لاشك أن السؤال الحائر دوماً على من نلقى اللوم على السياسة أم الاقتصاد ومن يسبق الآخر ومتى تختل العلاقة بينهما وهل حقيقى أن الاقتصاد فى خدمة السياسة أو العكس هو الصحيح؟
والحقيقة أن لا إدارة ناجحة للاقتصاد بغير تمرس فى السياسة، فهما وجهان لعملة واحدة وإذا زاد الأمر فى الحيرة والتساؤل نجد من بعيد الجغرافيا السياسية أو ما يسمى بلعنة الجغرافيا أو هبة الجغرافيا،
والتجارب أمامنا تقول إن الحرب الروسية الأوكرانية والتداعيات الاقتصادية التى جلبتها معها نبهت إلى أمر هام وهو أن هذه الحرب العبثية جاءت لإثبات عدة مسائل
أولها أن هناك حروبا هجينة لإثبات من يقود العالم اليوم وثانيها أن أوكرانيا أصابتها لعنة الجغرافيا فقد كانت فى طريق خط نورد ستريم2 ولولاه ماقامت الحرب، فأمريكا بمواطنيها ومشرعيها فى الكونجرس لايهمهم أوكرانيا من بعيد أو من قريب، ولكن الأهم ألا يرى خط نورد ستريم 2 النور حتى لا تستفيد روسيا ويكون معها ورقة ضاغطة جديدة على أوروبا، بل استخدمت ورقة رابحة فى إشعال النار بفصل أوروبا عن آسيا وهنا أصبح الغاز أداة عسكرية واسعة الانتشار وزادت الأمور تعقيداً بفرض عقوبات على روسيا من الاتحاد الأوروبي الذى أطلق الرصاص على قدميه بدون الغاز الروسى الذى لا يستطيع تعويضه حتى ولو كان من أمريكا نفسها التى باعت الغاز المسال لأوروبا بأضعاف سعره وها هى تجر ذيول الخيبة بأنها قد انصاعت لأوامر الولايات المتحدة فى فرض العقوبات والإيغال فيها كنوع من الإفلاس ولا انتصرت أوكرانيا ولا استفاد الاتحاد الأوروبي والمستفيد الوحيد هى الولايات المتحدة الأمريكية وتحول ملف الطاقة بفعل الجغرافيا السياسية إلى سلاح وزادت معه الاستثمارات الدفاعية لكل العالم بفعل حماية ملف الطاقة، ومن هنا نقول إننا أمام متحور جديد من الحروب ألا وهو حروب الطاقة في عالم تشكل فيه موارد الطاقة عصب الحياة والصناعة تبرز الصراعات الجيوسياسية كأحد العوامل المؤثرة فى الاستقرار وتوافر هذه الموارد إذ تعد الطاقة خاصة النفط والغاز والمعادن الثمينة المصاحبة ليست مجرد سلع تجارية بل هى أيضاً أدوات القوة والنفوذ على الساحة الدولية وسبب مباشر للصراعات بين الدول وداخلها سواء كانت أسباباً سياسية أو اقتصادية
جغرافيا المعادن النادرة
حاولت الإدارة الأمريكية تقسيم الكعكة بعيداً عن أوروبا وجعلتها خارج اللعبة بل أوكرانيا المصابة بلعنة الجغرافيا تدفع الثمن أيضا بدون ضمانات أمنية من أمريكا لحمايتها مما استجد على العالم بأسره مما يعيد رسم خرائط السياسة الدولية
ويفرض تحديات وفرصاً جديدة وبمنطق آخر فإن مسألة الصراعات الجيوسياسية هى من أبرز العوامل المؤثرة فى استقرار وتقلبات أسواق الطاقة والمعادن التى أضيفت إلى القاموس الدولي بعد حلم أمريكا بالسيطرة على حوالى 116 معدنا من المعادن العالمية فالليثيوم يمثل 40 هكتاراً بالإضافة إلى المعادن النادرة من اليورانيوم والتيتانيوم وغيره والتى جعلت الصراع مستمراً ولكن فى كل مرحلة له ملامح من الناحية الاقتصادية خصوصاً فيما يتعلق بموارد الطاقة الحيوية كالنفط والغاز الطبيعي والمعادن المصاحبة الثمينة وتتداخل هنا قواعد اللعبة وخيوطها بين السياسة والاقتصاد فى هذه الحالة أو المسألة تحديداً بشكل كبير حيث تلعب الصراعات دوراً محورياً فى تشكيل ملامح السياسة الدولية والتوازنات الاقتصادية على مستوى العالم ودعونا ننظر إلى كيف تصبح الطاقة والثروة المعدنية ميداناً للصراع والتنافس الجيوسياسي وكيف تؤثر هذه الصراعات على أسواق الطاقة العالمية والمعادن وبالتالي على السياسات والتوجهات الدولية .
تأثير الصراعات على أسواق الطاقة والمعادن النادرة
إن تقلبات أسعار الطاقة والمعادن واتساع مناطق الصراعات في مناطق رئيسية منتجة للنفط والغاز والمعادن تسبب غالباً اضطرابات في إمدادات هذه الموارد مما يؤدى إلى تقلبات حادة في الأسعار عالمياً سواء كانت هذه الصراعات عسكرية أو سياسية فإن التأثير يظهر بشكل مباشر على أسواق الاقتصاد .
إن إعادة تشكيل السياسات الدولية للدول المستهلكة للطاقة والمعادن الثمينة اللازمة للصناعة والمعدات العسكرية تعتمد وبشكل مباشر وكبير على عملية الاستيراد وتجد الدولة نفسها مضطرة لتعزيز العلاقات مع دول أخرى لتأمين إمدادات الطاقة والمعادن وفى حالة اتساع مناطق الصراع كما هي الحال حالياً تسرع الدول لإيجاد والبحث عن بدائل سواء من خلال تطوير مصادر الطاقة المتجددة أو عبر مصادر الاستيراد وهذا التوجه لا يؤثر فقط على أسواق الطاقة والمعادن بل يمكن أن يحدث تغييرات جذرية في السياسات الاقتصادية والبنية العالمية .
استخدام اليورانيوم وزملائه كورقة ضغط
لقد رسمت الحالة الأمريكية الأوكرانية مثالاً حياً لكيفية
استخدام هذه الموارد كأدوات للتأثير فى السياسة الدولية ومن خلال التحكم فى الأسعار أو تقييد الإمدادات يمكن لهذه الدول التأثير فى الاقتصاد العالمى وسياسات الدول الأخرى وقد أدت هذه الصراعات إلى سؤال مهم هل مصادر الطاقة والمعادن مصادر للخير ام مصادر لجلب المشاكل والتوترات الجيوسياسية
وفى ظل العالم المعاصر تتجلى الصراعات الجيوسياسية كعامل حاسم في تشكيل مستقبل أسواق الطاقة العالمية النفط والغاز والمعادن الثمينة باعتبارها محاور رئيسية لهذه الأسواق ولا يعتبران مجرد موارد طبيعية بل أيضاً أدوات للنفوذ والقوة لذلك الصراعات المتعددة الأشكال تظهر بوضوح الحاجة الملحة لتنويع مصادر الطاقة والتوجه نحو الاستدامة والمصادر المتجددة ليس فقط كحل للتحديات البيئية بل أيضاً كاستراتيجية لتعزيز أمن الطاقة العالمي والاستقرار السياسي بينما تستمر الدول في مواجهة هذه التحديات يبقى السؤال مفتوحاً حول كيفية تشكل سياستها وعلاقاتها الدولية لضمان مستقبل أكثر استقراراً و استدامة لأسواق الطاقة والمعادن النادرة العالمية وقد تم اختزال الحرب الروسية الأوكرانية فى صفقة المعادن التى خرجت من بنات أفكار الأمريكان الذين يهمهم بالمقام الأول المعادن وليس أوكرانيا وتبقى الصراعات الجيوسياسية مثالاً حياً ذا تأثير خطير على أسواق العالم وعلى الترابط بين السياسة والاقتصاد في النظام الدولي لذلك استوجب الأمر إعادة النظر في الحاجة إلى استقرار إمدادات الطاقة والمعادن المؤثرة والسياسات الخارجية والبحث عن سبل جديدة لضمان الأمن الطاقي سواء من خلال التحالفات الآمنة وليس التفكير فى عمليات النهب الدولى من مخزون التيتانيوم والنيكل والرقائق الإلكترونية واليورانيوم وغيره
إشكاليات الخرائط العالمية الجديدة
(يقول روبرت كابلان أحد متخصصي الجغرافيا السياسية في العالم في كتابه انتقام الجغرافيا: إن الجغرافيا السياسية هي صناعة على الأغلب لأن الخرائط أو الجغرافيا الطبيعية هى ثابتة موجودة بالأصل بينما تبقى المواقف والتصريحات متغيرة ويقصد هنا السياسة وبالتالي هناك نظام المواءمات ولعل ذلك ما أعطى من وجهة نظرنا تلك الأهمية للجغرافيا السياسية المتصاعدة حالياً مما جعل المحللين يستخدمون الجغرافيا السياسية في صناعة نماذج لتفسير قضايا خارج نطاق الجغرافيا السياسية كالقضايا الاقتصادية والتوازنات العسكرية لذلك كان لزاماً علينا أن ننظر إلى الخرائط الجديدة بعد عسكرة ملف الطاقة والمعادن ونعطيها أهمية حول الدوافع
والمحركات والصراعات الجارية اليوم على خطوط طول وعرض خريطة العالم من شرقه إلى غربه
