«تغريد البلابل فى حضرة صاحبة الجلالة».. كم كانت احتفالية مجلة «المصوّر» بمئويتها داخل المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية يغلب عليها طابع البهجة والأصالة بأصوات تشدو بأعذب الألحان وأرقّ ما كتب فى تاريخنا الغنائى، بقيادة نسائية واعية للمايسترو عفاف شكرى، ورفاقها من عازفى فرق الموسيقى العربية المختلفة، التى كانت أشبه بمنتخب موسيقى وغنائى يمثل جميع فرق الموسيقى العربية بدار الأوبرا.
تميز هذا الحفل الرائع برحلة غنائية تجول وجداننا خلالها بين العديد من عواصم الذكريات التى عبر عنها المطربان محمد طارق ورضوى سعيد بأغانٍ تراثية، تنوعت فيها القوالب الغنائية والحقب التاريخية التى أثرت فن الشدو والغناء بمعانٍ ألهبت النفوس والوجدان لعظماء الكلمة والألحان، أمثال موسيقار الأجيال وثومه ومكاوى ووديع وحليم العشق والهيام فى كل الأزمان.
كان لا بدّ لنا أن نستعرض كواليس استعدادهم لهذا الحفل المهيب من خلال صُنّاعه الذين اختتموا احتفاءهم بمئوية مجلتنا الغراء «المصوّر» بأغنية «لقاء السحاب».
فى البداية تعبر رضوى سعيد، المطربة بفرقة التراث بدار الأوبرا، عن سعادتها الغامرة لإحيائها مئوية مجلة المصوّر، قائلة: جاء اشتراكى بناءً على ترشيح من الإدارة المركزية للموسيقى الشرقية بدار الأوبرا، فسعدت جدًا لأننى سوف أشارك فى هذه المناسبة الثقافية المهمة؛ احتفاءً بهذا الصرح التنويرى الذى أثرى الوجدان وشكّل شخصيات المجتمع العربى بأكمله من خلال عقول وأقلام كُتاب مجلة المصوّر التى باتت تقدم لنا الصحافة الجادة طيلة قرن من الزمان، دون أن تتوقف عن إمداد معين الفكر والتنوير بآراء ومقالات ووجهات نظر لكُتابها الذين يغلب عليهم طابع الحيادية لكى يقدموا إلينا وجبة دسمة من المعرفة والثقافة، بل إننى سعدت أيضًا عندما علمت أثناء تواجدى ضمن فعاليات هذا الحفل المهيب الذى شهد حالة من الزخم بإطلاق موقع «المصوّر» الإلكترونى ما سيمكّن الأجيال الشابة الجديدة من متابعة كل ما هو جديد على الساحتين المصرية والعربية من أحداث، خاصة أن هذا الوسيط الإلكترونى يمتاز بسهولة الاطلاع عليه من خلال الهاتف المحمول، ما يجعلنا جميعًا على دراية بما يحدث على الساحتين المحلية والدولية.
فضلًا عن أن هذه الصحافة المستنيرة يقع على عاتقها عبء مواجهة ما نعايشه من شائعات وأكاذيب، فهى رمانة الميزان التى تضع كل الأمور أمام القراء بكل شفافية ووضوح؛ لكى تقف درعًا لهذا الوطن فى وجه أعدائه والمتربصين به.
وتقول «سعيد»: كان متروكًا لى حرية اختيار الأغانى التى سأقدمها فى هذه الاحتفالية من قِبل المايسترو عفاف شكرى، وهى عازفة قانون محترفة، ونتزامل معًا داخل فرقة التراث للموسيقى العربية، لذا حرصت على أن تكون مجموعة الأغانى التى أقدمها لجمهور مجلة «المصوّر» من كُتاب وصحفيين على قدر كبير من الثقافة ومخزوننا الفنى والموسيقى، وأن تكون تلك الأغانى التى أقدمها بها نوعًا من الثراء الوجدانى، وتكون ذات شعبية، وترتبط داخلهم بمواقف وذكريات عاشوها من قبل لكى أضمن تجاوبهم مع أدائى لها؛ لأن جماهيرية العمل الغنائى تضمن للمطربة تفاعل الحضور معها، ومن ثم يتحقق الهدف المنشود لها وللجمهور بنجاحها فى اختياراتها لهم واستمتاعهم بمتعة التذوق الفنى والحسى.
كما أننى حرصت على إحيائى لتراثنا الغنائى من خلال تقديمى مجموعة من أجمل أغانى التراث لشريفة فاضل «لما راح الصبر منه» التى أتذكر بخصوصها قصة كان يرويها الشاعر الغنائى الكبير مجدى نجيب، حيث ذكر أن الملحن منير مراد أراد أن يقدم الفنانة شريفة فاضل بعد نجاحها معه فى تقديمها اللون الشعبى من خلال أغانى «يا معجبانى وحارة السقايين» أن يقدمها بشكل جديد، فقام بعزف لحن أغنية «لما راح الصبر منه»، وطلب من الشاعر مجدى نجيب أن يكتب كلمات تتماشى مع هذا اللحن المتميز، فكتب الأغنية التى لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.. كما أننى كنت حريصة على تنوع الأغانى الأخرى التى أقدمها فى هذا الحفل ما بين أغانى المطربة الكبيرة وردة وأم كلثوم وأردت أن أختم الفاصل الغنائى الذى قدمته بأغنية «أنت عمرى»؛ لأنها من أكثر الأغانى المحببة للجمهور.
المعادلة الصعبة
مطرب الفرقة القومية للموسيقى العربية السكندرى محمد طارق، قال: أعتبر مشاركتى فى الاحتفال بمئوية مجلة عريقة مثل «المصوّر» من أهم الحفلات المميزة فى مشوارى الفنى، لذلك أتوجه بالشكر لإدارة الموسيقى الشرقية التى رشحتنى لأول مرة فى حياتى للاشتراك فى مثل هذه الاحتفالية الكبرى بمجلة لعبت دورًا هامًا فى تاريخ مصر، وكان اختيارى للأغانى التى قدمتها من خلال اقتراحى المكتوب للمايسترو عفاف شكرى، حيث تقدمت إليها بقائمة تضم عددا كبيرا جدًا من الأغانى التى أحب أن أغنيها فى هذه المناسبة العظيمة، وتم الاتفاق بيننا على ما قدمته من أغانٍ، حيث كان حرصنا على تقديم أغانٍ ذات جماهيرية كبيرة، إلى جانب أننى حرصت على تقديم مجموعة من الأغانى مثل «إمتى الزمان يسمح يا جميل» لموسيقار الأجيال، ثم «وحياتك يا حبيبى» للشيخ سيد مكاوى الذى يمتلك بصمة متفردة فى الوجدان المصرى، وتلا ذلك استكمالى للمعادلة الصعبة بغنائى الأغنية المبهجة «على رمش عيونها» للراحل العظيم وديع الصافى، وختامًا رأيت أنه لا ينبغى أن أختم الفاصل الغنائى الذى قدمته دون أن أجعل الجمهور يستدعى ذكرياته مع أغانى العندليب الأسمر عبد الحليم خافظ بأغنية «جانا الهوى».
«طارق» أكد: كان استعدادنا لإحياء هذا الحفل يمثل نوعًا من التحدى لنا من خلال حرصنا على تقديم أفضل ما عندنا من إمكاناتنا التطريبية وعمل بروفات بشكل جاد واختيارنا للكوبليهات التى سنغنيها بالتنسيق مع المايسترو عفاف شكرى التى كانت تشجعنا على إجادتنا للغناء مع تركها لنا كامل الحرية فى اختيارنا لهذه الأغانى التى تتناسب مع المساحة الصوتية لكل منا، ومن ثم لم تواجهنا أى صعوبات أثناء استعدادنا لهذا الحفل.
