رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الشيخ محمد رفعت بين المنحة والمِحِنة.. رائد السلام النفسى


7-3-2025 | 01:27

.

طباعة
بقلم: أحمد النبوى

مصر على مر عصورها استطاعت أن تحافظ على قوتها الناعمة، رغم كل المنافسة والتطور التكنولوجى، وعندما تبحث فى مصادر القوى الناعمة المصرية ستجد اسم الشيخ محمد رفعت محفورا فى كتب التاريخ العالمى وليس المحلى أو الإسلامى فقط.

وكما قال عنه الشاعر الكبير نزار قبانى « صوت الشيخ محمد رفعت يفتح أمامى أبواب السماء.. إنه الصوت الذى إذا غرد سكتت كل أصوات مقرئى القرآن الكريم فى العالم، وهو الذى يصيب الجسد بالقشعريرة، والروح بالصفاء، والنفس بالسمو»

 

صوت الشيخ محمد رفعت مازال بداخل الوجدان العربى والإسلامى، والكل يحن إليه؛ ألقاب كثيرة أطلقت على صوته مثل «قيثارة السماء» أو»بلبل الجنة» وغيرها من الأسماء لتميزه بصوت عذب قوى.

 

عندما تبحر فى عالم الشيخ محمد رفعت رحمه الله ستجد أنك أمام أسطورة قلما تتكرر، وأن حياته لم تكن فقط المنحة اللى وهبها له الله، ولكنها مليئة بكثير من المحن، ولكن بقوة إيمانه ونزعته الصوفية استطاع أن يصل إلى السلام النفسى الداخلى.

 

لا تتعجب عندما تعرف أن الشيخ محمد رفعت توفى قبل 75 عاما، فى عام 1950 ورغم ذلك هو حاضر فى حياتنا وسيظل حاضرا فى حياة أجيال كثيرة قادمة.

 

مفارقات كثيرة مرت بين تاريخ الميلاد التاسع من شهر مايوعام 1882

 

وحتى التاسع من مايو عام1950 ، وكما ولد بدرب الأغوات فى المغربلين فى القاهرة توفى بنفس الدرب؛ وما بين التاسع من مايو الميلاد والوفاة حياة مليئة بالدروس والعبر التى يجب أن يعرفها أبناء الوطن للاستفادة منها كقدوة للجميع بدلا من تسليط الأضواء على أشخاص لا يستحقون حتى ذكر أسمائهم.

 

ولد الشيخ محمد رفعت وكان والده مأمور قسم شرطة الخليفة وهذا منصب كبير عام1882 ، وعندما أتم عامه الثانى أصيب فى عينيه فأجريت له عملية جراحية فقد على إثرها نعمة البصر.

 

و بدأ الطفل الضرير فى حفظ القرآن الكريم وهو فى الخامسة من عمره، وأتم حفظه وعنده 11 سنة، ثم توفى والده وهو فى التاسعة عشرة من عمره، وتركه ليتحمل المسؤولية ليعول أمه وأخته وأخاه، فبدأ يشترك فى إحياء ليالى المآتم بالسرادقات وسمعه مشاهير القراء آنذاك فأحبوه وقدروا موهبته وتنافسوا فى مساعدته حتى تم تعيينه قارئا فى مسجد فاضل باشا بشارع درب الجماميز بالسيدة زينب، فبلغ شهرة ونال محبة الناس وحرص النحاس باشا والملك فاروق على سماعه، واستمر يقرأ فى المسجد حتى اعتزاله، من باب الوفاء للمسجد الذى شهد ميلاده فى عالم القراءة منذ الصغر.

 

هل تتخيل عزيزى القارئ الحياة بدون أن يصل إلينا صوت الشيخ رفعت؟ بالطبع سؤال غريب لم يفكر فيه أحد من قبل، ولكن لو عدنا بأحداث التاريخ ستجد أن هذا هو قرار الشيخ، ولها قصة بدأت عام 1934 عندما بدأ التجهيز لإطلاق الإذاعة المصرية والمقرئون يتزاحمون للاشتراك بها، والشيخ رفعت كان من أوائل المرشحين للعمل ولكنه رفض العمل بها أكثر من مرة، وتصر الإذاعة أن تفتتح برامجها بصوته ويلح عليه مدير الإذاعة فى ذلك ويستمر فى الرفض.

 

ويلجأ مدير الإذاعة إلى الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى شيخ الأزهر فى ذلك الوقت، لإقناعه فيذهب إليه ليسأله عن سبب رفضه فيقول له أخشى أن يكون وجود الراديو فى الأماكن العامة كالحانات والبارات يجعل القرآن الكريم يقرأ على سكارى فأرتكب إثما، وهنا يقنعه شيخ الأزهر بأن هذا حتى لو حدث ففيه توعية للغائبين، فيقتنع فتفتتح الإذاعة أول إرسالها بآيات القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت.

