ولأن جوهر الحكم هو القوة، تحافظ واشنطن على أن تكون مركز اللعبة، ومَن يرفض من الحكام النظر فى الأمور من المنظار الأمريكى، يعتبر مبررًا كافيًا للإطاحة به أو تحريك شعبه وحثّه على الإطاحة به، فكان عام 1947 مبررًا كافيًا للتدخل فى شئون العالم العربى، خاصة بعد أن ذكر ذلك كوبلاند صراحة فى كتابه قائلًا: «كانت الأعوام بين 1947 و1952 أعوامًا هزيلة بخصوص نشاطنا فى لعبة الأمم، ويعزى ذلك لجملة أسباب، منها الاستقلال المفاجئ لعدة دول بقيت ترزح قرونًا تحت نير الاستعمار، وهذا الأمر قد أظهر بعض المشاكل التى لم تتوفر أى خبرة عندنا لمعالجتها، ومن جملة الأسباب غضب العرب لاعتقادهم أننا كنا نساند الصهيونية، وهذا صحيح مهما كان المبرر لذلك، ومن ثم إسرائيل بشكل مفضوح، لا تحرج فيه ولا حياء».
الوتيرة المتسارعة من الأحداث فى العالم، خاصة بعد 20 يناير 2025، بدأت لعبة الأمم فى كشف أوراق كان مسكوتا عنها، مثل: «التبجح فى الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية، والتناغم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا»، عاملان كافيان بتغيير العالم بأكمله، بعد أن كتب «مايلز كوبلاند» فى ستينيات القرن الماضى، عن الصراع الدائم والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، التى جعلته يكتب كتاب «لعبة الأمم» ليوضح العالم السرى الخفى للإدارة الأمريكية غير المعلن من أجل الهيمنة على هذا العالم، وكان الكتاب نافذة على آليات صنع القرار السياسى والاستراتيجى فى فترة الحرب الباردة، الفترة التى شهدت صراعات سياسية وعسكرية واقتصادية بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، ويوضح رؤية استباقية لفهم الأحداث العالمية المعاصرة فى ظل تأثير الاستخبارات على السياسة الدولية.
وكانت القواعد الأساسية التى وضحها فى لعبة الأمم هى أن من أول أهداف أى أمة أن تبقى فى اللعبة ولا تخرج منها، وقد تتصرف الأمة بصورة لا تهدف إلى إحراز نجاح بقدر ما تهدف إلى استمرار التأييد الجماهيرى لزعيمها، والمناورة شرط أساسى لأى زعيم فى اللعبة فهو يظهر ما لا يبطن، فمن السذاجة الخاطئة أن يفسر أى تصريح رسمى حول السياسة الخارجية بصفاء النية.
فيستمر دور القوى العظمى فى تشكيل الأزمات العالمية وتوجيهها وفقًا لمصالحها الاستراتيجية، وفى عالمنا المعاصر لم يعد الخطر المحدق بين روسيا وأمريكا بل أصبحت الصين لها دور فاعل وأكبر بعد صعودها المخيف للولايات المتحدة، فكانت التحالفات والضغوط الاقتصادية والحروب بالوكالة والدبلوماسية حلولا مُثلى لوضع آليات جديدة فى لعبة الأمم، والاستخبارات الأمريكية أطلقت فى عالمنا المعاصر حروبا باردة فى مواجهة روسيا والصين، ومنها كانت السيطرة على الشرق الأوسط الذى هو دائمًا المسرح الأكبر للاستغلال وتحقيق حلم القوى العظمى من خلال الهيمنة على أدواته وسبله الاقتصادية والسياسية والأمنية.
