بدايةً، أشرق فجر الحضارة الإنسانية وفجر الضمير البشرى فى مصر وليس فى اليونان، أى بفعل الفراعنة وليس بفعل الإغريق.
كان الإغريق أولَ قومٍ فى أوروبا يخرجون من الوضع القَـبلىّ البدائى، ويصنعون مدنيةً وثقافة متنامية، قبل الميلاد بثمانية قرون. إنهم بداية الحضارة الأوروبية، وما كانت لتبدأ فى أى موقعٍ آخر من قارة أوروبا، وهذا لأن الجزرَ الإغريقية تتميزُ بقربِها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية السابقة، وبالتالى استوعبت ميراثها وواصلت المسير لتمثل المرحلة التالية فى قصة الحضارة، التى تعاقبت فصولـُها أو مراحلـُها عبر جدلية الاستيعاب والتجاوز، من أمةٍ إلى أمة ومن عصرٍ إلى آخر.
وإذا غادرنا البدايات الأنثروبولوجيّة السحيقة فى العصر الحجرى، وجدنا المراحل الأولى تتخلق عبر الحضارات الشرقية القديمة، الحضارة الفرعونية وحضارات بلاد الرافدين البابلية والآشورية والأكادية ثم الفينيقية فى سواحل الشام، فضلًا عن الهند والصين. تلك هى الأمم التى قامت بمهمة شق الطريق وتعبيده وإرساء الأسس. فى أعقابها جاءت المرحلة الإغريقية التى ألقت أصول النظر العقلى والفنون الكلاسيكية، وأيضا الديمقراطية ولعبت الفلسفة الإغريقية دورها الكبير فى هذا. أعقبتها فترة التوهج فى العصر السكندرى إبان القرون الثلاثة السابقة على ميلاد السيد المسيح، ثم أتت العصور الوسطى من القرن الخامس إلى القرن الثالث عشر، وقد رسمت معالمها الأديان السماوية؛ وكانت شمسُها مشرقةً فى الشرقِ الإسلامى، غاربةً عن الغرب المسيحى. انتهت هذه العصور المظلمة فى أوروبا بإشراقة عصر النهضة والكشوف الجغرافية، ثم انبثاقة العلم الحديث والعصر الحديث فى أوروبا على مشارف القرن السابع عشر.
توهجت الحداثة الأوروبية عبر القرون التالية، وقد ترسمت معالمها ووقائعها بفعل المشروع الاستعمارى الأوروبى الذى أحكم قبضته على العالم، لم يتوانَ مفكرون فى تسويغ وتبرير الاستعمار الغربى، حتى شكلوا فيلقـًا فى الجيوش الاستعمارية. ارتكزوا على مغالطة وتزييف، فبدلًا من الإقرار بأن الإغريق نقطة بدء الحضارة “الأوروبية”، راحوا يزعمون أنهم نقطة بدء الحضارة “الإنسانية” بأسرها، وكأن الإغريق بدأوا من الصفر. هكذا بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية الأسبق!! ولا يتورعون عن تأكيد أن كل شيء بدأ مع الإغريق: بدأت الأساطير الكونية مع هوميروس، والفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضة مع فيثاغورث، والمسرح مع يوربيديس وأسخيلوس، والديمقراطية فى أثينا مع كاليسثنيس وبريكليس.... إلخ. هكذا نشأت الحضارة الإنسانية أصلًا وفروعًا.
ولئن حملت الحضارة العربية الإسلامية فى العصور الوسطى لواء التقدم والفلسفة والعلوم، ترجموا أعمال الإغريق ودرسوها وقطعوا شوطـًا تاليًا... فقد راحوا يزعمون أن العرب قاموا بدور ساعى بريد نقل ميراث الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين فى أوروبا لتنطلق الحداثة الغربية صانعةً التقدم الذى تنعم به البشرية. هكذا تبدو قصة الحضارة من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة. ويَقرُّ فى الأذهان أن الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضارى ،المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق فى تصريف شؤون الحضارة وفقاً لمصالحه؛ فمن حكم فى ماله ما ظلم. إذن الاستعمار والهيمنة على العالمين نصيب الغرب المشروع، حقه وواجبه.
