«المصور تكرم الموسيقار العالمى رمزى يسى فى مئويتها».. والذى مازال يحتفظ بشبابه ولياقته على العزف على البيانو بعد 49 عامًا من الغربة داخل فرنسا.. إلا أنه عاد للقاهرة من جديد كأحد الطيور المهاجرة لإحياء حفل «جالا» مع أوركسترا أوبرا القاهرة بقيادة المايسترو العالمى نادر عباسى داخل المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية.
«يسى» يروى لنا داخل «صالون المصور» اعتزازه بأصوله الصعيدية وإصراره على تعلم العزف على البيانو ودعم والده طبيب العيون له، ويكشف سر تبنى وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشة والموسيقار الكبير أبو بكر خيرت له فنيًا وسبب منحه لقب «الشاب رمزى يسى» فى أولى حفلاته داخل الأوبرا الخديوية قبل أن يتم عامه الخامس عشر من عمره وتقاضيه 35 جنيهًا كأول أجر له ما جعله الوحيد بين زملائه داخل الكونسرفتوار يمتلك حسابًا بنكيًا..!
ويحكى لنا بواعث هروبه من حر القاهرة بالسفر إلى باريس وكيف أنصفه الإسبان بمنحه أول جائزة فى حياته.. لم يكتف بحبه لـ«شاعر البيانو» المؤلف الموسيقى شوبان لكن القدر ساق إليه فرصة العزف تحت شرفة غرفته التى ودع بها الدنيا، بعد أن ساءت صحته بسبب فراق حبيبته له فأصبحت موسيقاه ما هى إلا مآسٍ معزوفة تخلد ذكراه”..!
المصور: كيف بدأت علاقتك بالموسيقى ووصولك إلى الاحتراف؟!
بدأت تعلم العزف على آلة البيانو قبل أن أبلغ السابعة من عمرى، وذلك تأثرًا بوالدتى، ودرسته على يد مدرس إيطالى الجنسية وتدريجيًا مع مرور العمر ازداد شغفى وفضولى نحو تعلم الموسيقى رغبة فى أن تصبح جزءًا منى، فلم تكن دراستى للموسيقى لمجرد حرصى على النجاح فقط بل كنت أكرس ساعات يومى كاملة للموسيقى والتدريب عليها، فعندما كنت فى سن صغيرة لعبت على البيانو وتعلقت به بشدة، دون التفكير فيما سأصبح عليه عند الكبر. وتعتبر الفترة التى التحقت فيها بالدراسة بالكونسرفتوار، هى فترة محورية فى تاريخى حيث كنت فى عمر الثالثة عشرة، وقد أتاحت لى الدراسة بهذا الصرح العظيم أن يتم تأسيسى موسيقيًا وتكوين ثوابت معينة فى شخصيتى، مفادها أن دراسة الموسيقى ليست ترفيهًا، ولابد أن أتعامل معها بمحمل الجدية؛ لأنها مكملة لشخصيتى. فتعلمت من الموسيقى معنى الانضباط وأصبحت جزءًا أصيلًا من الأعمدة الرئيسية فى تكوين شخصيتى لأنها تثرى الفكر والوجدان ومازلت حتى الآن لا أكتفى بالعزف على البيانو فقط ولكننى مازلت أطلع على كل ما يخص العزف عليه سواء من خلال القراءة أو الاستماع لغيرى من العازفين الآخرين.. لأننى قرأت أن أحد الفلاسفة كان يطلب من العامة أن يعلموا أبناءهم الموسيقى لأنها تمكنهم من إدراك الأشياء والمواقف بشكل صحيح لإيمانه بأن الفن ليس مجرد أداة لشغل أوقات الفراغ، ولكنه وسيلة لإيجاد صياغة أفضل لشخصياتهم.
المصور: بلا شك أن نظرية المدرسة السلوكية فى علم النفس تنطبق عليك والتى تنص على «أن الإنسان ابن بيئته» بسبب نشأتك داخل أسرة تعشق الموسيقى رغم أصولها الصعيدية فوالدتك وخالتها وأختك عازفات بيانو، أو كما يقال فى المثل الشعبى بأن «ابن الوز عوام»؟! وهل الفن يكتسب أم إنه لابد أن يكون نابعًا من الموهبة؟!
