قبل عدة أيام أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أنه ليس مُصرًا على اقتراحه بخصوص تحويل غزة إلى ريفيرا الشرق الأوسط وتهجير كل سكانها، وقال أيضًا إنه فوجئ برفض مصر والأردن للاقتراح، وأنه لن يضغط على أى من الدولتين فى هذا الأمر، ويعتبر اقتراحه مجرد «فكرة» أو «توصية».. وتأكيدًا لهذا التصريح قال مستشار الرئيس للأمن القومى إن الاقتراح لا يعنى تهجير سكان غزة خارج أرضهم وبلدهم.
لسنا بحاجة إلى التذكير برأى ترامب ثم تهديداته المباشرة لكل من مصر والأردن، بدءا من أنه متأكد أنهما لن يرفضا اقتراحه إلى المنّ والتلويح بالمعونات التى تُقدم للدولتين، وأنه يمكن حجب تلك المعونات.
على مدى عدة أسابيع نجحت الدولة المصرية بجهد جبار فى أن تدفع الرئيس الأمريكى لأن يراجع نفسه وأن يتراجع، والحق أن هذه ليست الأزمة الأولى ولن تكون الأخيرة فى علاقتنا بالقوة العظمى الأولى فى العالم، هناك أزمات كثيرة مرت بنا، لكن الأزمة الأخيرة كانت على الهواء مباشرة، أى ليست فى مباحثات وتعاملات داخل المكاتب المغلقة ثم يتسرب شيء منها للصحف، كانت أمام الرأى العام، لأن الرئيس ترامب أعلن اقتراحه ومطالبه ثم تلميحات بالتهديد على الهواء وأمام الرأى العام، وكان الرد المصرى أيضا بنفس الدرجة من الوضوح، هو قال رأيه بلا دبلوماسية وبلا مراعاة أى جوانب بروتوكولية، وهكذا من اللحظة الأولى كنا كمواطنين ومراقبين طرفًا فى هذه الأزمة، حتى هذه اللحظة.
أزمة هذا المقترح يمكن أن تضع أيدينا على ملامح التعامل بين مصر والدولة العظمى، منذ حرب أكتوبر 1973 أقام الرئيس السادات علاقة استراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، بديلا عن علاقتنا التى كانت زمن الرئيس عبدالناصر مع الاتحاد السوفييتى. ودخلت الولايات المتحدة شريكًا فى عملية السلام بين مصر وإسرائيل، الولايات المتحدة ضامن لمعاهدة السلام، التى وُقّعت فى البيت الأبيض بين مصر وإسرائيل سنة 1979.
فى العلاقات بين الدول لا شيء بالمجان، فالذى يقدم منحة أو معونة، لا يقدمها هبة مثلا ولا محاولة لشراء موقفنا، وقبول المنحة أو المعونة لا يعنى أن نصبح أداة للمنّ علينا ولا للضغط أو المزايدة، ولذا فإن التلويح أو حتى التهديد بتعطيلها لا يجب أن يخيفنا ولا أن يصيبنا بالرعب، ولا يجب لنا أن نفزع من التلويح بتوقف المعونة الأمريكية، مجددًا هى ليست هبة لوجه الله، لكنها تعهد سياسى من الولايات المتحدة منذ سنة 1979، والقيمة الشرائية لها تتراجع، ولنتأمل ما جرى فى المنطقة منذ السابع من أكتوبر، بسبب هجمات الحوثيين على السفن الأمريكية والبريطانية فى البحر الأحمر، تراجع دخل قناة السويس، خسائرنا فى عام 2024 طبقا لتصريحات الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة القناة بلغت 7 مليارات دولار، هذا المبلغ الضخم فقدناه فى عام، ولم يُصَب المصريون بالجوع لا قدر الله، نعم، سببت لنا خسائر اقتصادية، لكن هذا ليس نهاية العالم، أمكن للحكومة تدبير الموارد المالية ومواجهة الأزمات، أين أموال المعونة الأمريكية من هذا الرقم؟!
منذ سنوات نوقشت فى كلية السياسة والاقتصاد رسالة علمية عن المعونة الأمريكية فى مصر وآثارها، ثبت فيها بالأرقام أننا لسنا المستفيد الوحيد من المعونة، الولايات المتحدة نفسها مستفيدة، باختصار يمكن لنا أن نبحث عن بدائل لما نستورده من الولايات المتحدة، جزء من المعونة لتمويل بعض الواردات من هناك، ساعتها يمكن لنا الذهاب إلى الصين أو روسيا أو أوروبا، ناهيك عن أننا بصدد الاتجاه إلى المنتج المحلى.
