رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

بتجرد شديد نجح السيسى فى إجهاض مشروع التهجير


22-2-2025 | 21:04

بتجرد شديد نجح السيسى فى إجهاض مشروع التهجير

طباعة
بقلم: حلمي النمنم

لا مفر ولا بديل عن إقامة الدولة الفلسطينية على أرض غزة والضفة الغربية، هذا ما برهنت عليه الأحداث الكبرى فى المنطقة منذ يوم 7 أكتوبر 2023، وربما قبل ذلك بكثير.

 

الحرب الأخيرة فى غزة تختلف عن الحروب الأربع السابقة التى شنتها إسرائيل على غزة، فى الحروب السابقة كانت حركتا حماس أو الجهاد وأى من الفصائل الأخرى، تقوم بعملية ما ترد إسرائيل بغارات قاسية، هدفها التأديب والانتقام ورد الحركتين والفصائل عمومًا إلى حالة أضعف، ويبدو أن الذين خططوا لعملية السابع من أكتوبر، أرادوا تكرار عملية مثل خطف جلعاد شاليط، وبمقتضى ذلك يتم الإفراج عن كل المسجونين الفلسطينيين لدى إسرائيل، لكن أحداث وروح التاريخ يكون لها رأى آخر، ذلك أن العملية نجحت فوق ما يتوقع من خطط لها، وكان هناك فى إحدى المستوطنات مهرجان فنى دولى، وهكذا تم أخذ عدد كبير من الرهائن. بإزاء ذلك قررت حكومة نتنياهو أن تتخذ منهجًا مغايرًا للحروب السابقة، هذه المرة لم يكن الهدف هو التأديب ولا العقاب، بل وجدها نتنياهو فرصة ونشر أن إسرائيل تعرضت لمحرقة أخرى، هولوكست جديد، وصدق العالم لعدة أيام، خاصة الرئيس جو بايدن، حيث تحدث عن قطع رؤوس الأطفال اليهود وإحراق بعضهم، وهكذا قرر الاتجاه نحو التصفية النهائية أو الإبادة الجماعية.

كانت خطة نتنياهو فى الأسابيع الأولى تتمثل فى إخلاء غزة من كل سكانها ودفعهم جميعًا نحو شبه جزيرة سيناء فى المنطقة الحدودية بين مصر وفلسطين، لم تعارض الإدارة الأمريكية تلك الخطة وجاء وزير الخارجية الأمريكى السابق بلينكن ليطرح المشروع على مصر ودول المنطقة، وبدأت قنابل من الدخان لإكراه مصر على الموافقة والقبول بذلك الاقتراح، فقد انطلقت المجموعات التى لا تعرف سوى المزايدة على الدولة المصرية والمكيدة للرئيس السيسى شخصيًا، إلى رفع شعار “افتحوا الحدود لأخوتنا” وانطلق بعض المنظرين يتحدثون عن ضرورة فتح ممرات آمنة فى سيناء لأهل غزة، اعترافًا باتفاقية جنيف، لكن الموقف المصرى كان صلبًا وصارمًا، بأنه لا تهجير ولن نستقبل أهل غزة.

 

وشرح الرئيس السيسى الموقف المصرى مرارًا من أن قبول التهجير يعنى تصفية القضية الفلسطينية برمتها وإلى الأبد، وراحت الأطراف العربية تقتنع، بمن فيهم قادة حماس الذين تبنى بعضهم فى الأيام الأولى مسألة “افتحوا الحدود” انتبه الجميع إلى أصالة الموقف المصرى وساندوه، بعضهم أشاد للمرة الأولى بالدور المصرى.

 

وفى عملية تذاكى على مصر أعاد نتنياهو الاقتراح بأن تستقبل مصر سكان غزة فى مدينة العاشر من رمضان أو أى مكان آخر فى أنحاء الجمهورية، وأبدى تفهمه لقلق مصر من تواجدهم فى سيناء، لكن المشكلة لم تكن فى أن يكونوا بسيناء أو خارجها فى الوادى، القضية هى فى ضرورة بقائهم على أرضهم، فى وطنهم، أما إذا خرجوا منه، فلن يسمح لهم بالعودة مرة ثانية ولا حتى كزائرين.