من المؤكد أن توافر الموهبة لدى أى دارس للموسيقى أو للفن بشكل عام ضرورى جدًا، كما أن المثابرة على تعلم الفن فى حد ذاته تعد موهبة أيضًا. هناك أناس موهوبون فى مجالات كثيرة لكنهم يفتقدون شغف الاستمرارية فى تعلمهم هذا الفن والمثابرة على تحقيق نجاحهم.. فيجب أن يكون الفنان موهوبًا، ولكى يصبح محترفًا يجب عليه تنمية هذه الموهبة وتوجيهها فى مسارات علمية وتخصصية تجعل من هذه الموهبة سلوكًا عامًا فى حياته.. وعلى أصحاب المواهب أن يصبروا ويتدربوا ويؤهلوا أنفسهم باستمرار حتى يصبحوا متخصصين بارعين فى مجال موهبتهم، خاصة لو كانت موهبتهم فنية.
لذلك أعتبر نفسى ذا حظ عظيم وقدر جيد، لأننى نشأت فى بيئة ومناخ أسرى ساهم بقدر كبير فى توجيه فكرى وموهبتى نحو الطريق الصحيح، بعيدًا عن الأفكار التقليدية للأسر المصرية التى تأمل أن يصبح أبناؤها أطباء أو مهندسين أو ضباطا.. فهناك الأكثر منى موهبة ولكنهم واجهوا إصرار أسرهم على تعلمهم الموسيقى بعد انتهاء دراستهم فى كليات الحقوق أو الطب أو الهندسة ولكننى وجدت البيئة العائلية التى تربيت داخلها لا تفكر بهذه الصورة لذلك أرى نفسى محظوظًا.
المصور: المتأمل لمسيرتك الفنية يجد أن والدتك كان لها الفضل فى التأثير على جيناتك الوراثية فى حبك للموسيقى بصفة عامة وللعزف على البيانو بصفة خاصة والدليل على ذلك أنك لم تقتد بمهنة والدك الطبيب الذى كان يمارس هواية التصوير الفوتوغرافى ببراعة، لكنك صرحت فى الوقت نفسه بأنك لو لم تكن عازفًا للبيانو كنت ترغب أن تصبح جراحًا فلماذا؟!
لقد نشأت فى كنف أسرة لأب طبيبًا وأم موسيقية، ومن خلال متابعتى لمجال عمل والدى، لمست أن الجراحة موهبة كبيرة، فالجراح يجب أن يكون أداؤه محسوبًا ومدروسًا بدقة، ويتطلب ذلك جهدًا وقدرًا كبيرًا من التوافق العضلى والعصبى لكى يتمتع بالدقة فى ممارسته لمهنته حتى يتسنى له علاج المريض بشكل ناجح، ويعود المريض فيما بعد لحياته بشكل طبيعى.. كما أننى أرى أن الطب من المهن التى تتشابه من حيث الدقة والاهتمام بالتفاصيل مع مجال العزف والموسيقى، فضلًا عن أننى أرى أن الطب من المهن التى تزخر بالنبل الشديد.
كان والدى طبيبًا بارعًا فى مجال الرمد والعيون، ولكنه أيضًا كان عاشقًا للفن والموسيقى، ولذلك اعتبر نفسى محظوظًا عن غيرى فى هذا الشأن، وليس معنى ذلك أننى قد نجحت بالحظ ولكننى أقصد أن الفرصة قد أتت إلى وتمسكت بها، بالإضافة إلى أننى نلت تشجيعًا كاملًا من والدى، الذى لم يجبرنى على انتهاج طريقه، بل كان أول المؤيدين مع والدتى لانضمامى للدراسة بمعهد الكونسرفتوار.
المصور: يقال أن الدكتور ثروت عكاشة فى أول لقاء جمعك به أثناء التحاقك بمعهد الكونسرفتوار احتضنك فنيًا بسبب إعجابه بعزفك على البيانو، كما أنه تعامل معك بروح الأبوة بسبب أن والدك كان يخدم معه داخل الجيش المصرى فماذا دار بينكما فى هذا اللقاء؟!