كان السبيل لهذا هو الإسراف فى تمجيد ما أسموه المعجزة الإغريقية؛ وإهدار ميراث الحضارات الشرقية الأسبق التى أصبحت مُستعمَرة. وبينما الحضارة اختراع مصرى، أنجزه الفراعنة قبل الإغريق بألفى عام ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط.
على أية حال، وصل المشروع الاستعمارى إلى طريق مسدود فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتنامت موجات نقده ونقد الحداثة إجمالًا، بمعية موجات الاستقلال والتحرر القومى، عبر العقود التالية التى هى عصر ما بعد الحداثة ومابعد الاستعمار ومابعد المركزية الغربية وواحدية النموذج الحضارى الغربى. إنه عصر التعددية الثقافية الذى يعترف بدور الأمم/الثقافات المتعددة فى صنع ملحمة العلم وقصة الحضارة، ويستلزم نضال المفكرين لاستئصال شأفة الفكر الاستعمارى وإثبات الذات الحضارية.
على مدار عقود ثلاثة أو أربعة انصبت جهودى الفلسفية فى هذا النضال، وجعلتُ هدفى الدفع بالفكر العربى إلى عصر مابعد الحداثة ومحو أغاليطها الاستعمارية، وأولها: الزعم بأسبقية الإغريق. ولكن ليس فينا من ينكر دورهم العظيم فى تأسيس العقل النظرى والفلسفة الناضجة، ومن أجله قضيت الأسبوع الأول من شهر ديسمبر فى أثينا، تحديدًا فى فندق أقصده عادةً؛ لأنه فى الحى التاريخى القديم وسط أثينا، يطل على أهم مزار أثري: الأكروبوليس، منطقة مسورة تمثل قلب أثينا القديمة، حيث أطلال المعابد والمسارح والساحات الشعبية والسياسية، مكتوب على بوابته: هنا بدأت الحضارة الأوروبية.
شرفة غرفتى بالدور السابع فى مواجهة المعبدين الرئيسين أعلى هضبة الأكروبوليس معبد بارثينون الأكبر والمكرس للربة أثينا، ومعبد أرخثيون الذى يتميز بأعمدته المنحوتة على هيئة سيدات رشيقات.
وباعتبارى متخصصة فى المنطق ومنهجية العلم، كانت أروع أوقاتى داخل اللقيون/الليسيه مدرسة أرسطو المنطقى الأول فى التاريخ. وقفت حيث كان يعطى دروسه، ومشيت فى طرقات الحدائق التى كان يمشى فيها تلاميذه المشاءون. تتناثر بعض آثار بيزنطية وشواهد من كنائس العصور التالية. يرى الزائر الساحة التى كان يأتيها سقراط ليحاور الجمهور، وقرأ فيها السفسطائى جورجياس على الملأ كتابه عن الآلهة. الساحة بجوار أكاديمية أفلاطون، وفى داخل الجمنزيوم الرياضى الفسيح. على مقربة تشغل الحديقة الوطنية جزءًا كبيرًا من السهل الأوليمبى، وداخلها معبد زيوس الأوليمبى.
ثم توجهت لمكتبة أثينا الوطنية، وأنا أسائل نفسى أية وثائق ونصوص فلسفية تحتويها بين الجدران والأعمدة العتيقة؟! وزرت جامعة أثينا أول جامعة حديثة فى محيط شرق المتوسط، أنشئت عام 1838 تحفة معمارية من الفن القوطى.
أسبوع بديع عَبَرتُ فيها ألفين وخمسمائة عام، وذهبت إلى حيث بدأت الحضارة الأوروبية، وليس الحضارة الإنسانية أصلًا.