من مقاعد المشاركين جلست أتأمل مسيرة 100 سنة من عمر مطبوعتى «المصور»، لا كمسيرة مهنية وكصحفية فقط، وإنما مسيرة قرن من التنوير والتحديث للمجتمع، وفى القلب منه وعلى قمتها تأتى قضية العلم التعليم، فليس هناك تنوير بدون تعليم، لذلك ومن غير تحيز رغم أنه محمود، كانت «المصور» و«دار الهلال» وبلا مجاملة وعصبية الانتماء على رأس المطبوعات التى اهتمت بهذه القضية، وخرجت منها أعظم الأفكار التعليمية والعلمية فى مسيرة الوطن، سواء من خلال التحقيقات والملفات والمقالات، والتى ربما شاركت بالكثير منها على مدار 40 سنة هى عمرى بـ«المصور»، وقبلها ربع قرن مع أبى بـ«المصور» أى ثلثى زمن المصور مع قضايا التعليم .
تصادف الأسبوع الماضى أن حضرت لاحتفالية مرور 100 سنة وما أكثر المئويات فى السنوات الحالية، وكانت المئوية بمناسبة إنشاء الهيئة العلمية والأكاديمية الألمانية (الداد الألمانية)؛ حيث كانت مصر هى المكان الثانى بعد لندن الذى تفتح فيه ألمانيا مكتبا علميا لها قبل ما يقرب من 75 عاما، وكانت الاحتفالية فى رحاب الجامعة الألمانية بالقاهرة.
أعادتنى كلمات د. أشرف منصور إلى أهمية ودور التعليم والبعثات والتعاون والأفكار، إلى محورية العلم فى حياتنا فى الماضى والحاضر والمستقبل، وكيف أنها قضية يجب الحديث عنها حديث الصباح والمساء ليس لأحداثه الجارية وما أكثرها، وإنما لأنه بوابة مصر الحقيقية للمستقبل وعلومه.
ربطت بين الأحداث والمئويات وبتأسيس «المصور» وخروجها إلى النور تم فى نفس التوقيت تقريبا، وأنه رغم الأزمات والعواصف والحروب التى مرت بالبلدين، كانت قضية التعليم والعلم حاضرة بل على رأس الأولويات وإن كانت متفاوتة الدرجة والدعم بين البلدين.
فالتعليم والتنوير كان إحدى أولويات واهتمامات المؤسسة التى انتميت إليها -المصور -ابنة دار الهلال، ومن خلال أفكار كتابها وعلى رأسهم مؤسسها جورجى زيدان خرجت فكرة إنشاء الجامعة المصرية فى أوائل القرن العشرين فكان من أوائل منْ كتب ذلك باستدامة أى ليس مقالا عابرا، حتى تشبع المناخ العام والمثقفين بهذه الفكرة التنويرية، وبدأ العمل التطبيقى لإنشاء الجامعة المصرية 1908، والتى عرفت فيما بعد بجامعة القاهرة؛ ولأن التعليم والعلم هو مجال تخصصى الأثير قرأت، ووثقت ذلك فى عدد كامل تذكارى من «المصور» بمناسبة مئوية الجامعة قبل سنوات مضت، وربما تكون «المصور» هى المطبوعة الصحفية المصرية الوحيدة التى وثقت للتعليم والنهضة خارج نطاق العمل الأكاديمى، وكان ذلك هو بداية عهدى بالبحث وبالتوثيق والأعداد التذكارية لـ«لمصور» للتعليم، وكان ذلك بعد أن تشبعت وتدربت على التحقيقات العميقة والملفات الصحفية، فالتحقيق الصحفى المتكامل هو كالنافذة الصغيرة بالمقارنة بالأبحاث الأكاديمية أو بوابتها إن صح القول للعبور للرأى العام غير الأكاديمى.