أثناء خوضى اختبارات القبول بمعهد الكونسرفتوار الذى أقيم للطلبة المتقدمين للالتحاق به داخل قصر هدى شعراوى فى عام 1959 بشارع قصر النيل ثم تحول الآن إلى أحد الفنادق علمًا بأن المعهد نفسه كان يقع فى مقر وزارة الثقافة الحالى بالزمالك.. لفت عزفى على البيانو انتباه الدكتور ثروت عكاشة أثناء تفقده لاختبارات القبول بالمعهد وسألنى عن اسمى ثم طلب منى أن أبلغ والدى سلامه له لأنه يعرفه منذ أن كان يؤدى الخدمة العسكرية معه، ولم أكن أعلم من قبل هذه العلاقة أثناء امتحان القبول بالمعهد، ولذلك كان الدكتور عكاشة يعتبرنى ابن الكونسرفتوار ووزارة الثقافة؛ لأننى كنت ضمن أول دفعة التحقوا بالدراسة بهذا المعهد وكان معجبًا جدًا بعزفى على البيانو.
المصور: كان للدعم الفنى الذى حظيت به من الدكتور ثروت عكاشة والمهندس أبو بكر خيرت مؤسس الكونسرفتوار دور هام فى تقديمك أولى حفلاتك داخل الأوبرا الخديوية مع الأوركسترا قبل أن تبلغ الخامسة عشرة من عمرك بل إنهم لقبوك منذ تاريخ هذه الحفلة فى 19 يناير 1963 بـ “الشاب” رمزى يسى فما هى حكاية اشتراكك فى هذه الحفلة؟!
كان سبب دعم الدكتور ثروت عكاشة لى؛ لأنه محب وعاشق للفنون والثقافة بشكل عام، وهو صاحب فكرة تأسيس أكاديمية الفنون وكان لديه تفويض بإنشائها من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لإيمانه بأن الثقافة ركن أساسى فى بناء المجتمع، وأن يكون هناك تعليم جاد للموسيقى ولا يتم تعلمها من أجل الترفيه.. فتم منحى فرصة الاشتراك فى أولى حفلاتى داخل الأوبرا الخديوية؛ لأن المعهد أراد أن يقدم طلابه للمجتمع بشكل يعبر عن باكورة إنتاجه الفنى وأسعدنى جدًا إشادة وإعجاب أساتذتى بعزفى، نظرًا لسرعة تطور مستوى أدائى فى العزف على البيانو، وقررت بعد نجاحى فى هذه الحفلة أن أستمر فى تعلم الموسيقى التى بدأت تعلمها منذ أن كان عمرى سبع سنوات إلى أن التحقت بالكونسرفتوار فى سن الرابعة عشرة وكان وراء ترشحى لكى أشترك مع الأوركسترا بالعزف على البيانو فى هذه الحفلة داخل الأوبرا الخديوية هو والموسيقار الكبير الراحل أبو بكر خيرت مؤسس معهد الكونسرفتوار.. وبالفعل كانت هذه الحفلة هى أولى فرص مشاركتى فى حفل موسيقى أمام الجمهور فى يوم 19 يناير 1963 بالأوبرا الخديوية، حيث كان المعهد يسعى لتقديم طلابه الموهوبين وفوجئت أنهم يقدموننى فى هذه الحفلة للجمهور بلقب «الشاب رمزى يسى» فى حين أننى لم أكن حينها قد تجاوزت الـ15 عامًا وتقاضيت عنها أجرًا بلغ 35 جنيهًا ما جعلنى أفتح حسابًا لى داخل أحد البنوك دونًا عن بقية زملاء دراستى داخل معهد الكونسرفتوار فى هذه المرحلة المبكرة من حياتى.
المصور: ما هى حكاية إهداء الدكتور ثروت عكاشة إليك إحدى النوت الموسيقية للمؤلف الموسيقى الألمانى «فاجنر» وكتابته عبارة إهداء «إلى ابنى الروحى رمزى يسى»؟
بالفعل أعتبر إهداء الدكتور ثروت عكاشة لى هذه النوتة الموسيقية من أهم التكريمات والجوائز التى أعتز بها طيلة مسيرتى الموسيقية، فقد أهدانى هذه النوتة فى عام 1981 خلال زيارتى له فى منزله بمنطقة المعادى، وحينئذ لم يكن وقتها وزيرًا للثقافة، حيث كانت تربطنى به علاقة طيبة، لأنه كان يعاملنى بحسه الأبوى، وأعتز بشرف أنه كان يعاملنى على أساس أننى ابنه الروحى، وقد دون لى على هذه النوتة الموسيقية للمؤلف فاجنر الذى كان يحبه عبارة إهداء «إلى ابنى الروحى رمزى يسى» وطلب منى بعد ذلك أن أعزف فى حفل توقيع أحد كتبه داخل القاهرة.
