رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«زقاق المدق».. من هنا بدأ نجيب محفوظ طريقه نحو «العالمية»


1-3-2025 | 21:17

صورة أرشيفية

طباعة
تحقيق وتصوير: محمد السويدى

حينما أراد أديب مصر العالمى نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988، التعبير عن واقع الحارة المصرية فى زمن الاحتلال الإنجليزي، لم يجد أفضل من «زقاق المدق» بحى الحسين فى قلب القاهرة الفاطمية لنقل تفاصيل الحارة الشعبية بحلوها ومرها فى آن واحد فى واحدة من أهم رواياته التى حملت نفس اسم الزقاق عام 1947، والتى تحولت فيما بعد إلى فيلم للفنانة الراحلة شادية والمخرج حسن الإمام والمنتج رمسيس نجيب عام 1963.

 

وبعد مرور 78 سنة على صدور الرواية و62 عاما على إنتاج الفيلم الذى يحكى ويجسد واقع الزقاق عام 1944 مثلما ظهر فى تتر البداية للفيلم، ذهبنا إلى «زقاق المدق» وتجولنا فى طرقاته وبين منازله ومبانيه، وقد تغيرت معالم الزقاق كثيرا، وتحولت أغلب مبانيه إلى مخازن للخردوات والملابس، وكانت المفاجأة السارة بداخل الزقاق أن بعضًا من شخصيات الفيلم والرواية الحقيقيين، لا يزال أحفادهم يسكنون الزقاق، ليس هذا فحسب، محل العطارة وشرفة منزل أم حميدة ومقهى زقاق المدق، ولكلٍّ منهم سطور وحكايات فى الفيلم والرواية معا، مازالوا يشهدون على ماضى الزقاق وحاضره.

 

الوصول إلى «زقاق المدق» كان يتطلب أولا المرور فى حارة الصنادقية، والتى يتفرع منها الزقاق، وهى أول حارة موازية لشارع الأزهر، اشتهرت قديما بصناعة وتجارة الصناديق الخاصة بالعروس وكذلك بتجارة البخور والتوابل والعطور، واليوم حلت تجارة الخردوات والكشاكيل والكراسات فى الحارة محل الصناديق، وهو ما تجده أيضا فى بعض محال الزقاق، فعلى ناصيته يوجد محلان صغيران لبيع الخردوات والكشاكيل، كان أحدهما يمتلكه قديمًا عم كامل الحموى بائع البسبوسة والذى كتب عنه نجيب محفوظ فى الرواية وجسد شخصيته فى الفيلم الفنان عبدالوارث عسر، والمحل الآخر عبارة عن مخزن للخردوات، وكان فى أربعينيات القرن الماضى صالونا للحلاقة، وقد ظهرت شخصية صاحبه فى الفيلم باسم «عباس الحلو» وجسد دوره الفنان الراحل صلاح قابيل.

 

فى عرف أبناء الزقاق، «من يدخله دون أن يجلس على مقهاه الذى يحمل الاسم ذاته، فكأنه لم يدخل الزقاق من أصله»، فهو أهم معالم الزقاق التاريخية ويرجع تاريخ إنشائه إلى أكثر من 120 سنة لصاحبها ومؤسسها «المعلم» على يوسف.

 

فى البداية يقول عبدالجليل عبدالنبي، 66 سنة، حفيد مؤسس المقهى المعلم على يوسف: لم يبقَ من معالم زقاق المدق المذكورة فى رواية نجيب محفوظ والفيلم الذى حمل نفس الاسم سوى المقهى ووكالة العطارة، فلم يعد لدينا محل الكسكسى والبسبوسة بناصية الزقاق أو فرن العيش أو محل عم حامد «المزين» ومحل لحمة الراس وصاحبه عم شاروق ولا حتى أم حميدة وابنتها حميدة، ومات كل الناس الطيبين بالزقاق، كما لم يعد الزقاق كما هو بأرضيته الترابية وصولا إلى بيت صاحبة الفرن فى الزقاق «الجواني».

 

وأضاف «عبدالجليل»: تأسس المقهى فى مطلع القرن العشرين وهو يبعد خطوات لا تتعدى عشرة أمتار عن منزل المؤرخ المصرى الشهير عبدالرحمن الجبرتى «مؤرخ الحملة الفرنسية» فى 15 حارة الصنادقية، ولم يكن يوجد فى الزقاق والحوارى المجاورة فى زمن جدى على يوسف فى مطلع القرن العشرين وحتى وفاته سوى هذا المقهى، لذا عرفه الجميع وكان يعمل به 24 فردا بنظام الماركات نتيجة لكثرة المترددين على المقهى، وهو ما اتبعه والدى عبدالنبى المولود فى منتصف العشرينيات بعد وفاة الجد، والآن أنا أسير على دربهما ولا تزال على حالها القديم، موضحا أن له من الإخوة 11، تُوفى منهم ستة، ولكنه المسئول الوحيد عن المقهى.