والتوثيق ليس مجرد إعداد احتفالية وكلمة من هنا وكلمة من هناك مجرد تجميع والسلام، وإنما لتقديم تاريخ ورؤى مجمعة ثقافية وتنويرية للتعليم، أعقبته أعداد كاملة من «المصور» عن 200 سنة مهندسخانة يحكى تاريخ الحجر والبشر، فالمهندسخانة أول مدرسة عليا فى مصر فى عهد محمد على، وأوضحنا خاصة للطلاب الجدد بالهندسة كيف استعادت واستمرت مدرسة البناء العظيمة بمصر حتى يومنا هذا مترسخة فى البناء الاجتماعى منذ آلاف السنين، ثم عدد عن قصر العينى أو مدرسة الطب ومرور 190 سنة عليه، ومدرسة الحقانية أو الحقوق والعدل و150 سنة على إنشائها ومدرسة الإدارة والتجارة العليا، ومعهد الأورام ملحمة مصرية، والعميد ومستقبل الثقافة الذى هو كتاب فى أصول العملية التعليمية المصرية فى عصرنا الحالى وعدد احتفالا بالدكتور زويل وإنجازاته وليس تأبينه.
لم تكن هذه الأعداد إلا ربطا للتعليم بقضايا الحداثة أو التحديث والتنوير وليس مجرد عمل صحفى يرمم الأحوال وسد خانة فى المناسبات. كان الحلم، وما زال أن يعرف الطلاب الجدد تاريخ المؤسسات التعليمية فى مصر ودورها وربط التعليم بالتحديث، وأن يدرس لهم وفى كل التخصصات تاريخ البشر والحجر لأنه بوابة التقدم أن تذكر الحكايات فلا ينفر منها الطلاب خاصة أنها تكون مدعمة بالصور.
وأذكر أن صاحب أو منْ أرسى قاعدة البحث والتقصى هذه كان أستاذ مكرم محمد أحمد، ربما لأنه خريج فلسفة التى مهمتها طرح الأسئلة والبحث العميق، ثم توطن عمله بالصحافة فكانت مدرسته فى التحقيقات والملفات مدرسة رائدة فى العمق الفكرى والمهنى لاسيما وأننا مطبوعة أسبوعية ولسنا صحيفة يومية وموقعا خبريا، فالجمهور المستهدف مختلف، وهنا كانت البراعة فى الرؤى والعمل وقد سبقه إعلام ومدرسة الفكر بـ«المصور».
ولا أنسى عندما كنت أبحث فى تاريخ «المصور» والتعليم وقعت فى يدى كنوز منها تحقيق عام 1969 عن معركة ارتداء البنطلون بالجامعة، وكانت جامعة القاهرة هى البطل فى ذلك التحقيق لأنها منْ أصدرت القرار. تخيلوا منع ورفض البنطلون والآن كل سيدات مصر بمن فيها من تغطى شعرها ترتدى البنطلون، وكان ذلك من قبل العظيم أحمد بهاء الدين لأنه مدرك ويرى المستقبل، فوقف ضد المحافظين وما أكثرهم داخل جدران الأكاديمية المصرية.