قبول المعونة الأمريكية ليس دليل ضعف، ولا يتصور أحد أنها موضع ابتزاز سياسى لنا، فى أزمة سابقة زمن الرئيس جورج بوش الابن، وضعت مصر خططا بديلة فى حالة إلغاء المعونة، باختصار الدولة لديها البدائل، ولسنا أسرى علاقة مع طرف واحد فى العالم.
ومن اللحظة الأولى التى تولى فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى المسئولية، يونيو سنة 2014، حاول تأكيد هذا المعنى، حيث قام بتقوية علاقاتنا بأطراف مختلفة فى العالم بدءاً من روسيا ثم الصين، وأقمنا العام المصرى - الصينى سنة 2015، كذلك عمق الرئيس علاقاتنا بأوروبا تحديداً، باعتبارنا جزءاً من الدائرة المتوسطية، لنتذكر كذلك اتجاه مصر إلى تنويع مصادر السلاح، حين استوردنا الرافال من فرنسا والسوخوي من روسيا وغواصات من ألمانيا ومن الصين، الرسالة الواضحة للجميع أننا لسنا أسرى علاقة أحادية مع الولايات المتحدة، مصر دولة عريقة وكبيرة، لديها علاقات تاريخية مع أطراف عديدة حول العالم.
أثبتت الإدارة المصرية فى هذه الأزمة للجميع، أن العلاقة مع الولايات المتحدة ليس فيها إملاء من جانبهم ولا إذعان من جانبنا، كما يتصور البعض، ومن حاولوا إشاعة ذلك.
العلاقة أو التعامل يجب أن يراعى بدقة مقتضيات الأمن القومى المصرى والعربى، لو تحقق اقتراح ترامب بالتهجير فإن الفوضى ستعم دول المنطقة بالكامل، وهذا يمكن أن يفقد الولايات المتحدة الكثير ويكلفها الكثير جدا.
فى التعامل مع القوة العظمى ليس مطلوبا منا أن نقول «نعم» لكل شيء، ولكن يحق لنا أن نقول «لا» وقد قالتها مصر من قبل فى العديد من المواقف، وفى كثير من القضايا تجربتنا مع «أوباما» عامى 2013، 2014 تثبت ذلك وتؤكده.
«لا» ليست سهلة التقبل من الطرف الآخر، فضلا عن الاستيعاب، لكنها فى بعض المواقف لا يكون هناك بديل عنها، تكون ضرورية، وتنطق بوضوح تام، بلا تلعثم ولا تأتأة، وهذا ما فعلته مصر، لأن الأمر يهدد الأمن القومى لنا فى سيناء وغير ذلك كثير، اتخاذ هذا الموقف يحتاج إلى عدة خطوات اتخذتها مصر.
أولًا- بناء موقف وطنى داخلى يكون داعما للدولة تماما فى هذا الرفض، باختصار يحتاج حالة من الاصطفاف الوطنى، نعلو فيها على الخلافات الجانبية فى الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية، موقف وطنى «جامع مانع»، وهذا ما تحقق فى حالة فكرة أو مشروع التهجير، كان الكل داعمًا للدولة وللرئيس، وقد لعبت وسائل الإعلام فى ذلك دورًا كبيرًا، وكانت تتابع التفاصيل وتقدم المعلومات للمواطن، كما قامت الأحزاب السياسية والنقابات بدور فعال فى تأسيس وبناء هذا الموقف، حين تحرك هؤلاء جميعا نحو معبر رفح، فى مشهد وطنى إنسانى فريد، يومها قال ترامب: «لقد رأيت».
ثانيا- بناء موقف عربى، يعتمد على التنسيق مع الأطراف المباشرين للقضية، وهكذا كان التنسيق تامًا بين مصر والمملكة الأردنية من جانب، وبين مصر والطرف الفلسطينى، سواء كانت السلطة الوطنية أو حماس، وكذلك المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر.. ومن ثم لم يصبح الموقف الرافض مصريا فقط، لكنه عربى بنفس الدرجة.
والحق أنه فى هذه القضية، انضمت تركيا للموقف المصرى والعربى، فقد أعلنت رفضها التام باعتبار أنها كانت الدولة التى تتولى شئون فلسطين حتى سنة 1917، زمن الدولة العثمانية.