 

وأكمل «عبد الجليل» قائلا: أول ترخيص رسمى لمقهى زقاق المدق تم إصداره فى زمن الخديو عباس حلمى الثانى فى الأول من أغسطس عام 1904 باسم جدى على يوسف، وهو الخديو الذى أحبه جدى كثيرا، وقام بتعليق صورته فى المقهى، وظلت معلقة على جدران المقهى عشرات السنوات حتى بعد وفاة الجد، وقد تم تحرير تصريح المقهى فى ذلك الوقت باللغتين العربية والفرنسية، وحمل عدة تعليمات من بينها جواز السهر حتى الساعة 2 بعد منتصف الليل، وفى حال مخالفة ذلك يحق للبوليس سحب التصريح، وكان جدى وجدتى يعيشان داخل الزقاق فى البيت المواجه للمقهى وفيه عاش وتربى والدى ولا يزال البيت قائما، ولكنه تحول إلى مخزن للخردوات، وهو بالمناسبة نفس البيت الذى كانت تسكن فيه حميدة ووالدتها.

 

وأرجع «عبدالجليل» سبب تسمية «زقاق المدق» وفق ما حكاه له والده إلى طحن التوابل والغلال قديما فى الزقاق عن طريق «الدق» بمطرقة، فتتحول الغلال والتوابل إلى مسحوق بودرة، مشيرًا إلى رؤيته وهو صبى فى مطلع السبعينيات لأم حميدة وابنتها حميدة وقد ماتت حميدة قبل أمها بسنوات طويلة بسبب مرضها، كما أن مقهى زقاق المدق الذى ورثه عن جده وأبيه، قد تغير حاله وتغيرت زبائنه وقل عددهم، ما جعله يفتح المقهى من الثامنة صباحا وحتى الخامسة مساء فقط ويقدم فنجان الشاى لزبائن المقهى بسبعة جنيهات، وهو أقل بكثير من سعر كوب الشاى فى المقاهى الأخرى فى ساحة مسجد الإمام الحسين، لكن فى الوقت نفسه لا يزال المقهى يتمتع بسمعة طيبة، ويتوافد عليه السائحون كل فترة لالتقاط الصور التذكارية بداخله.

 

وأكد «عبدالجليل»، أن أسرته ظلت على خلاف مع الأديب نجيب محفوظ لسنوات طويلة، لأنه جعل من شخصية جده صاحب المقهى فى فيلم ورواية زقاق المدق تاجرًا للمخدرات وعميلا للإنجليز على غير الحقيقة وهو الدور الذى لعبه الفنان محمد رضا تحت اسم «المعلم كرشة»، وجعل من والده عبدالنبى محبًا للخمور والنساء، وهو الدور الذى أداه فى الفيلم الفنان حسن يوسف باسم حسين ابن المعلم كرشة، نافيا أن يكون جده والذى توفى عن عمر تجاوز المائة كان عميلا للإنجليز ولا والده كان «بتاع فرفشة وخمرة» مثلما ظهر فى الفيلم، ونتيجة لهذا الخلاف مع نجيب محفوظ رفض والده عام 1980 تصوير مشاهد من مسلسل الدنيا الجديدة لمحمد رضا وصفية العمرى داخل المقهى، نظرا لأن مؤلف المسلسل هو الأستاذ نجيب محفوظ.

 

وأضاف صاحب مقهى زقاق المدق، الأديب الراحل جمال الغيطانى هو مَن قام بالصلح بين أسرتى والأديب نجيب محفوظ، وقد اصطحبنى إلى منزل نجيب محفوظ بكورنيش النيل بالعجوزة قبل وفاته، وتمت تصفية الأجواء بيننا وأعطانى نجيب محفوظ آنذاك صورة له تحمل توقيعه، قمت بتعليقها فى المقهى.