كانت الملفات ثقيلة ففتحت «المصور» صفحاتها لكتابات كبار علمائنا لتقديم قضايا علمية دقيقة وجديدة مثل الاستنساخ وكتابات د. أحمد مستجير، والطب وما قدمه د. محمد غنيم من جديد للتقدم، والتحديث كان تناول «المصور» عميقا وربطا دائما بقضايا التعليم والتنوير. ومنها قضية نصر حامد أبو زيد. والتنوير داخل الجامعات المصرية ومواجهة الاتجاه الظلامى وميليشيات التيارات الدينية السياسية والمتعاطفين معها حتى بالصمت، ومعارك «المصور» وشاركت بها كتيبة من حلمى النمنم وحمدى رزق وغيرهما. ووقف الجميع ضد احتكارهم للعمل والسيطرة بالجامعات، ومنها أيضا معارك كلية الطب ومواجهة د. هاشم فؤاد وغيره لذلك، ومعارك ضد النقاب بالمدارس والجامعات وموقف ثابت لدعم د. حسين كامل بهاء الدين فى ذلك ضد هذه التيارات؛ حتى أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بمنع النقاب، ومن المفارقات أننى قرأت مؤخرا تعيين عميدة منتقبة؟! فقد كانت أغلفة كاملة بـ«المصور» ضد فرض تيارات الإسلام السياسى لرؤيتها على المجتمع رغم الأحكام القضائية النهائية ضد النقاب، كانت هناك تحقيقات استقصائية مثل بحث أحوال المعلمين، أزمة الامتحانات والأسئلة، صراعات المناهج والكثافة، وملفات السياسة وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات، وخاضت «المصور» معركة ضد إلغاء انتخابات العمداء من الجامعات المصرية، وهو الملف الذى استمر أكثر من عدد وفترة زمنية، وكان مسار خلافات الأستاذ مكرم والـ»مصور» مع الوزراء والمسئولين، كما لم يغفل أبدا دور السياسة فى التعليم خاصة الحركة الطلابية المصرية، وهو الملف الذى فزت به بجائزة التحقيقات الاستقصائية بنقابة الصحفيين فى أوائل الألفية بعنوان الطلبة والسياسة، هذا الاهتمام الشديد بقضايا التعليم والتعمق به والأهم الاستدامة بالكتابة عنه، لذلك كان يفاخر بنا وبمدرسة «المصور» فى كل المنتديات ويواجه المسئولين، ويدافع عن وجهة النظر خاصة قضية المجانية وتكافؤ الفرص، فكان مدافعا شرسا عنها وأذكر كيف شجعنى أن أكتب بصدق كل ما دار فى مؤتمر رأسه جمال مبارك وبحضور الحكومة كاملا ملف التعليم الموازى بالجامعات الحكومية وبمجاميع أقل مقابل مصروفات، ففتح الصفحات لنقل بل ومعارضة هذا الاتجاه الذى أصابنى رذاذها، ونحن ندافع عن المجانية والقانون والدستور الذى يعتبر البعض قضية التعليم للأسف قضايا خدمية، وهى نظرة سطحية للتعليم والعلم وعلاقته بالتحديث والتنوير وكيف هى الحدود الفاصلة بين نشره والإلحاح عليه، ودعمه وبين جعله فقط داخل الجدران الأكاديمية أو الوزارية مستوطنات تعليمية، وهو أيضا كان عنوان كتابى عن تاريخ الثانوية العامة فى 200 سنة لتجسد هذه الشهادة قمة الملهاة وأحيانا التغييرات المتتالية بها التى وصلت إلى تغييرات واقتراحات مرتين فى عام واحد على شاكلة عبوة 2*1 بدون التأنى والبحث والاستماع لمختلف التربويين لاسيما التربويين، فظاهرة الميكس المستمر قد تكون ذات طعم صحيح ولكنها فى مضمونها مجرد عبوة تجارية، وقد تحمس أستاذى لفكرة الكتاب وليكتب مقدمته ولكنه توفى قبل أن أحسم خروجه إلى النور.
فالإلحاح بالبحث فى التعليم ليس مجرد صحافة وتغطية فقط وإنما دعم لقضية التنوير والتحديث للوطن، وهو ما كانت تفعله مدرسة «المصور» دائما التى أتمنى استمرارها فى عقدها الثانى بالتميز بالاهتمام بقضايا التعليم الحقيقية، وأيضاً والإلحاح المستمر عليه وعلى الأفكار التنويرية التى تنتج التراكم حتى يحدث التغيير وأن يستمر ذلك أيا كان المسئول عنها واسمه فى التعليم وغيره، فالرسالة لا تتغير من ضرورة دعم تنوير وتحديث مصر.