ويستمر الهدف من التنافس متمثلا فى صناعة أزمات تهدد السلام العالمى، وكيفية استجابة القوى المتعددة لهذه الأزمات وحجم الضغوط الناتجة منها على الدول الأصغر والحلفاء أيضًا، فكانت الحرب الروسية - الأوكرانية مُحصلة لخسارة أوروبية على كافة الأصعدة رغم أن الاتحاد الأوروبى حليف للولايات المتحدة، ولكن هكذا تكون اللعبة، قدم مايلز كوبلاند فى كتابه نماذج حقيقية حول الدور الذى تلعبه القوى العظمى فى تشكيل مستقبل العالم، ويوضح أن المنظمات الدولية أكبر صرح لصراع النفوذ، فمن المفترض أن دور هذه المنظمات تسوية النزاعات وإحلال السلم والأمن الدوليين، ولكن الحقيقة أن القوى العظمى تستخدم هذه المنظمات لصالحها، مما يجعلها عاجزة عن اتخاذ قرار مؤثر فهى مقيدة على سبيل المثال «حق الفيتو»، الممنوح فى مجلس الأمن للقوى العظمى.
فالهدف المشترك فى اللعبة من جميع اللاعبين هو رغبتهم فى المحافظة عليها مستمرة دون توقف، ذلك أن توقف هذه اللعبة لا يعنى سوى شيء واحد، ألا وهو الحرب المدمرة للكل، وهكذا تبقى حقيقة الأحداث مدفونة لا تعرف منها خافية، ولا ينكشف للجماهير منها سرًا إلا ما كان بمحض الصدفة، ففى قاعات البيت الأبيض يتظاهرون بالدهشة حيال الغدر الروسى، وفى الوقت الذى ترفض فيه علنًا التدخل بشئون الدول الأخرى، نجدها تبحث عن أساليب مبتكرة خارج جهازها التقليدى لتفعيل ذلك، وليس على الحكومة عندئذ إلا أن تشرع بتحديد معالم وحدود القضية المعنية، ومن ثم إطلاق العنان لعدة قوى خفية تتكفل بتصفيتها كليًا، أو إزالة أخطارها دون أن تتورط الحكومة رسميًا فى أى جانب من جوانبها.
لذلك يعلمنا كوبلاند كيف كانت الوكالة الاستخباراتية المركزية الأمريكية (CIA)، تلعب دورًا محوريًا فى تشكيل الأحداث السياسية فى دول العالم الثالث، ولكن عزيزى القارئ دعنا نتفق بأن أمريكا ترسم سياسات دول حليفة مثل أوروبا وتُشكل صراعات مختلفة لدول مناهضة لها مثل روسيا والصين، فلم تبرأ واشنطن من انقلاب إيران عام 1953، والإطاحة بالرئيس محمد مصدق الذى كان يهدف إلى تأميم صناعة النفط الإيرانى، وهذه العملية التى تعتبر سرية فى ذلك الوقت كشفت لاحقًا عن كيفية استخدام الولايات المتحدة الاستخبارات كأداة لفرض مصالحها الاقتصادية والسياسية، وهذا يأخذنا بالطبع لموجات الربيع العربى ومن قبلها غزو العراق وصناعة التنظيمات الإرهابية فى الشرق الأوسط، وتستمر الاستراتيجية فى الصراعات الجيوسياسية المعاصرة مثل الصراع بين روسيا وأوكرانيا والتنافس الأمريكى - الصينى فى منطقة المحيط الهادى، إدارة خفية لا تنام من أجل أن تظل هى الأقوى فى العالم.
نلخص أن لعبة الأمم ليس مجرد كتاب عن الاستخبارات الأمريكية، بل هو تأمل فى طبيعة القوة والسياسة، وكيفية استخدام المعلومات كسلاح فى الصراعات الدولية، بل إننا فى العصر الأخطر من استغلال هذه المعلومات بعد أن أصبحت آراء الشعوب وتوجهاتهم على الشبكة العنكبوتية وذكاء اصطناعيا يحدق داخل أفكارنا، فقد قدم لنا الكتاب وثيقة تاريخية تكشف عن الجانب الخفى فى صناعة القرار العالمى.