 

وأشار حفيد مؤسس مقهى زقاق المدق، إلى أبرز المشاهير الذين ترددوا على المقهى فى الماضى وفى مقدمتهم بالطبع نجيب محفوظ، كذلك الأديبان جمال الغيطانى وخيرى شلبي، بالإضافة إلى الفنانين محمد رضا وحسن عابدين وسعيد صالح وإبراهيم سعفان وسيد زيان وزين العشماوى وبدر الدين جمجوم وصفية العمري، وحكى عبدالجليل ما رواه له والده بأن الأديب نجيب محفوظ كان يجلس فى المقهى فترات طويلة أثناء تصوير فيلم زقاق المدق، بينما شادية وبقية نجوم العمل فى أماكن التصوير بحى الجمالية.

 

على يمين القهوة يوجد محل العطارة الوحيد بالزقاق وقد أسسه الحاج على إبراهيم العطار عام 1957، هو نفس المحل الذى جاء ذكره فى الرواية تحت اسم وكالة السيد علوان العطار ولعب دور الشخصية فى الفيلم الفنان عدلى كاسب، ويدير المحل الآن أبناء الحاج على إبراهيم وهم عم محمود «63 سنة» الذى يقيم فى البيت المجاور للوكالة، وكان قديما فرنًا للعيش وعم حسين وكان لهما الأخ الثالث وهو أكبرهم وتوفاه الله الحاج محمد على إبراهيم.

 

الحاجة أم كريم من سكان زقاق المدق، وتقيم به منذ 41 سنة، وزوجها الراحل الحاج محمد حسن عابدين من سكان الزقاق الأصليين عاش ومات داخل الزقاق، وكانت جدته واسمها «الصلاة على النبي» تمتلك فرن العيش الذى جاء ذكره فى الرواية وجسدت دورها فى الفيلم الفنانة ثريا حلمي، ولم يعد الفرن موجودا الآن، موضحة أن غالبية بيوت الزقاق كما هى ولكنها تحولت إلى مخازن للخردوات والملابس والفضة، ولم يعد يسكن بالزقاق إلا هى والحاجة «زوبة» زوجة المرحوم عبدالعظيم «عم زوجى»، ونظرا لأن الزقاق قد خلا من معظم السكان وتحول إلى مخازن، فقد اضطررنا لقضاء معظم الوقت مع أبنائنا فى منطقة المقاولون العرب بالاوتوستراد ونأتى للزقاق كل فترة للمبيت فيه يوما أو يومين ثم العودة مرة أخرى إلى سكن الأبناء، وتذكرت أم كريم أيام الزمن الجميل فى الزقاق مع «ستات» الزقاق، الحاجة نبوية والحاجة أم بدر والحاجة أم زوبة وزوجها عم محمد مناف وكان متخصصا فى صناعة منتجات النحاس بخان الخليلي، كما تذكرت الحنفية التى كانت أمام منزل عائلة زوجها وكان يقيم فيه 5 أسر، وكان كل أهل الزقاق ومحاله التجارية يأتون لملء المياه منها، ولكنها لم تعد موجودة الآن وأُقيم مكانها محلًا للفضة، وأضافت أم كريم أن أبناءها الثمانية أنجبتهم وعاشوا فى الزقاق، ابنها الأكبر كريم يعمل فى صناعة أوانى الألومنيوم، فى حين يعمل أحمد ومجدى وحسن فى صناعة السبح، وبناتها الأربع سماح وكريمة وشيماء وسارة، والأخيرة تقيم فى أسوان.

 

محمد سيد أحمد من مرتادى الزقاق الذين يعرفن تاريخه جيدًا ويهوى الجلوس على مقهى زقاق المدق منذ سنوات، شدد على أن فيلم زقاق المدق هو «وش السعد» على نجيب محفوظ وطريقه للعالمية قبل الثلاثية، لافتا إلى أن «يافطة» الزقاق الأصلية التى كتبها الخطاط الشهير أحمد الهوينى فى عشرينيات القرن الماضى تمت سرقتها فى أوائل الثمانينيات والآن هى موجودة فى نيويورك بأمريكا فى شارع صغير يحمل اسم «زقاق المدق»، مضيفا أن شقة أم حميدة تحولت بعد رحيلها هى وابنتها حميدة إلى مخزن خردوات، وشباك حميدة وهو من الأرابيسك لم يُفتح منذ رحيلها، كما أن فيلم «زقاق المدق» تم اقتباسه وإنتاجه من جديد بأسماء أخرى، أحدهما عمل درامى فى المكسيك فى منتصف التسعينيات، وقد اعترف سفير المكسيك بالقاهرة بذلك فى العيد الوطنى للمكسيك فى سبتمبر الماضي، والآخر فى إيران عام 2004 باسم «ستار كافيه»، وقد اعترف بيمان معادى مؤلف الفيلم أنه كتب سيناريو الفيلم اقتباسًا حرًا من رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ.