرب» للصديق الطبيب الدكتور صلاح سلام، أقرب لـ «ذكريات» ذكريات عبرت، وكما كتب طيب الذكر الشاعر الحزين «أحمد رامي» فى قصيدته الراقية «ذكريات» وتغنت العظيمة كوكب الشرق «أم كلثوم» على موسيقى العبقرى «رياض السنباطي»..
« ذكرياتٌ عبرتْ أفقَ خيالي
بارق يلمعُ فى جنحِ الليالي
نبَّهتْ قلبِيَ من غفوتِهِ
وجَلَتْ لى سِتْرَ أيامى الخَوالي
كيفَ أنساها وقلبى لمْ يزلْ يسكُنُ جنبي
إنَّها قصةُ حبِّى .. «
إنها قصة حب طبيب سيناوى من عيون سيناء، لعروسته البهية، للعريش الصامدة فى وجه الزمان، لأهله وناسه، أحبها حبًّا ملك عليه قلبه، وترجمه لسانه فى أقاصيص ملونة ، يقينى لا تزال بئر عشق «سلام» عامرة بالحب، ولو قضى جل عمره يكتب بمداد حبه، وينهل من بئر قلبه، ما ارتوى عشقًا لقمر الصحراء ينير ليالى بيوت العريش..
¿ ¿ ¿
استوقفتنى ولفتتنى أقصوصة «يوم الخبيز»، لمحة بكاميرا ناعمة، مشهد مصرى صميم، الفرن رمزية مصرية، فرع من الفرن الفرعوني، لكم خبزت مصر للعالم فأطعمته من جوع وآمنته من خوف، أدخلوا مصر لكم ماسألتم دعوة مفتوحة للغارمين والخائفين وأبناء السبيل..
من الأقصوصة: «كان الفرن الطينى الذى يقبع فى أقصى يمين الدار تحت عريشة خشبية يغطيها جريد النخيل هو مصنع المعجنات فى بيت الحاجة وهيبة «ياسمين»، حيث يتم إنتاج الخبز البلدى و»البيتزا» والكعك والقُرص السادة وقُرّص «بتشديد الراء» العجوة والكماج، والأخير هو أشبه بالرغيف، ولكنه معجون بكثير من الزيت أو السمن..
وأحيانًا تتم تسوية بسكويت النشادر.. حيث تتبوأ الحاجة وهيبة مقعدها أمام الفرن فى ساعات الصباح الأولى، وربما تنتهى بعد أذان العصر.. هذا اليوم تسبقه بعض الطقوس وأولها أن أذهب لأنبه على الجيران بطول الشارع أن يقوموا بتحضير العجين، «فغدًا سوف نشعل نيران الحب والود والخبز أيضًا»..
يستمر سلام فى الحكى متلذذًا برائحة أرغفة الخبيز الساخن، وفى أقصوصة أخرى يستعد بطبق العسل والطحينة ليغمس أرغفته الساخنة، هنيئًا مريئًا، هكذا عرف الشبع على طبلية أبيه صغيرًا، والشبع يلون سطوره، شعب عيش، ونجاح، وحب، وجندية، وشهادة وووو أشياء أخرى.
¿ ¿ ¿
وهكذا يستمر العزف، عزف سلام على الناى الحزين، يستعيد صورًا من ألبوم الذكريات، فى الغالب صورًا بالأبيض والأسود، قبل تلوين الصور، قبل أفلام ألوان السماء السابعة.
بين دفتى الكتاب، صور من حكى أصيل غير» مزيف ولا مزوق»، سلام لا يكذب ولا يتجمل، يرسم الصورة بقسوتها ونعومتها، بشرها وخيرها، ما تيسر من سيرة المرابطين، سير المجاهدين، وطرفًا من قصص الخيانة والعمالة، وكيف تغسل العريش شعرها مما علق به من تراب ناعم، وكيف تتطهر من دنس الأوغاد فى مياه البحر..
وهكذا حكايات.. حكايات صلاح سلام، والحَكَّاءُ من يَقُصُّ الحِكَايةَ فى جَمْع من النَّاس، وسلام يقص الحكاية، وحكاية وراء حكاية، «يلضمها بخيط حريرى « من أشعة القمر يطل على ليالى الحب، سرد مشوق، صور مدهشة، لغة بسيطة، رسائل بعلم الوصول.. العريش ليست مدينة عادية، استثنائية، ليس كمثلها صورة..
أقصوصة «يوم الخبيز»، لمحة بكاميرا ناعمة، مشهد مصرى صميم، الفرن رمزية مصرية، فرع من الفرن الفرعوني، لكم خبزت مصر للعالم فأطعمته من جوع وآمنته من خوف، أدخلوا مصر لكم ماسألتم دعوة مفتوحة للغارمين والخائفين وأبناء السبيل