رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

مقتنيات «المصور» وثقت تاريخاً ناصعاً


25-2-2025 | 17:54

صورة أرشيفية

طباعة
تقرير: سناء الطاهر

عندما تطأ قدماك متحف دار الهلال، لا تجد نفسك داخل قاعة عتيقة تعرض مقتنيات قديمة، بل تخوض تجربة فريدة تأخذك عبر الزمن، حيث يتجلى تاريخ الصحافة المصرية والعربية بكل تفاصيله.. إنه ليس مجرد متحف، بل أرشيف حى يوثق حقبة تمتد لأكثر من 130 عامًا، شهدت خلالها «الهلال» تحولات كبرى فى الفكر، والسياسة، والثقافة، والمجتمع.

تأسست دار الهلال عام 1892 على يد المفكر والصحفى اللبنانى جرجى زيدان، الذى حلم بإطلاق مؤسسة ثقافية عربية قادرة على إثراء الفكر والتوثيق التاريخي.. ثم انطلقت وبدأت الرحلة بمجلة الهلال، التى سرعان ما تحولت إلى منبرٍ للثقافة والتاريخ والسياسة، ثم تبعتها إصدارات أخرى مثل «المصور» (1924)، أول مجلة عربية مصورة، وثّقت الأحداث الكبرى فى مصر والعالم العربي، والكواكب (1932)، مجلة متخصصة فى الفن والثقافة السينمائية، واللطائف المصورة (1915)، مجلة اجتماعية سياسية من أوائل المجلات المصورة فى العالم العربي، والاثنين والدنيا (1925)، مجلة شاملة تناولت قضايا المجتمع المصرى والعربي، وميكى وجحا وسمير، ضمن إصدارات دار الهلال التى قدمت الأدب «المصور» للأطفال.

 

على مدار العقود الـ 13، لم تكن دار الهلال مجرد مطبعة أو ناشرًا للصحف، بل كانت مصنعًا للفكر والتوثيق، ومركزًا اجتمع فيه أبرز الصحفيين والمصورين والأدباء والسياسيين.. واليوم، يحتفظ متحفها ببعض من هذا الإرث، فى رحلة تقحمك فى عالم آخر، تتواجد داخله أدوات الصحافة القديمة، وأرشيف للصور النادرة، والمقتنيات التى تنبض بعبق التاريخ.

 

المتحف يضم مقتنيات نادرة كانت جزءًا أساسيًا من منظومة الصحافة فى مؤسسة دار الهلال.. كل قطعة معروضة هنا تحكى قصة، من مكتب الصحفى الشاب الذى أصبح رئيسًا، إلى آلة الطباعة التى أنجزت آلاف الصفحات، إلى الصور التى حفظت لحظات فارقة فى تاريخ مصر والعالم العربي.

 

الرئيس محرراً صحفياً بالهلال

 

فى أحد أركان المتحف، يقف مكتب الرئيس الراحل محمد أنور السادات كواحد من أبرز الشواهد داخل المتحف.. وقبل أن يصبح رئيسًا لمصر، عمل السادات صحفيًا فى دار الهلال فى الأربعينيات، حيث كتب المقالات السياسية وعمل على تحليل الأوضاع الدولية فى ذلك الوقت، هذا المكتب الذى جلس إليه السادات، يفوح بعبق التاريخ، حيث كان يخطّ بقلمه أفكاره وطموحاته، وربما لم يكن يعلم حينها أنه سيصبح فى المستقبل زعيمًا لمصر، يقودها نحو تغييرات كبرى.

 

فى زاوية أخرى من المتحف، ستجد السويتش القديم، وهو جهاز التوصيل المركزى الذى كان يستخدم فى المؤسسة للربط بين أقسام التحرير والإدارة والطباعة.. هذا السويتش، الذى يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، ما زال يعمل حتى اليوم، فى شهادة حية على دقة الصناعة القديمة، وعلى زمن كانت فيه الصحافة تعتمد على وسائل اتصال تقليدية، قبل أن تحل محلها التكنولوجيا الحديثة.

 

كاميرات الهلال «مقتنيات تاريخية»

 

المتحف يحتفظ بمجموعة من الكاميرات التى التقطت صورًا تاريخية، ومن أبرزها كاميرا Leica M3) - 1954)، إحدى أشهر الكاميرات، التى استخدمها مصورو الهلال فى الخمسينيات والستينيات، وكاميرا Hasselblad 500C -1957))، التى وثّقت لحظات من حياة الرؤساء والشخصيات البارزة، وكاميرا Speed Graphic) - 1940)، التى استخدمها المصورون فى تغطية الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى. هذه الكاميرات شهدت لحظات استثنائية، حيث التقطت صورًا وثّقت أحداثًا غيرت مجرى التاريخ.

 

آلة الطباعة الحجرية بمتحف الهلال

 

أحد المقتنيات اللافتة فى المتحف، هى آلة الطباعة الحجرية القديمة، التى كانت تستخدم فى أوائل القرن العشرين لطباعة المجلات والكتب، هذه الآلة، التى تعود إلى عام 1905 تقريبًا، تُعد شاهدة على المراحل الأولى من الطباعة فى مصر، حيث كانت المجلات تُطبع على ألواح حجرية باستخدام حبر زيتى خاص.

 

يحتفظ المتحف أيضًا بنسخة من أول عدد لمجلة الهلال، التى صدرت فى عام 1892، وهى تعدّ البداية الحقيقية للصحافة الثقافية فى مصر. هذا العدد، الذى يحمل بصمات جرجى زيدان، يعكس شكل الصحافة فى ذلك العصر، حيث كانت المجلة تعتمد على المقالات التاريخية والأدبية والاجتماعية. وتُعرض بجانب هذا العدد نسخ نادرة أخرى من مجلتى «المصور» و«الكواكب»، التى يعود بعضها إلى بدايات القرن العشرين، موثقةً مراحل تطور الصحافة المصورة والفنية فى مصر.

 

فى أحد أركان المتحف، ستجد راديو عتيقًا يعود إلى الخمسينيات، كان يستخدم فى صالات التحرير داخل دار الهلال لمتابعة الأخبار العاجلة والخطابات الرئاسية.. هذا الراديو كان يُعد وسيلة الصحفيين الأولى للحصول على المعلومات قبل عصر التلفزيون والإنترنت، حيث كان المحررون يجلسون حوله لسماع خطابات الرئيس جمال عبد الناصر، ومتابعة تطورات الحروب العربية، والأحداث الكبرى.

 

أغنى أرشيفات الصور عربياً وعالمياً

 

لا يقتصر المتحف على الأدوات والمقتنيات، بل يحتضن أيضًا أحد أغنى أرشيفات الصور فى العالم العربي، يضم أكثر من مليونَى صورة نادرة، التقطها مصورو الهلال عبر أكثر من قرن.

 

هذا الأرشيف يوثق لحظات محورية من التاريخ العربى والعالمي، ومن بين الصور النادرة المحفوظة فيه الوفود العربية فى الأمم المتحدة خلال المفاوضات الدولية الكبرى، وجنازة الملك فاروق فى روما (1965)، حيث يظهر الملك أحمد فؤاد الثانى يسير خلف نعش والده، وحفل تكريم فكرى أباظة عام 1950، أحد رموز الصحافة المصرية، والمدرعات الفرنسية فى شوارع الجزائر عام 1961 أثناء الثورة الجزائرية، وآثار فيضان النيل فى الميناء قبل بناء السد العالي، التى توثق المعاناة التى سبقت تشييد السد، وسُعاة البريد أمام مبنى بريد الإسكندرية فى أوائل القرن العشرين، لقطة نادرة تعكس ملامح الحياة فى الماضي، والرئيس جمال عبد الناصر مع وفد فى الأمم المتحدة، فى مشهد يعكس قوة الدبلوماسية المصرية.

 

هذه الصور ليست إلا عينة صغيرة من الأرشيف الضخم الذى تمتلكه مؤسسة دار الهلال، والذى يعدّ واحدًا من أهم كنوز الصحافة العربية.

 

يعتبر متحف دار الهلال ليس فقط مكانًا لحفظ المقتنيات، بل نافذة تطل منها على تاريخ الصحافة المصرية والعربية.. كل قطعة هنا تحكى قصة، وكل صورة توثق لحظة لا تُنسى، مما يجعل هذا المتحف كنزًا لا يُقدّر بثمن لمحبى التاريخ والإعلام.

 

لا تغادر قبل أن تودع تاريخاً مشرفاً لمصرنا الغالية

 

عندما تغادر متحف دار الهلال، لا تخرج فقط من قاعة عرض، بل تخرج من رحلة عبر الزمن، حيث التقيت بأدوات الصحافة التقليدية، وشاهدت كيف كان الصحفيون يعملون قبل عصر الإنترنت، واطلعت على صورٍ التقطت لحظات لا تُنسى من تاريخ مصر والعالم العربي.

 

هذا المتحف ليس مكاناً لحفظ المقتنيات، بل هو سجلٌ حى يوثق كيف كانت الصحافة تصنع التاريخ، وكيف كانت دار الهلال رائدة فى التوثيق والنشر والتنوير على مدار أكثر من 130 عامًا.

 

إذا كنت من عشاق الصحافة والتاريخ، فإن زيارة متحف دار الهلال ليست مجرد جولة، بل تجربة استثنائية تضعك فى قلب الأحداث، وتتيح لك رؤية الماضى بعيون الصحفيين الذين صنعوه بعدساتهم وأقلامهم.