المصور: بعد تخرجك فى معهد الكونسرفتوار بالقاهرة حصلت على منحة دراسية بمعهد تشايكوفسكى بالاتحاد السوفيتى إلا أنك لم تكتف بذلك فسافرت إلى فرنسا لاستكمال دراستك هناك، فما الاختلاف ما بين المدرستين الروسية والفرنسية فى تكنيك العزف على آلة البيانو؟
لقد حرصت على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من كلتا المدرستين، حيث حاولت أن أتشرب من التربة الخصبة فى كلا البلدين كل ما هو متاح لى من علم، وكلتاهما بالمناسبة مميزتان جدًا على مستوى الموسيقى بشكل عام، والبيانو بشكل خاص.. ففرنسا بلد الفنون وروسيا تمتاز بامتلاكها إرثًا موسيقيًا روسيًا خالصًا لموسيقيين عظماء منذ مئات السنوات، فهم يقدرون القيمة الحقيقية للفن باعتباره أحد مصادر القوى الناعمة لدولتهم، التى تمتلك العديد من المعاهد والجامعات المتخصصة فى الموسيقى.. كذلك تتسم روسيا بالتنوع الفريد فى الأذواق الفنية، نظرًا إلى المساحة الشاسعة للاتحاد السوفيتى سابقًا، وروسيا حاليًا تعد مساحتها أربع وعشرين مرة أكبر من مساحة فرنسا فهذه المساحة تعنى أن لديها تنوعا كبيرا فى الثقافات والألوان الموسيقية والمواهب الفنية.
المصور: من المعروف أنَّك هربت من حر صيف القاهرة بالسفر إلى باريس، إلا أنك فوجئت بأن حر فرنسا كان أشد من القاهرة فى عام 1976 فقررت العودة إلى القاهرة، فى حين أن الإسبان أنصفوك فتراجعت عن هذا القرار باستقرارك فى فرنسا حتى الآن. فما هى قصة إحباطك فى باريس؟ وهل تقدير الإسبان لك كان وراء انطلاقك نحو العالمية؟!
لا أستطيع التحدث عن تعرضى لإحباطات داخل فرنسا، لكننى واجهت مجموعة من التحديات التى يتعرض لها أى مغترب داخل دولة أوروبية، تتطلب وجود سبب للإقامة، سواء كان المغترب طالبًا أو أنه يعمل ويجب أن يكون له موارد دخل. ولذلك، رأيت أن دراستى داخل فرنسا ستمكننى من الإقامة بها. ثم اشتركت فى مسابقة للعزف على البيانو داخل إسبانيا فى إحدى المدن هناك، اسمها «سانتاندر»، وكانت مسابقة دولية شابة، حيث أقيمت وقتها لمدة خمس مرات، إلى أن أصبحت الآن من كبرى المسابقات الدولية ويشترك فيها العازفون من جميع أنحاء العالم، أملًا فى الفوز بالجائزة الأولى أو أن تتم شهرتهم. وهناك مسابقات للعزف على البيانو كثيرة، ربما يبلغ عددها العشرات أو المئات.
علمًا بأننى كنت أرى أن فوزى فى أية مسابقة لن يغير فّى شيئًا، ولكن ما تغير هو نظرة الآخرين لي. فحصولى على هذه الجائزة فى بداية مشوارى يعد نوعًا من اعتراف الآخرين بقيمتى كفنان، وهذا بالطبع له أثره النفسى على أى فنان يفوز بأى جائزة أولى، خاصة أنه كان ينافسنى عليها عازفون من حوالى عشرين دولة من مختلف بلدان العالم. وترتب على ذلك أننى أصبحت معروفًا بشكل أكبر بين أوساط الموسيقيين فى أوروبا، خاصة أنه ينظر لتلك المسابقات الدولية كمرجع لمعرفة المبدعين حول العالم. لذلك تعتبر جوائز المسابقات الدولية نوعًا من الاعتراف بقيمتك كعازف، وهذا يعد أمرًا هامًا ماديًا ومعنويًا.
المصور: كيف يصبح لكل عازف بصمة تميزه فى عزفه عن غيره رغم أن نص المؤلفات الموسيقية واحد؟!
الموسيقى شأنها كغيرها من المجالات الأخرى، ففى الصحافة مثلًا قد يتناول عشرة كتاب حدثًا معينًا بالكتابة، ولكن لكل منهم أسلوبه المتميز فى تناوله لهذا الحدث عن غيره. ومن ثم، فإنهم جميعًا لم يغيروا واقع هذا الحدث، فقراءة مشاهد الأحداث وتحليلها تختلف من صحفى لآخر. وهذا الأمر ينطبق على العازف أيضًا. عندما يعزف مؤلفات بيتهوفن، لا يغير نوت المؤلفات الموسيقية له، لأنه لابد من احترامه للنص الموسيقى. فعلى سبيل المثال، لو أن هناك ثلاثة أشخاص يلقون قصيدة واحدة لأمير الشعراء أحمد شوقى، سنجد أن لكل منهم أسلوبه الخاص الذى يميز أداءه. ويتضح ذلك من خلال نبرة صوته أو طريقة نطقه للكلمات ومدى إحساسه بها. فهذا الأمر ينطبق أيضًا على تكنيك عزف كل عازف للموسيقى التى يقدمها ومدى تقبل الجمهور له. ومن ثم تكون لكل عازف بصمته التى تميز أداءه لهذه المؤلفات الموسيقية عن بقية العازفين الآخرين.
المصور: رغم أن علاقة المجتمع المصرى بالموسيقى الكلاسيكية بدأت مع افتتاح دار الأوبرا الخديوية عام 1869، أى قبل العديد من الدول مثل الصين التى أصبح لديها ملايين العازفين المحترفين على آلة البيانو، إلا أن هناك حالة من الغربة الوجدانية لهذه الموسيقى داخل مجتمعنا، فما السبب؟!
جرت العادة بأنه لا يوجد أى شيء فى هذا الكون يتصف بالثبات. فالمجتمعات دائمًا ما تشهد حدوث تغيرات، ومن ضمنها الموسيقى. فكل الأشياء تتغير، والصينيون سبقوا كل العالم فى عدة مجالات منها الموسيقى. فقد زرت الصين ثلاث مرات وشهدت كمًا من الإبداع الموسيقى غير عادى. فمثلًا، لو تناولنا عدد من يتعلمون الموسيقى داخل كل المعاهد والكليات فى مصر، فسنجدهم عدة آلاف، لكننا سنجد فى الصين ملايين الطلاب الذين يتعلمون الموسيقى. فهذا التفوق العددى لها فى تخريج ملايين العازفين يجعلها تتميز بالقطع عن غيرها من الدول لأن لدى الصينيين بيئة مناسبة لتعلم الموسيقى ويتميزون بالشطارة. فإن كنا نكتشف لدينا من بين من يتعلمون عازف “فلته”، فهناك فى الصين خمسون عازفًا أو عشرون أو أكثر من المتميزين.
والصين حاليًا قد بلغت القمة فى هذا الفن الكلاسيكى، بفضل الطاقات البشرية وما تحمله من علم وموهبة. فى حين أنه فى السنوات الماضية، كانت آلة البيانو تعد الآلة الموسيقية الوحيدة من ضمن الأثاث داخل البيوت المصرية. وعندما بدأت أعزف، لم أجد من يسألنى لماذا تعزف الموسيقى الغربية ولا تعزف الموسيقى الشرقية، ولكن الأمر اختلف مع الوقت. خاصة بعد تحرر البلاد من الاستعمار الإنجليزى، أصبحت الموسيقى العربية أكثر انتشارًا داخل المجتمع المصرى عن غيرها. لذلك بدأوا الآن يسألوننى لماذا لا تعزف الموسيقى العربية؟!
المصور: فى ظل سطوع الأغنية الشعبية والراب بين المصريين مؤخرًا.. هل تراها مرحلة مؤقتة وأن الأجيال الحالية ستعود للاستماع لأغانى عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم، أم أن هذا اللون الموسيقى سيستمر لفترة طويلة؟
الظروف التى نشأ فيها أجيال مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وغيرهم من نجوم هذا الجيل، تختلف تمامًا عن وقتنا الحالى، لأسباب كثيرة تتعلق بمستوى الثقافة والفكر التى كانت موجودة فى تلك الفترة. ولكن مع ظهور وسائل الإعلام “التليفزيون” والتواصل الاجتماعى، تغيرت الذائقة السمعية لدى الأجيال الجديدة بحكم أن كل الأمور والأشياء تتغير. وهذا التغير يمثل سنة الحياة. كما أن التطور التكنولوجى أصبح سريعًا بشكل رهيب، ولم يكن الكثيرون على استعداد لهذا التغير الهائل. لذلك، إن لم تطور من نفسك، ستواجه مصير الاندثار. فعليك مواكبة العصر ومواجهة هذه الأغانى والموسيقى الجديدة بأعمال فنية أفضل. فلماذا كان السواد الأعظم من الشعب يستمع لأعمال سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش؟! لأنها كانت تعبر عن الذوق العام فى هذه المرحلة. وأعتقد أن الزمن هو من يحكم على الفن الجيد. فالفن الذى يستمر له جمهوره لمدة تجاوزت الخمسين عامًا، فمن المؤكد أنه فن جيد، لأنه يستمر لحقب وعقود طويلة. ومن ثم، فإن الأعمال الجيدة تستمر طويلًا، وأى عمل فنى غير جيد فإنه مع الوقت يختفى ويندثر.
يبدو أن السبب وراء انتشار موسيقى الراب فى الوقت الحالى هو توافر التليفون المحمول فى أيدى الشباب، الذين أصبحوا يميلون إلى سماع الموسيقى السهلة غير الطويلة، ولم يعد الكثيرون يتحملون أن يستمعوا إلى قصيدة تمتد لساعات. وكذلك أصبحوا يبحثون عن الكلمات السهلة القريبة من لغتهم والبعيدة عن التعقيد، أما استمرارهذا الفن من عدمه فمسألة متروكة للزمن.
المصور: كيف يمكن توطين الموسيقى الكلاسيكية داخل مصر؟
لابد من إتاحة الموسيقى الكلاسيكية بين المواطنين بشكل يحقق لها انتشارًا أكبر. وأسعدنى جدًا الإقبال الجماهيرى على حفلى الأخير بالأوبرا. فهذا جعلنى فى منتهى النشوة، عندما أقيم أية حفلة بالأوبرا ولا أرى أى كرسى شاغرًا، فهذا له مدلوله الذى يشير إلى مدى انتشار الموسيقى الكلاسيكية بين المصريين.
المصور: من الملاحظ أن من بين جمهور حفلتك الماضية بالأوبرا بعض الرموز أمثال عمرو موسى ووزير الخارجية بدر عبدالعاطى والدكتور أبوالغار ورجل الأعمال أنسى ساويرس.. فهل رمزى يسى موسيقار الصفوة؟
بالطبع أتشرف بحضور كل هؤلاء الرموز حفلاتى، لكننى لا أعتبر نفسى موسيقار الصفوة. وأعتز بأننى أقدم حفلاتى لكل طوائف الشعب المصرى، سواء كانوا من الصفوة والمشاهير أو من المصريين البسطاء، فجميعهم عندى سواء. وما يشغلنى هو أن أسعى لكى أقدم فنى أمامهم بأداء متميز، حتى يشعروا بالسعادة والسرور. كذلك أهتم بتعليقاتهم وردود الأفعال.
ومن الأشياء المعروفة عنى أننى ما زلت أستشهد دائمًا بأولى حفلاتى التى اشتركت فيها بالأوبرا منذ تأسيس أوركسترا القاهرة السيمفونى فى عام 1959. حيث تقام تلك الحفلة فى موعدها الثابت يوم السبت من كل أسبوع. وأتذكر أنه كانت تقدم الأوركسترا بروفتها النهائية يوم الجمعة الساعة الحادية عشرة صباحًا قبل موعد هذه الحفلة بيوم، ويتاح حضورها للجمهور من الطلبة والشباب الذين يدفعهم الفضول للحضور، لدرجة أن المسرح فى هذه البروفة النهائية كان مكتظًا بالجمهور، حيث كان سعر تذكرة حضورهم فيها بسيطًا، فلم يتجاوز «٥ قروش”، حتى يتمكن أكبر عدد من المواطنين الحضور والاستمتاع بالموسيقى. وكان أجرى آنذاك فى الحفل 35 جنيهًا، وفتحت بهذا المبلغ حسابًا لى فى البنك وقتذاك، وجعلوا لى «برستيج جامد جدًا داخل المدرسة، لأنه ما فيش حد من زملائى داخل المدرسة كان معاه هذا المبلغ، وما كانش معقولًا أن أجيب بهم بنوبونى»!
لذا أعتقد أن هناك نسبة كبيرة من جمهور حفلاتى الذى يملأ المسرح الكبير بالأوبرا الآن كانوا من جمهورى الذى كان يحضر بروفات حفلاتى قديمًا بـ “شلن”. وكم كنت أتمنى أن أقدم حفلى الماضى فى عدة أماكن ومحافظات وداخل المدارس بهدف الاستثمار فى الأطفال وتنمية حس التذوق الموسيقى لديهم، مثلما كنا نفعل فى الماضى.
المصور: الدكتور مجدى يعقوب عاد إلى مصر وقام بتدشين مستشفى يقوم فيها بنقل علمه إلى أطباء من الشباب.. فلماذا لم تقم بإنشاء ورشة فنية لنقل خبراتك وموهبتك كموسيقار عالمى إلى الشباب المصرى؟
بالطبع يسعدنى وأشعر بشيء من الفخر أننى أعطيت تلاميذى أسلوبًا يميزهم به الجمهور عن غيرهم. ويشرفنى أن يكون هناك من يكتسب منى خبراتى فى العزف، ولكن ليس بالضرورة أن يصبح أى عازف يستفيد من خبرتى صورة منى، لأنه فى مجال الفن لابد أن يكون للعازف شخصيته الفنية المستقلة. فليست ميزة أن أجعل من يتعلمون منى العزف أن يكونوا صورًا كربونية من أدائى. وهذا يترتب عليه أن أداءهم سيظهر بصورة باهتة، لأنه لابد أن يكون أداء العازف نابعًا من وجدانه الشخصى ومدى إحساسه بما يعزفه.
ومسألة إقامتى لورش فنية أو “ماستر كلاس” لابد أن تتم بالتنسيق من خلال الكونسرفتوار. وأعتقد أن هناك بالفعل نية داخلية لذلك، لأن هذا الأمر يحتاج لاستعدادات معينة من قبل المعهد والطلبة الذين سيحضرون هذه الورش الفنية. وعدم إقامتى فى الوقت الحالى لهذه الورش سببه أنه لم يُعرض علىّ ذلك، ولم يتم وضع آلية لإقامتها، ولكن من الوارد أن تتم إقامتى لها مستقبلًا.
علمًا بأننى خضت هذه التجربة بالفعل فيما سبق، حيث إنه فى إحدى المرات كانت لى حفلة داخل الصين، وفى اليوم التالى أقاموا لى ما يُسمى بـ “الماستر كلاس”، وهو أشبه بورشة عمل فنية لكى أنقل للعازفين الصينيين خبرتى فى العزف على البيانو. وفى مصر أقمت ورشًا فنية داخل معهد الكونسرفتوار منذ عدة سنوات، ولكننى لم أخض هذه التجربة نفسها داخل الأوبرا، لأنها ليست مركزًا تعليميًا، بينما أكاديمية الفنون هى المنوطة بمسؤولية تعليم الموسيقى للأجيال المختلفة.
المصور: من هو المؤلف الموسيقى الذى يستحوذ على قلبك؟
من المفترض أن أى مؤلف أعزف موسيقاه أنه يستحوذ على قلبى، ولكن لأسباب عديدة أرى أن شوبان من أكثر الموسيقيين المقربين لقلبى، خاصة أن حجم يدى تقريبًا نفس حجم يده، لذلك فإننى متمكن من عزف كافة المؤلفات التى ألفها شوبان بنفس الإجادة الآلية التى عزف بها من قبل.
المصور: تقاسم فى العصر الرومانتيكى قمة النجاح كل من شوبان «شاعر البيانو» الذى تتحلى مؤلفاته الموسيقية بجمال وعذوبة جملها، فى حين أن فرانز ليست «شيطان البيانو» ظلم بسبب صعوبة مؤلفاته التى لا يستطيع أن يعزفها أحد، هل قدمت معزوفات له؟
فرانز ليست كان معجبًا جدًا بـ«شوبان»، ولكن مع الأسف صعوبة عزف الجمل الموسيقية لـ«فرانز ليست» ظلمته لأنه ليس من السهل أن يعزفها أى عازف، فلا بد أن يعزفها موسيقى متمكن جدًا من أدواته ومن الإجادة الآلية والتى يجب أن تتوافق مع الطبيعة الجسمانية والنفسية لمن يعزف أعماله. وينبغى أيضًا أن يعايش العازف الحالة الوجدانية للمؤلف الذى يعزف له تلك المؤلفات. وقد سبق لى أن قدمت له العديد من أعماله فى حفلاتى.
المصور: هل توافقنا الرأى بأن كل مؤلفات شوبان ما هى إلا مآسٍ معزوفة لكونه فشل فى قصة حبه الوحيدة من الصحفية «جورج ساند»، كما أن فريد الأطرش هو الصورة المقابلة له فى الملحنين العرب والذى تعد معظم أعماله تعبر عن قصص حبه البائسة؟
المؤلفون الموسيقيون دائمًا يولدون بطاقات فنية معينة ويعبرون عنها فى مؤلفاتهم وأعمالهم. فالموهبة دائمًا تنبع من داخل الإنسان ولكنها تحتاج إلى الدراسة حتى تصل إلى التميز والاستدامة ونقل الخبرات إلى أجيال تالية، فـ«شوبان» كان موهوبًا جدًا ما أهله لكتابة هذه المؤلفات العذبة.
المصور: بحكم أنك سافرت إلى الكثير من الدول حول العالم، ما هى أكثر الشعوب التى لمست أنها تعشق الموسيقى الكلاسيكية؟ وما رأيك فى اقتباس عبدالوهاب لبعض الجمل الموسيقية من الموسيقى الغربية فى بعض ألحانه؟
بدون الدخول فى التفاصيل التكنيكية لعبدالوهاب، إلا أنه طور الموسيقى الشرقية وأسهم كثيرًا فى تطوير الجمل الموسيقية الشرقية نفسها. ولا شك أنه أضاف الكثير إلى الموسيقى العربية.
أما عن الشعوب الأكثر تذوقًا للموسيقى الكلاسيكية، فهى متغيرة وليست ثابتة. فنجد أن دولة مثل روسيا يختلف تأثر شعبها بالموسيقى الكلاسيكية من مدينة لأخرى، لذا لا يمكن أن نحدد شعبًا بعينه يحب هذه الموسيقى عن غيره. ولكن كلما ازداد انتشار الموسيقى الكلاسيكية، ازداد تفاعل الجمهور معها حول العالم.
المصور: البعض يتعجب من أنه بالرغم من قصر حياة شوبان، إلا أنه الوحيد الذى تعد مسابقته فى العزف على البيانو هى الأشهر عالميًا، فما تعليقك؟
هناك العديد من المسابقات الدولية الهامة لمؤلفين موسيقيين آخرين، ولكن أكثرها شهرة بالفعل هى مسابقة شوبان، وذلك لكثرة الأعمال الموسيقية التى ألفها خلال حياته، وعطائه الفنى الكبير.
المصور: لماذا لم تقتحم مجال التأليف الموسيقى إلى الآن؟
المؤلف الموسيقى لابد أن تكون بداخله الرغبة للقيام بذلك، ولكننى شغوف جدًا بالعزف أكثر من التأليف.
المصور: لماذا أقمت حفلة داخل حديقة المنزل الذى مات بداخله شوبان؟ وهل إحياؤك لهذه الحفلة جعلك تستحضر روحه أثناء عزفك له؟
أتيحت لى الفرصة لإحياء هذه الحفلة داخل منزل أحد أصدقاء «شوبان» الذى ظل يعيش عنده بعد تدهور حالته الصحية إلى أن توفى. ويقع هذا المنزل فى أحد الميادين الفرنسية الشهيرة بتجارة الذهب، حيث يوجد به العديد من محال الجواهرجية الكبار داخل فرنسا، إلا أنه مع الوقت تحول هذا المنزل الفخم إلى مقر لأحد البنوك بفرنسا. وفى ذكرى تأسيس البنك جاءت الفكرة للمنظمين بإقامة حفلة موسيقية. وبالفعل تم تجهيز المقر لإقامة هذا الحفل ببناء مسرح فى حديقة هذا المنزل تحت شرفة الغرفة التى توفى فيها شوبان.
بالطبع كان بداخلى نوع من الرهبة أثناء عزفى لمؤلفاته؛ لأننى كنت أعزف تحت شباك الغرفة التى توفى فيها شوبان. لذلك كان هناك جزء درامى أثناء عزفى إجلالًا