المايسترو الوحيدة بالأوبرا
المايسترو عفاف شكرى، عازفة القانون، وقائد حفلة مئوية «المصور» قالت: «كم كنت سعيدة جدًا عندما تم إبلاغى من قِبل المهندسة أمانى السعيد، رئيس الإدارة المركزية للموسيقى الشرقية بدار الأوبرا، بالحفل، لأننى أرتبط بمؤسسة دار الهلال وجدانيًا لسببين، أحدهما أننى أقطن فى حى السيدة زينب الذى تقع به هذه المؤسسة العريقة، والذى ينتمى إليه أيضًا موسيقارنا العالمى عمر خيرت، حيث يطلق اسم عائلته على أحد شوارع الحى العتيق والمعروف بـ «شارع خيرت»، أما السبب الآخر فيتعلق بمدى شغفى بمتابعة إصدارات دار الهلال منذ صغرى من خلال مجلتى «ميكى» و«سمير» اللتين شكّلتا وجدانى منذ نعومة أظافرى، وعندما كبرت كنت أطّلع على مجلة «المصوّر»؛ لأن والدى كان يقرؤها، ولم أكن أتوقع فى يوم ما أننى سأحيى حفلها المئوى.
وتضيف «شكرى»، قائلة: أعتبر تكليفى من قِبل إدارة الأوبرا لإحياء هذه المناسبة المهمة فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية بمثابة تكريم لشخصى كفنانة وللمرأة بصفة عامة؛ لأننى أعد السيدة التى تعزف دون غيرها داخل الأوبرا على آلة القانون والتى كان يحتكر العزف عليها الرجال، فضلًا عن كونى أيضًا السيدة الوحيدة التى تنفرد داخل الأوبرا بالعمل كـ»مايسترو»، وهذا له مدلوله بأن الجنس الناعم يستطيع أن يقتحم المجالات التى انفرد بها الرجال، وأضافت: أقتدى فى قيادتى لأى فرقة موسيقية بأستاذتى الدكتورة مايسة عبد الغنى، أستاذة آلة القانون والعميد الأسبق لمعهد الموسيقى العربية، وأستاذتى عازفة القانون الكبيرة الدكتورة مديحة عزمى، وعازف القانون الكبير الذى جعلنى أعشق القانون من خلال عزفه المتميز عليه الدكتور ماجد سرور.. كما أننى حرصت أن يكون زملائى من العازفين داخل هذه الاحتفالية أشبه بمنتخب من أمهر العازفين الذين يمثلون جميع فرق الموسيقى العربية لأننا نمثل دار الأوبرا بكل فرقها الموسيقية «عبدالحليم نويرة والقومية والتراث والإنشاد الدينى وفرقة إسكندرية».
ثم تلى ذلك التنسيق مع المطربة رضوى سعيد التى تنتمى لفرقة التراث للموسيقى العربية والمطرب محمد طارق بالفرقة القومية للموسيقى العربية» لاختيار الأغانى التى تتناسب مع المساحة الصوتية لكل منهما، وأن تتصف هذه الأغانى بإضفاء روح البهجة على هذه الاحتفالية، ولكى نرضى جميع أذواق الحضور من خلال تقديمنا برنامجا غنائيا طربيا ومتنوعا يشمل عدة قوالب ومدارس غنائية تطريبية مختلفة.
وأوضحت أن السر وراء تقديمنا لأغنية «إنت عمرى» فى ختام هذا الحفل هو أننى أتبع نهج عازف القانون الكبير الراحل محمد عبده صالح الذى أعتبره «ألفة» العازفين على القانون فى الشرق الأوسط؛ لأنه يمتلك تكنيك عزف بأسلوب احترافى مختلف وإحساس مرهف يعبر عنه من خلال آلة القانون، وحبى لعزف عبده صالح جعلنى أتقن عزف «صولو» القانون فى أغنية «إنت عمرى» لأم كلثوم؛ لأننى أحب الأعمال التطريبية التى يعزفها التخت الشرقى، وأحترم خصوصية هذه الآلة لأنها آلة شرقية، لذا أردت أن أختتم هذه الاحتفالية بتقديم أغنية «إنت عمرى» التى جمعت لأول مرة الست أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب لكى نمتع كُتاب وصحفيى «المصوّر» فى مئويتهم، واحتفاءً بالذكرى الخمسين لكوكب الشرق أم كلثوم.