فى عالم يتسارع فيه التحول التكنولوجى، تبرز مجلة «المصوّر» كواحدة من أبرز الشواهد على قدرة الإعلام التقليدى على تجديد ذاته وتبنى آفاق العصر الرقمي، فـ«المصوّر» تأسست عام 1924، لتصبح أول مجلة عربية توثّق تاريخ مصر والأمة بالكلمة والصورة، محافظةً على إصدارها المنتظم دون انقطاع طوال قرن كامل. اليوم، ومع احتفالاتها بمئويتها، تُقدم «المصوّر» نموذجًا استثنائيًا للاندماج بين الأصالة الصحفية وابتكارات العالم الرقمي، مُثبتةً أن الإعلام الورقى يمكنه ألّا يكون سجين الماضي، بل جسر نحو المستقبل.
على مدار 100 عام، جمعت «المصوّر» أكثر من مليونى صورة ونصف مليون صفحة تُجسد ذاكرة الأمة، من الأحداث السياسية الكبرى إلى التفاصيل الثقافية والاجتماعية، لكن مع دخول الألفية الثالثة، واجهت المجلة تحديًا وجوديًا، عنوانه «كيف تحافظ على دورها التنويرى فى عصر تُهيمن فيه السرعة والتفاعلية على استهلاك المحتوى؟» جاءت الإجابة مع أزمة كورونا عام 2020، التى دفعت الفريق لتنفيذ أربعة أعداد كاملة «أونلاين» لأول مرة، باستخدام أدوات بسيطة مثل الواتس آب والبريد الإلكتروني، مما قلل التكاليف بنسبة كبيرة واختصر الوقت، وكانت هذه الخطوة بدايةً لرحلة تحول أوسع، تجمع بين الحفاظ على الهوية البصرية للمجلة –التى تعتمد على الصورة كمحرك رئيسى– وتبنى تقنيات الوسائط المتعددة التفاعلية.
وفى هذا السياق، أوضح المهندس محمد عدلى، مدير مركز الحوسبة السحابية بمعهد تكنولوجيا المعلومات، أن تحويل المحتوى من الشكل التقليدى للشكل الرقمى له العديد من المزايا مثل سهولة الحفظ والبحث والتعديل والفهرسة والنشر والتداول، وبما أن المصوّر هى محتوى تقليدى تجاوز المائة عام فإن لها حجما ضخما من الإرث الثقافى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والفنى والرياضى، وهنا تبرز أهمية تحويل المصوّر من شكلها التقليدى إلى الشكل الرقمى.
وأشار «محمد» إلى أنه لا بدّ من إتاحة محتوى المصوّر الرقمى على المنصات الإلكترونية المختلفة سواء بشكل مجانى أو مقابل أجر، مع ضرورة إدخال آليات المحتوى الرقمى داخل المؤسسة، بما يمكّن الصحفيين من الكتابة عبر الوسائل التقنية الحديثة، سواء باستخدام الهاتف المحمول، أو الحاسوب الشخصى، أو الحاسب الآلى، وكذا مراحل المراجعة التى تتم قبل النشر وتتم أيضا عبر استخدام الوسائل التقنية سابقة الذكر، لافتًا إلى أنه عند التحول من الشكل التقليدى الورقى إلى الرقمى يتم استهداف متابعين آخرين غير المتابعين الذين يفضلون قراءة النسخ الورقية، فالمتلقى للمحتوى الرقمى مختلف تماما، وهو غالبيته من الجيل «z» بداية من مواليد عام 2000 الذين لا يطيقون قراءة مقالات طويلة والأعمدة الصحفية المطولة، وذلك لأنهم اعتادوا على «البوستات» القصيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعى، بجانب تفضيلهم مشاهدة المحتوى الرقمى فى صورة الفيديو عن النص.
وأكد مدير مركز الحوسبة السحابية، أن «المحتوى الخبرى القصير سيلقى إقبالا من رواد المنصة الرقمية فور إطلاقها وعلى النقيض سيقل متابعو المحتوى المقالى المطول، ولا بد من اقتحام مجال التسويق الرقمى خاصة فى ظل غياب مهنة بائع الجرائد الذى كان يجوب الشوارع والميادين نظرا لعزوف المواطنين والأجيال الجديدة عن شراء النسخ الورقية، لذلك لا بد من عمل تسويق رقمى جيد للمحتوى الرقمى لـ«المصور»، وذلك لجنى تكاليف التشغيل وأرباح، وذلك عبر تحقيق معدلات مرتفعة من وصول المستخدمين للمحتوى الرقمى لـ«المصور» عبر محركات البحث المختلفة والاستفادة من الإعلانات الرقمية».
واستشهد «محمد» بتجربة صحيفة «الجارديان» البريطانية فى التحول للشكل الرقمى، والتى وصفها بأنها كانت تجربة ناجحة جدا ولاقت إقبالا كبيرا من المتابعين فى بريطانيا وخارجها وتخطو الآن بثبات نحو التوسع فى استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى كتابة الخبر والمقال باعتباره المستقبل فى المحتوى الرقمى بالصحافة، مشيرًا إلى أنه يمكن لـ«المصوّر» التعاون مع المؤثرين الرقميين فى المجالات الإعلامية والثقافية لتعزيز وصولها إلى جمهور أوسع. هذا يمكن أن يشمل مشاركة المحتوى أو إجراء مقابلات مع شخصيات مؤثرة.
مدير مركز الحوسبة السحابية، لفت إلى أنه على الرغم من الفوائد العديدة للتحول الرقمي، فإن هناك تحديات يجب أخذها فى الاعتبار، أول هذه التحديات هو التكلفة المالية لإنشاء وتطوير المنصات الرقمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المنافسة الشديدة فى العالم الرقمى تتطلب استثمارًا كبيرًا فى التسويق والترويج، كما أن الحفاظ على جودة المحتوى فى ظل السرعة التى يتطلبها العالم الرقمى يمكن أن يكون تحديًا كبيرًا.
واختتم محمد حديثه مؤكدا أن دمج مجلة «المصوّر» الورقية فى العالم الرقمى ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة لضمان استمرارها فى عصر يتسم بالتغيرات السريعة، من خلال إنشاء منصات رقمية متكاملة، والاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، وإنتاج محتوى متنوع، يمكن لـ«المصوّر» أن تعيد تعريف نفسها وتصل إلى جمهور جديد. ومع التخطيط الجيد والاستثمار المناسب، يمكن أن تصبح «المصوّر» نموذجًا ناجحًا للتحول الرقمى فى عالم الصحافة العربية.
وفى سياق متصل، أوضح الدكتور محمد عزام، خبير التحول الرقمى وتكنولوجيا المعلومات، أن «المصوّر» تمثل قيمة كبيرة جدا فى تاريخ العمل الصحفى فى مصر، خاصة فى ظل امتلاك المصوّر كنوزًا معرفية فريدة من نوعها، لذا لا بدّ من تحويل كافة تلك الكنوز إلى بوستات عبر منصة «إكس»، وذلك باعتبارها المنصة الأهم على مستوى الأخبار بين منصات السوشيال ميديا المختلفة.
«عزام»، أكد أن تحويل المحتوى الورقى لـ«المصوّر» على مدار مائة عام إلى محتوى رقمى سيساهم فى خلق مرجعية رقمية للتاريخ المصرى والعربى، فى ظل الحملات الممنهجة التى تتم حاليا من بعض القوى المعادية لتزييف التاريخ ومحو أجزاء منه، مع ضرورة اتباع كافة وسائل الأمان لحماية الملكية الفكرية لـ«المصور» فى ظل التواجد بالعالم الرقمى الذى تنتشر فيه السرقة والاحتيال والتعدى على حقوق الملكية.
كما شدد على أنه يجب المضى فى حملة إعلامية ضخمة لتسليط الضوء على الشكل الجديد والرقمى لـ«المصوّر»، مع تحويل تلك الحملة إلى خطوات وبوستات عبر منصات تواصل الاجتماعى المختلفة مع ضرورة تطوير شكل الموقع الإلكترونى لـ«المصوّر» وإضافة الأرشيف التاريخى لـ«المصوّر» به، بما يتيح للقارئ الاطلاع على هذا الزخم التاريخى من الصور الموثقة لأبرز الأحداث التاريخية على مدار 100 عام فى مصر.
وأوضح «عزام» أنه من خلال الأدوات الرقمية، يمكن لـ«المصوّر» تتبع سلوك القراء وفهم ما يفضلونه من محتوى. هذه البيانات يمكن أن تستخدم لتحسين المحتوى وجعله أكثر جاذبية للجمهور المستهدف، مشيرًا إلى أن تحول «المصوّر» إلى الرقمية لا يقتصر على مجرد نقل المحتوى الورقى إلى ملفات PDF، بل لا بدّ من إعادة إنتاج الأرشيف الضخم عبر منصات تفاعلية، ومستشهدا بالعدد التذكارى الذى صدر عام 2024 كشفت فيه المجلة عن أكثر من 1000 صورة نادرة من أرشيفها، مُرفقةً بتحليلات تاريخية وحوارات مع شخصيات مؤثرة، معتمدَةً على تقنيات مثل الواقع المعزز لتعزيز تجربة القارئ. هذا النهج يتوافق مع مبادئ التحرير الصحفى الرقمي، التى تشدد على دمج النصوص مع الصور والفيديوهات، وخلق محتوى يتناسب مع احتياجات الجمهور الحديث.
كما أشار إلى أنه يجب التخطيط أيضا لتعميم نموذج «المصوّر الرقمى» عقب صدوره على مطبوعات دار الهلال كافة، مستفيدةً من الدروس المستفادة خلال أزمة «كورونا»، هذا إلى جانب الإسراع بالمضى قدمًا لإنشاء أرشيف رقمى مفتوح بالتعاون مع الجامعات المصرية، يسمح للباحثين بالوصول إلى مواد نادرة، مثل صور الثورات المصرية وحملات التنوير فى القرن العشرين. هذا التحول ليس مجرد استجابة للتكنولوجيا، بل إعادة تعريف لدور الصحافة كجسر بين الأجيال، يحفظ التراث ويبنى المستقبل.