 

نجحت مصر فى بناء موقف وطنى أولًا، وعربى ثانيًا، وإقليمى فى المقام الثالث ثم دولى وأممى يحذر من إخلاء غزة أو الضفة من سكانها وتصفية القضية برمتها، بإزاء ذلك اتجه نتنياهو إلى بديل لتلك الخطة، وذلك بضرب المدنيين ومحاولة إبادتهم جميعًا، طبقًا لتقديرات الجارديان البريطانية، قتل نحو 70 ألف فلسطينى من جراء تلك الغارات، وأصيبت أكثر من 120 ألفا، هناك تقديرات موثوقة دولية أن حوالى 6% من سكان غزة تعرضوا للقتل أو الإصابة الشديدة، التى تعجز أصحابها عن العمل أو ممارسة الحياة الطبيعية.

 

وكالعادة تحملت مصر العبء الأكبر وقامت مع قطر بجهد كبير فى الوصول إلى هدنة وتوقف للقتال، الهدف هو التقاط الأنفاس ونزع فتيل الانفجار، كى يعود الأهالى إلى بيوتهم، ومن ثم يرفع عنهم شبح التهجير أو الإبادة، ثم جاء الرئيس دونالد ترامب بمشروع تحويل غزة إلى ريفيرا الشرق الأوسط، وهذا المشروع يقتضى قبل اتخاذ أى خطوة به تفريغ غزة من سكانها جميعًا لمدة 15 سنة، على أن تستقبلهم مصر والأردن. ثم عاد ليكمل اقتراحه، بأن يتم ضم الضفة إلى إسرائيل لتوسيع ساحتها. يحسب للرئيس ترامب الصراحة والمباشرة الشديدة، لا يغلف نواياه بمعسول الكلام ولا الصياغات الدبلوماسية التى لا تقدم أى حل لأصحاب القضية، وأمام هذا المشروع انكشف الأمر كله أمام العالم، كثيرون حول العالم عبروا عن رفض مشروع ترامب ورفضوا هكذا تعامل مع أرض محتلة، حتى داخل الولايات المتحدة، هناك رفض شديد واستهجان لفكرة تحويل غزة إلى ريفيرا الشرق الأوسط، مما دفع ترامب إلى إعادة النظر فيها.

 

فى عالمنا العربى، بدءًا من مصر ومن المملكة الأردنية الهاشمية صدرت إعلانات الرفض المطلق لذلك الاقتراح.. وبات ضروريًا إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وأن تحظى باعتراف الأمم المتحدة بها.

 

وإذا كان وجود الفلسطينيين على أرضهم، ضرورة وجودية وإنسانية وأخلاقية، فإن التهجير يصبح نوعًا من العبث والإبادة الجماعية، لكن الوجود على الأرض وحده ليس كافيًا، إذ لابد من دولة تنظم حياة الناس، تحفظ أمنهم وتؤمن حياتهم وتحمى وجودهم، تلك هى قواعد القانون الدولى.

 

فى نظرية الدولة لابد من وجود أرض أولًا وعلى الأرض شعب، بدون ذلك لا مجال للحديث عن الدولة، هذا ما قرره الفيلسوف الألمانى هيجل واعتمده العالم والأمم المتحدة فى الاعتراف بالدول، لا دولة دون أرض ولا دون شعب.

 

لقد حاولت إسرائيل طويلًا أن تنفى وجود شعب فلسطينى، منذ مطلع القرن العشرين ردد مفكرو الصهيونية عن فلسطين أنها “أرض بلا شعب”، وكانت جولدا مائير تتساءل باستخفاف بعد حرب 1967، أين هو شعب فلسطين؟

 

لكن كان هناك شعب ومازال هذا الشعب موجودا يقاوم ويكافح على أرضه، ليس فقط منذ سنة 1948، لكن قبل ذلك بكثير.

 

وليس من العدل أن يُحرم شعب من إقامة دولته المستقلة على أرضه، وتركه نهبًا لاحتلال عنصرى بغيض، ينكر وجوده ويعمل على إزاحته من أرضه، بالتهجير أو الإبادة، يحدث هذا فى عالم يتحدث عن «حقوق الإنسان» ويهدد الدول التى لا تحترم تلك الحقوق، بينما يمنح حصانة دولية لدولة إسرائيل التى تحتل فلسطين. احتلال يرتكب كل الجرائم ضد الإنسانية، ويُمارس عنصرية كاملة، مع ذلك لا إدانة ولا حتى مؤاخذة بسيطة.