ثالثا- التنسيق مع أوروبا، التى تساند الحق الفلسطينى فى إقامة دولة مستقلة، وهكذا كانت فرنسا وبريطانيا وألمانيا ضد الاقتراح الرئاسى الأمريكى، بل قام الرئيس عبدالفتاح السيسى بزيارة إلى إسبانيا، لتأكيد هذا المعنى.. وفى الكلمات التى ألقاها الرئيس هناك، قدم ما يمكن أن نعتبره «روشتة» مصرية متكاملة لحل القضية الفلسطينية وإحلال السلام بالمنطقة.
رابعا- مخاطبة الرأى العام العالمى بموقفنا وبالحق الفلسطيني، وفى هذه الحالة وجدنا أصواتا قوية داخل الولايات المتحدة نفسها تندد بذلك المشروع، والأهم من ذلك أنه حتى داخل إسرائيل وجدنا مَن يرفض ذلك المشروع تماما، لأنه لن يجلب السلام لهم، وارتفع صوت داخل إسرائيل يندد بموقف الحكومة اليمينية المتطرفة.
إلى جوار ذلك كله لا نكتفى بالرفض فقط، لكن قدمنا حلولا واقتراحات بديلة، تصب جميعها فى أنه يمكن إعادة إعمار غزة، دون الاضطرار إلى تهجير سكانها، الخطة المصرية فى ذلك عرضها د. مصطفى مدبولى بتفصيل كامل.
حين أصدر الرئيس ترامب تصريح التهجير، سارع البعض للمطالبة بسحب السفير وتجميد العلاقات، وهذا أسهل وأيسر شيء، لكنه يزيد الأمور تعقيدا، فى أوقات الأزمات لا بد من وجود خطوط أو قنوات اتصال حتى لا تسوء الأمور، ومن ثم فإن الاحتياج يكون ملحًّا لوجود البعثة الدبلوماسية بكامل قوتها وكفاءتها، سحب السفراء لن يكون مفيدًا، بعض الممتعضين واليائسين دوما سارعوا إلى تصور أننا سوف نذعن لما يُطلب منا، وهؤلاء لا يعرفون تاريخ مصر فى التعامل مع الأزمات، فى ظل هزيمة يونيو سنة 1967 لم تذعن مصر لما أرادوا فرضه علينا، وقف الشعب المصرى يرفض ويساند الدولة والقوات المسلحة حتى خضنا حرب الاستنزاف وحققنا انتصار أكتوبر 1973.
وحين كانت بريطانيا تحتل مصر فى النصف الأول من القرن العشرين أقمنا علاقات جيدة مع فرنسا، خاصة فى الجانب الأثرى والثقافى والتعليمى، كما أقمنا علاقات مع الاتحاد السوفيتى منذ سنوات الأربعينيات، أوهام البعض أننا أسرى علاقة مع دولة بعينها، يجب أن تتبدد، لم نعرف يوماً علاقة الزواج الكاثوليكى مع أى دولة والتاريخ موجود ومتاح أمام الجميع.
أزمة تصريحات ومشروع التهجير ليست الأزمة الأولى ولن تكون الأخيرة، ومن ثمَّ علينا أن نتوقع أزمات أخرى قادمة، مع أى خطوة يمكن أن تمس أو تهدد الأمن القومى المصرى أو العربى سوف نقول «لا»، وسوف تكون هناك أزمات علينا أن نخوضها.
المهم أن نثق فى قدرتنا على أن لا نقبل بأى شيء يمس أمننا، ومن ثم وجودنا، المهم أن نعرف كيف نقول «لا»، وكيف ندير الأزمة باقتدار وثقة، وكما شاهدنا جميعا هذه المرة الراحل هنرى كيسنجر له مقولة مهمة وهى أن «العداء مع الولايات المتحدة مشكلة وأزمة وصداقتها كذلك مشكلة أكبر».
دائما، القوة العظمى تريد فرض سطوتها وتصوراتها على الآخرين، بغض النظر عن العداء أو الصداقة، لنراجع تعامل الرئيس ترامب مع الاتحاد الأوروبى مثلا، ليس الأمر وقفا على ترامب فقط، هل نتذكر حكاية التجسس الأمريكى على المستشارة الألمانية ميركل؟ الرئيس الفرنسى هولاند وقتها، كان ذلك إبان فترة حكم أوباما.
المسألة أنه لا يجب أن ننزعج كثيرا من الأزمات، المهم أن نكون قادرين على التعامل معها ولا يصيبنا الرعب.
مصر قالت: «لا».