«عزام»، أضاف: تحوُّل «المصوّر» إلى العالم الرقمى ليس ابتعادًا عن مسارها التاريخي، بل تأكيد أن الصحافة الهادفة قادرة على تجاوز حدود الورق والحبر، فبينما تضيء شموع مئويتها، تثبت المجلة أن التوثيق والابتكار ليسا نقيضين، بل وجهان لعملة واحدة، حكاية أمة تُروى بلغة العصر.
واختتم «عزام» حديثه موضحا أنه على الرغم من النجاحات، فإن «المصوّر» ستواجه عقبات جوهرية فى رحلتها الرقمية. فزيادة سرعة إنتاج المحتوى التى أصبحت أحد مميزات التصوير الرقمي، تتعارض أحيانًا مع القيم التى تأسست عليها المجلة، مثل الدقة والعمق. كما أن سهولة نسخ الصور الرقمية تهدد حقوق النشر، وهو تحذير أشارت إليه تجارب صحفية سابقة، لكن من المؤكد أن فريق العمل داخل «المصوّر» سيستطيع توظيف هذه التحديات لصالحه، عبر تعزيز الشراكات مع مؤسسات رقمية متخصصة فى حماية الملكية الفكرية، وإطلاق منصات مدفوعة تقدم محتوى حصريًا.
ومن جانبه، أكد المهندس إيهاب سعيد، رئيس شعبة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالاتحاد العام للغرف التجارية، أن العصر الحالى يتسم بالتطور التكنولوجى السريع، حيث أصبح التحول الرقمى ضرورة حتمية لبقاء المؤسسات الإعلامية واستمرارها، مضيفًا أن «المصوّر» تعد كواحدة من أعرق المجلات العربية التى ظلت سنوات طويلة مصدرًا مهمًا للأخبار والتحليلات والصور الفوتوغرافية التى توثّق الأحداث التاريخية. ومع التحديات التى تواجه الصحافة الورقية، وأصبح دمج «المصوّر» فى العالم الرقمى أمرًا لا مفر منه لضمان استمرارها وتوسيع قاعدة قرائها.
وأشار «سعيد» إلى أن هناك العديد من التحديات التى تواجهها كمجلة ورقية، فى مقدمتها تراجع الإقبال على الصحف والمجلات الورقية بسبب انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح القراء يفضلون الحصول على المعلومات بشكل فورى ومجاني. بالإضافة إلى ذلك، فإن تكلفة الطباعة والتوزيع تشكل عبئًا ماليًا كبيرًا على المؤسسات الإعلامية، خاصة مع انخفاض عائدات الإعلانات الورقية، لافتًا إلى أنه على الجانب الآخر، يوفر العالم الرقمى فرصًا هائلة للمجلات التقليدية مثل «المصوّر»، من خلال التحول الرقمي، يمكن للمجلة الوصول إلى جمهور أوسع يتجاوز الحدود الجغرافية، كما يمكنها التفاعل مع القراء بشكل مباشر من خلال التعليقات والمشاركات. بالإضافة إلى ذلك، فإن الإعلانات الرقمية توفر مصادر دخل جديدة يمكن أن تعوض عن تراجع الإعلانات الورقية.
وأوضح «سعيد» أن الخطوة الأولى فى التحول الرقمى هى إنشاء موقع إلكترونى متكامل للمجلة، يجب أن يكون الموقع سهل التصفح ويحتوى على أقسام متنوعة تشمل الأخبار، والتحليلات، والصور الفوتوغرافية، والمقالات الأرشيفية، كما يجب أن يكون الموقع متوافقًا مع الأجهزة المحمولة لضمان وصول المحتوى إلى أكبر عدد ممكن من القراء.
وأضاف: يمكن لـ«المصوّر» تطوير تطبيق خاص بها يتيح للقراء تصفح المحتوى بسهولة على الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، والتطبيق يمكن أن يشمل إشعارات مباشرة لأهم الأخبار، بالإضافة إلى ميزات تفاعلية مثل إمكانية حفظ المقالات للقراءة لاحقًا، كما يجب أن يكون لـ«المصوّر» حضور قوى على منصات التواصل الاجتماعى مثل «فيسبوك، وتويتر، وإنستجرام، ويوتيوب»، وهذه المنصات يمكن أن تستخدم لنشر المحتوى بشكل مجانى وجذب جمهور جديد، كما يمكن استخدامها للتفاعل مع القراء من خلال الاستطلاعات والمناقشات المباشرة.
وشدد «سعيد» على أنه فى العالم الرقمي، يفضل الكثير من المستخدمين المحتوى المرئى والمسموع على النصوص المكتوبة. ومن هنا يمكن لـ«المصوّر» إنتاج فيديوهات قصيرة توثّق الأحداث أو تعرض تحليلات مصوّرة، كما يمكن إنشاء «بودكاست» يناقش أهم القضايا التى تهم القراء.