 

كانت العبودية والرق وصمة العصور الوسطى، وتتباهى الحداثة بأنها ألغت العبودية، وحرمت الرق فانتهت بذلك مآسٍ كثيرة، استمرت قرونًا فى مختلف مناطق العالم وثقافاته، وهذا حق، لكن ما يحدث فى فلسطين ومع شعبها وصمة هذا العصر سوف تلاحق طوال التاريخ، القانون الدولى والمنظمات الدولية تفقد أى معنى لوجودها أو احترامها ومهابتها فى نظر الكثيرين ما لم يُعلن قيام الدولة الفلسطينية.

 

شهد عصرنا انتهاء الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، بفضل نضال سلمى طويل للأفارقة السود، ضد الأقلية البيضاء، وشهد عصرنا كذلك انتهاء حرب فيتنام وانتهاء التدخل الأمريكى فيها.. كل هذه خطوات إيجابية تحسم لعصرنا وللكفاح الإنسانى، فهل نشهد كذلك انتهاء المأساة الفلسطينية؟ ألا يكفى ثانية عقود من التدمير ومحاولات الإبادة؟

 

نحن الآن بإزاء لحظة تاريخية نادرة يجب الإمساك بها، بات الكل مقتنعًا بضرورة وجود الدولة الفلسطينية، نتنياهو تباهى مرة أمام الكنيست أنه نجح فى تعطيل إقامة الدولة الفلسطينية على مدى 12 عامًا، زعيم المعارضة هناك «لبيد» قال إنه مع إقامة دولة فلسطينية، ثم أضاف لكن ليس الآن.

 

ثم عاد نتنياهو ليقترح فكرة أخرى، وهى أن تقام الدولة الفلسطينية داخل المملكة العربية السعودية بزعم أن المملكة لديها صحارى واسعة. كان نتنياهو يحاول الرد على إصرار المملكة على أنه لا تطبيع مع إسرائيل دون إقامة الدولة الفلسطينية.

 

وفق المقررات الدولية، بدءًا من قرار تقسيم فلسطين الصادر فى نوفمبر سنة 1947، وما تلاه من قرارات لابد من وجود دولة فلسطينية مستقلة، استقر الأمر أن تقوم على حدود الرابع من يونيو سنة 1967، إسرائيل نفسها أقرت فى اتفاق أوسلو سنة 1994 مع الزعيم الراحل ياسر عرفات بحق الفلسطينيين فى إقامة الدولة.. وكان الخلاف حول بعض التفاصيل الصغيرة التى يمكن مناقشتها والوصول فيها إلى حلول.. وكانت إسرائيل تعرقل الأمر منذ اغتيال إسحق رابين، الذى وقع اتفاق أوسلو، على يد متطرف إسرائيلى.

 

نحن الآن بإزاء لحظة تاريخية مهمة ونادرة لإقامة الدولة الفلسطينية، ذلك أنه لا سلام فى المنطقة دونها، بدءًا من السلام الذى تريده إسرائيل وبدونه لن تتمكن من العيش، من دهاء ومكر التاريخ أن إسرائيل باتت البلد الوحيد الذى لا يشعر داخله اليهودى بأمان ويضطر للنزول إلى المخابئ مع أى صاروخ يطلقه حزب الله أو كتائب القسام، الحرب الأخيرة أكدت أن إسرائيل لديها قدرة واسعة على التدمير والإغارة ودك البيوت على رؤوس سكانها، لكنها رغم كل ذلك غير قادرة على تحقيق انتصار، وإلا ما اضطرت للتفاوض مع حماس.