 

وكانت سورة الفتح أول ما تلاه من السور، ثم استمر فى التلاوة مرتين كل أسبوع.

 

والشعب كله كان يلتف حول الراديو فى المقاهى والمنازل والنوادى يومى الاثنين والجمعة لسماع القرآن الكريم بصوته ولمدة نصف ساعة على الهواء مباشرة، ولهذا سمى بمقرئ الشعب، وينتشر صوته وتطلب الدول العربية والإسلامية حضوره إليها، ومع هذا يعلن رفضه ترك مصر فيضطهده مستشار الحكومة الإنجليزية بالإذاعة فيضطر لترك العمل بالإذاعة، فتشتعل ثورة الشعب ويصدر قرار من الملك فاروق بعودته للإذاعة ليذاع صوته ثلاث مرات يوميا ويقترن صوته بالآذان طوال شهر رمضان ومن يومها عرف بمؤذن رمضان.

 

وزادت شهرة الشيخ محمد رفعت لدرجة أن الإذاعة البريطانية “بى بى سي” العربية، عندما سمعت صوته ورأت حب الشعب له وأن الجميع يجلس للاستماع له أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير محرم، فسجل لهم سورة مريم.

 

وكانت إذاعات لندن وبرلين وباريس تذيع تسجيلاته أثناء الحرب العالمية الثانية لتجذب المستمعين فى العالم الإسلامى إلى برامجها ونشراتها الإخبارية لما له من تأثير وقوة ناعمة.

 

وامتاز الشيخ محمد رفعت -علاوة على ما كان عليه من عذوبة صوت- بأنه كان صاحب مبدأ سامٍ وخلق رفيع؛ فكان عفيف النفس، زاهدًا بما فى أيدى الناس؛ فكان يأبى أن يأخذ أجرًا على قراءة القرآن، وكان شعاره فى ذلك قوله تعالى” :وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين “(الشعراء: (109 ومن أقواله المشهورة: إن قارئ القرآن لا يمكن أبداً أن يهان، أو يدان، وكان هذا القول شعاره فى الحياة على مر الأيام؛ لذلك رفض العديد من العروض التى وُجِّهت إليه للقراءة فى العديد من الإذاعات، وكان يقول: إن وقار القرآن لا يتماشى مع الأغانى الخليعة التى تذيعها الإذاعة.

 

وكان الشيخ رفعت زاهداً صوفى النزعة نقشبندى الطريقة، يميل للناس الفقراء البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء فقد أحيا يوماً مناسبة لجارته الفقيرة مفضلاً إياها على الذهاب لإحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد والد الملك فاروق.

 

ويروى عن الشيخ أنه « كان رحيمًا رقيقًا ذا مشاعر جياشة عطوفًا على الفقراء والمحتاجين»، ويروى أنه زار صديقا له قبيل موته، فقال له صديقه من يرعى فتاتى بعد موتى؟ فتأثر الشيخ بذلك، وفى اليوم التالى والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضحى، وعند وصوله إلى « فأما اليتيم فلا تقهر» تذكر الفتاة، وانهال فى البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغًا من المال للفتاة حتى تزوجت.

 

ولأن حياة الشيخ كانت بين المنح والمحن ففى عام 1942 انقطع الشيخ محمد رفعت عن التلاوة فى الإذاعة بسبب مرض الزغطة وتسببت فى ورمٌ فى حنجرته يعتقد أنه سرطان الحنجرة، صرف عليه ما يملك حتى افتقر، لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى إنه اعتذر عن قبول المبلغ الذى جمع فى اكتتاب « بحدود خمسين ألف جنيه» لعلاجه ورغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته المشهورة «إن قارئ القرآن لا يهان».

 

وفى عام 1943 أقعده المرض نهائيا عن تلاوة القرآن.

 

وكانت تسجيلاته جميعها تقريبًا من تسجيل أحد أكبر محبيه وهو زكريا باشا مهران، أحد أعيان مركز القوصية فى أسيوط، عضو مجلس الشيوخ المصرى، والذى يعود له الفضل فى حفظ تراث الشيخ رفعت الذى نسمعه حاليا، وكان يحب الشيخ رفعت دون أن يلتقى به، وحرص على تسجيل حفلاته التى كانت تذيعها الإذاعة المصرية على الهواء واشترى لذلك اثنين من أجهزة الجرامافون من ألمانيا.

 

وعندما علم بمرض الشيخ رفعت، أسرع إلى الإذاعة حاملاً إحدى هذه الأسطوانات، وطلب من مسؤولى الإذاعة عمل معاش للشيخ رفعت، مدى الحياة، وبالفعل خصصت الإذاعة مبلغ 10 جنيهات معاشا شهريا للشيخ رفعت، ولكن الشيخ توفى قبل أن يتسلمه.