فى أغسطس عام 1981 اتصلت بى زميلة لى فى كلية الإعلام جامعة القا هرة، قالت إن مكرم محمد أحمد، رئيس تحرير مجلة المصوّر ورئيس مجلس إدارة دار الهلال، المعين حديثًا يريد صحفيين شبانا خريجين جددا، كنت - وقتها- أتدرب فى الإذاعة، استشرت والدى الذى رحّب كثيرًا، قال لى: «دى مجلة الباشا فكرى أباظة»، فكان بيتنا يهتم كثيرًا بشراء الصحف والمجلات، الأهرام والأخبار والمصوّر وآخر ساعة وحواء والكواكب.
كانت المرة الأولى التى أرى فيها مبنى دار الهلال، أثناء دراستى زرت الأهرام والأخبار، ولأنى مغرمة بالآثار وعبق الأزمنة القديمة، كان وقع رؤية هذا المبنى العتيق على نفسى كبيرًا على الرغم من حالة الإهمال الشديد البادية عليه، شعرت بألفة غريبة مع المكان والبشر الموجودين فيه، كنا 42 من خريجى كليات مختلفة، استقبلنا الأستاذ سامى الليثى الصحفى الكبير، الوطنى حتى النخاع، واسع الثقافة.. بمنتهى الرقى، تعامل معنا منذ اللحظة الأولى بأبوة حقيقية، كانت خطواتنا الأولى مبشرة، كان الباب مفتوحًا لمَن يريد دون واسطة، كما هو للأسف الحال فى العديد من الصحف والمجلات الأخرى، فى أول اجتماع لنا مع الأستاذ مكرم تيقنّا من أن الكفاءة والدأب فى العمل هما بوابة التعيين مع هذا الصحفى الذى يقدس المهنة ويحترمها، ويقدّر الموهوبين، ولديه رغبة حقيقية فى تجديد دماء مجلة المصوّر، التى كانت أوقفت التعيين سنوات طوال، ووصلت لحالة من التكلس وتصلب الشرايين، أفقدها الكثير من قُرائها.
من حسن الحظ، أننا التحقنا بالمجلة فى فترة تغيرات سياسية كبيرة عاشتها مصر، كانت مصر تعيش مرحلة اضطراب ومعارك بين الرئيس السادات، وبين النخبة المصرية فى الفكر والسياسة التى كانت ترفض اتفاقية السلام المنفرد مع العدو الإسرائيلى، كانت النقابات والأحزاب فى حالة غليان، وكان الرئيس السادات فى حالة غضب شديد، إلى حد أنه وصل إلى حد وضع البابا شنودة قيد الإقامة الجبرية، وتمادى فى خصومته مع المثقفين والسياسيين، واتخذ قرارًا باعتقال 1500 شخص من خيرة مثقفى وسياسيى مصر.
ولم تمضِ أيام كثيرة حتى وقعت حادثة اغتيال السادات وسط العرض العسكرى للجيش المصرى فى احتفالات ذكرى حرب أكتوبر.
أصدرت المصوّر ثلاثة أعداد فى أسبوع واحد لمتابعة الأحداث، العددان الأول والثانى كانا عن الحادثة، وعن الرئيس السادات سافرنا إلى قرية ميت أبو الكوم بالمنوفية، مسقط رأس السادات، وأجرينا العديد من الحوارات، العدد الثالث كان عن نائب الرئيس حسنى مبارك المرشح لشغل منصب الرئيس الجديد، البعض سافر إلى كفر مصيلحة، وكنت من المجموعة التى التقت بزملاء مبارك فى الكلية الجوية. تعلمنا كيف يعمل الصحفى تحت ضغط الوقت وتسارع الأحداث.
استغل مكرم محمد أحمد، ظرف التغيير الذى يزيد من هامش الحرية، عقد أول حوار لـ«المصوّر»، وهو الشكل الصحفى الذى استمر مع المصوّر، والذى كان له وقع مهم على جمهور القراء، حيث يناقش قضايا مهمة ويفتح المجال لأصحاب الآراء المتضادة، من أجل كشف الحقائق التى تسمح للقارئ أن يكوّن وجهة نظره، كان الحوار الأول بعنوان «الذين قالوا لا لمبارك» مع قيادات حزب التجمع، الذين أعلنوا رفضهم للاستفتاء على مبارك رئيسًا، لأنه أعلن استمراره على خطى السادات.
كان العديد من مفكرى ومبدعى مصر فى هذه الفترة، إما أن اعتكفوا فى بيوتهم وإما سافروا إلى الخارج، واستغل مكرم محمد أحمد بثقافته الواسعة، وحبه للمبادرة، فكان له السبق فى فتح صفحات المصوّر لهم من أمثال الكاتب محمود السعدنى، والشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى، والناقد رجاء النقاش، والمفكر د. لويس عوض، ود. أنور عبدالملك، والناقد د. على الراعى، والكاتب ألفريد فرج، والأدباء بهاء طاهر، ومحمد مستجاب، وخيرى شلبى، وأستاذ القانون السياسى د. نور فرحات، وأستاذ الاقتصاد السياسى د. محمود عبد الفضيل، والرسامين الكبيرين بهجت وحلمى التونى، والناقد التشكيلى مختار العطار، والعديد من الأسماء اللامعة فى مجالات عديدة.
قدمت المصوّر فى تلك الفترة موزاييك من السياسة والإبداع فى مجال الفنون والآداب والعلوم، وكان من حسن حظنا أن الكاتب الكبير يوسف القعيد كان من قيادات المجلة وهو المثقف والأديب الكبير، الذى فتح مكتبه لجيلنا، فكان -كما أطلقنا عليه- المقهى الثقافى، كان مكتبه الذى تتراكم فيه الكتب بصورة عشوائية على الأرفف مكانًا نلتقى فيه بكل هؤلاء الكُتاب والمفكرين، كان المكتب -رغم صغره- له شباك كبير جدًا، كان يوسف القعيد بمكتبه ومكتبته وضيوفه نافذة كبيرة لجيلنا على عالم الفكر والثقافة، وكان -أمد الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية- لا يبخل علينا بشيء.
مع أستاذنا يوسف القعيد جلست أنا وزميلى محمد الشاذلى مع الشخصية الفذة د. جمال حمدان الذى كان يعيش فى عزلة، أرسل له ورقة من تحت الباب، فتح لنا إكرامًا للقعيد، كان بيته شديد التواضع، وكان يرتدى روبًا يبدو أنه عِشرة سنوات طويلة، ولكننا قضينا معه ساعتين من الانبهار، كلماته بليغة، جمله قصيرة، أفكاره واضحة ومرتبة، كان قد حصل على جائزة الدولة التقديرية، ولكنه رفض أن يتسلمها رغم رقة حالته المادية، قال لنا: «الرئيس الوحيد الذى كان من الممكن أن أتسلم منه الجائزة هو جمال عبد الناصر».
وفى بيت الناقد الكبير الجميل فى كل شيء الراحل رجاء النقاش، التقيت بكبار المبدعين العرب، الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما، كانت الجلسات فى منزله أمسيات شعرية وأدبية وغنائية من كل صنوف الإبداع فى العالم العربى، ومجالا لحوارات واشتباك بين المفكرين تثرى العقل والوجدان.
كانت أيادٍ كثيرة ممدودة لنا من كبار صحفيى المجلة مثل الكاتبة المبدعة رجاء عبدالله -رحمها الله، التى كانت كريمة فى كل شيء، فتحت بيتها ومكتبها لنا جميعًا، كانت قادرة على أن تذلل لنا الصعاب، إذا تعثرنا فى الوصول إلى مصدر، أو إلى معلومة، معها أجريت حوارًا جريئًا مع الكاتب فرج فودة قبل اغتياله، ومعها كنا أول صحفيتين تلتقيان نجيب محفوظ وزوجته وإحدى ابنتيه فى بيته بعد حصوله على جائزة نوبل.
وفى القسم الخارجى الذى يضم مجموعة من أفضل الصحفيات اللاتى يتقنّ العديد من اللغات، كانت الرائعة الأستاذة ليلى القيسى التى ضربت المثل لنا فى كيف تكون الإدارة بالكفاءة والحسم والعدل والحب.
ومع الأستاذ عبدالقادر شهيب، القادم من مؤسسة روزاليوسف، ظلت المصوّر صحافة المعلومات، والتى تعمل على رفع وعى القارئ.
تعلمنا من هؤلاء جميعا أن لمجلة المصوّر رسالة، التنوير هو العنوان الرئيسى، تتفرع منه عناوين كثيرة، كنا ضد الإرهاب الفكرى، وقفنا مع نجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد وفرج فودة، أجريت تحقيقًا حول منع ترقية الدكتورة كريمة كريم أستاذ الاقتصاد لدرجة الأستاذية فى الأزهر، لأن اللجنة ترى أن أفكارها تجنح نحو اليسار، وحصلت على ترقيتها.
كانت المصوّر لها دائمًا السبق فى تغطية أخبار العمليات الإرهابية وأحداث الفتنة الطائفية، كانت هذه التغطيات شغلى الشاغل فى الفيوم وفى أسيوط وفى بنى سويف، وكان الأساس هو سرد الحقائق دون تهوين أو تهويل، ولم تدفعنى قناعاتى ضد الجماعات المتطرفة من إلصاق التهم بهم زورًا فى بعض الأحداث، مثل الفتنة الطائفية فى طما بمحافظة سوهاج، والتى قُتل فيها 14 مسيحيا ومسلم واحد، كان عنوان الموضوع «الجماعات الإسلامية بريئة من دم طما»، تلك كانت الحقيقة.
هكذا تعلمنا من المصوّر أن دورنا كشف الحقائق، فى عام 1989 وقعت اضطرابات فى مجمع الحديد والصلب حيث طالب العمال بزيادة الحوافز بعد أن تضاعفت أرباح الشركة، بينما تم رفع حوافز القيادات والموظفين دون العمال، ونظم العمال اعتصامًا، بحيث استمر العمل بالتناوب، وطالبوا بعودة العاملين اللذين تمت تنحيتهما من مجلس الإدارة، وللأسف حدث هجوم أمنى على العمال المعتصمين، وتم قتل العامل عبدالحى محمد رميًا بالرصاص، الذى رفض الانصياع لطلب الأمن بتركه عمله على أحد الأفران، مما يعطل الإنتاج. وكانت المصوّر الصحيفة الوحيدة التى كشفت الحقيقة من خلال تحقيق أجريته مع زميلى غالى محمد الذى أصبح فيما بعد رئيسًا لمجلس الإدارة ورئيسًا لتحرير مجلة المصوّر، والذى كان حريصًا على أن تظل المصوّر كعهدها، التنوير هدفها، والمصداقية طريقها للقارئ.
ولم تشغلنا التحقيقات عن أن يكون لنا تخصص يسمح لنا بالتعمق فى مجال بعينه، واخترت الشئون العربية، والذى سمح لى بالسفر للعديد من الدول العربية، وحضور القمم العربية، والتعرف على كواليس صناعة القرار فى عالمنا العربى بحلوها ومرها. وعلى صفحات المصوّر رصد لمعظم ما جرى فيها.. كانت المصوّر بالفعل «ذاكرة العرب المصوّرة».
«المصوّر» تاريخ، ولنا معها تاريخ نعتز به وبها.