 

الخروج من هذه الدائرة الجهنمية المليئة بالعنف والدمار للجميع لن يكون دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

 

المستفيد الأكبر من إقامة دولة فلسطينية هى إسرائيل، خطورة الحرب الأخيرة أن معظم فصولها دارت داخل إسرائيل وعلى أبوابها، وبات واضحًا عجز إسرائيل عن توفير أو تحقيق الأمن لمواطنيها، لذا ازداد معدل الهجرة منها إلى الخارج، وكشفت الحرب أنه دون مشاركة الولايات المتحدة فى المعارك بالدعم السياسى والعسكرى ما كان يمكن لإسرائيل الصمود طويلًا، وعلى المدى البعيد قد لا تظل الولايات المتحدة ولا أوروبا على هذا الموقف الذى كان داعمًا لإسرائيل دائمًا.

 

وقد نجحت مصر فى بناء موقف عربى صلب داعم لإقامة الدولة الفلسطينية، ومعظم دول العالم، خاصة فى أوروبا وروسيا والصين، مقتنعة بضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، المشكلة فى الإدارة الأمريكية، لكن مع الضغط العربى والعالمى يمكن الوصول إلى ذلك الهدف.

 

فى الحرب الأخيرة عمل الرئيس السيسى بتجرد شديد وانحياز مطلق للأمن القومى المصرى والعربى على ضرورة وقف العنف وإقامة الدولة الفلسطينية، ولابد من مساندة وطنية لموقف الرئيس، هذه لحظة الاصطفاف فى الوطن، ولابد من مساندة عربية، والأهم هو أن تنتهى الخلافات الفلسطينية-الفلسطينية وأن يكون الهدف هو بناء المشروع الوطنى الفلسطينى، وتتم تنحية المعارك السياسية والأيديولوجية جانبًا. لقد تشرذمت الساحة الفلسطينية طويلًا وكانت إسرائيل وستظل تعمل على ازدياد هذا التشرذم، وقد آن الأوان أن يتم تجاوز ذلك كله.

 

نقطة البداية فى الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة دون الاضطرار لتهجير أهلها، لابد من الشروع فى التنفيذ، لأن ذلك يعنى تأكيد بقاء الفلسطينيين فى بلادهم وعلى أرضهم وإبعاد شبح التهجير والريفيرا، مع إعادة الإعمار يجب العمل دوليًا والتفاوض مع إسرائيل نفسها ومع الإدارة الأمريكية على إعلان قيام الدولة الفلسطينية، تنفيذًا للقرارات الدولية من جانب وقرارات الجامعة العربية من جانب آخر.

 

سوف تنعقد قمة عربية طارئة فى القاهرة لبحث هذا الأمر والرد على مقترح الرئيس ترامب، والحق أننا أمام فرصة حقيقية لا يجب أن نفلتها هذه المرة. كانت هناك فرصة سنة 1977 أتاحها الرئيس السادات فى لقاء المينا هاوس بالقاهرة، وكان الزخم الدولى الذى أحدثته مبادرة السادات يسمح بقيام الدولة، ولكن ضاعت بسبب المزايدات العربية من جانب جبهة الصمود والتصدى التى شكلها القذافى وصدام حسين ضد السادات، ثم تكررت الفرصة أيام الرئيس بيل كلينتون وكان جادًا فى تحقيق السلام، لكن لم تُستغل جيدًا. استمع الرئيس ياسر عرفات لنصيحة حافظ الأسد، الذى كان ضد السلام ومع إطالة أمد الأزمة، خوفًا على نظامه.

 

لا يجدى الآن الندم على ما كان وما ضاع، ولا يليق فى هذه اللحظة أن ننكأ آلاما وجراحا تاريخية، وكما قيل لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، المهم أن نستوعب ونتعلم مما جرى وندرك شروط اللحظة التى نمر بها وموازين القوى العالمية.. وأن نراهن دائمًا على المستقبل وأن يحصل الفلسطينيون على حقهم فى الوطن والاستقلال وبناء دولتهم المستقلة.. لنبتعد الآن عن حديث الذكريات ونتجه إلى المستقبل.

 

الآن نحن أمام فرصة حقيقية فى وجود رئيس قوى ومخلص هو الرئيس عبدالفتاح السيسى وقيادات عربية جادة ومخلصة مثل ملك الأردن، وكذا ولى العهد السعودى، وسائر قادة المنطقة.

 

نحن نقترب من الدولة الفلسطينية ودونها لا سلام فى المنطقة.