وبالتالي تعطي لنا مفاتيح وأدوات لما سيحدث عالمياً ومستقبلاً ولا يفوتنا في هذا الحديث أن نسرد امتلاك السلاح النووي كمصدر للقوة ويعتبر سعى دولة لامتلاك سلاح نووي خارج الدول الكبرى في النادي النووي الصغير والقائم فعلياً بمثابة مبرر أي رادع لشن حروب شاملة فى أى مكان فى العالم ووفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام* فإن هناك تسع دول فقط حول العالم تمتلك رؤوساً نووية في الوقت الراهن منها خمس دول تمتلك هذه الرؤوس بشكل شرعي وهى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن وهى روسيا والولايات المتحدة وفرنسا
وبريطانيا والصين إضافة إلى دول أخرى ثبت امتلاكها للسلاح النووي وهي باكستان والهند و كوريا الشمالية وأخيراً إسرائيل التي ترفض اعترافا بامتلاكها رؤوساً نووية وهناك دول تستضيف رؤوساً نووية على أرضها بحكم عضويتها في حلف الناتو وهى ألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا وبلجيكا وتتصدر روسيا هذا المضمار عالمياً بما لديها من الرؤوس النووية
*ولو نظرنا إلى أطر الصراع في الشرق الأوسط نجد أن السباق حول موارد الطاقة موجودة في بؤرة هذا الصراع و تضعها في سياقها الجيوسياسي الواسع وتجعلنا نقول إن التوتر الراهن ليس مرشحاً للاحتواء سريعاً أو قريباً وأن الأطراف الرئيسية لن تتنازل عن مصالحها الحيوية وستستمر في التعبئة والتصعيد السياسي ومع ذلك لن يتطور إلى المواجهة العسكرية المباشرة وسيتبقى غالبية الأطراف وفق السيناريو المرجح هو الوصول إلى صفقات حتى لو لم تفض لتسويات دائمة وشاملة.
الخطط الترامبية للسيطرة على الثروات
إن الصراع على الطاقة في الشرق الأوسط ليس مصدراً للتوتر فقط ولكنها المحفز الأساسي لزيادة توتر صراعاته الممتدة منذ عقود وها هى مشكلة صفقة المعادن النادرة تفتح الأعين والمعنويات القاطعة التى تدل على الأطماع الجيوسياسية الكبرى فى وجود المعادن النادرة فى الأراضى الأوكرانية مما يصعد التوقيت الترامبى نحو مصالح أمريكا الاقتصادية وليذهب العالم إلى الجحيم.
شكلت الحرب الروسية الأوكرانية منعطفاً مهمًا بشأن إعادة النظر لأهمية وخطورة ملف المعادن النادرة عموماً وبدون مواربة لقد أصبحت الخلطة السحرية من الطاقة والمعادن هى أحد المحددات الرئيسية للصراع الجيوسياسي العالمي والذي تسبب مباشرة في ارتفاع أسعار الطاقة والمعادن والتضخم غير المسبوق وارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية وارتباك شديد أيضاً لاقتصادات العالم أجمع حتى دول الصراع والمتسببة فيه . وكأن أوكرانيا التى أصابتها لعنة الجغرافيا لا تعرف قيمة ما لديها أو أن حظها العثر وضعها فى الطريق
هناك استنتاجات إلى استفاقات استراتيجية أعمق تتلخص في ثلاثة محاور :
(أ) أهمية وخطورة الطاقة كمصدر رئيسي لقوة الدولة ونفوذها الخارجي .
(ب) الخطورة الشديدة لمسألة الاعتماد المتبادل في مجال الطاقة لحتمية الاستقلالية التامة في الطاقة .
(ج) خطورة ورقة الطاقة على الأمن القومي الشامل للدولة
(د) خطورة وجود رصيد من المعادن النادرة التي تمثل ثقلاً استراتيجياً
وعلى إثر الحرب الروسية الأوكرانية حاولت الولايات المتحدة فصل أوروبا عن آسيا وبحثت روسيا عن شركاء جدد على أثر العقوبات التى فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا وتنامي نفوذ الأوبك بلس وفرضت سيطرتها في حجم المعروض من النفط العالمي مثلا ومن هنا نقول إن الهواجس الاستراتيجية للدول حول الطاقة والمعادن الثمينة المصاحبة لاسيما السعي الحقيقي على الاستقلالية الطاقوية ولذلك تتطور الصراعات وتتحول لصراعات عسكرية كمبعث رئيسي للسيطرة على مناطق الطاقة الاستراتيجية كذلك السيطرة على الموارد الطبيعية خاصة اليورانيوم والنيكل والنحاس والرقائق الإلكترونية والتيتانيوم والليثيوم وغيرها اللازمة للإنتاج والصناعة التقليدية والعسكرية حتي الصراع السيبرانى للاستحواذ على تقنيات وأسرار الطاقة العادية
والبديلة وهنا أصبحت الثروة التعدينية ورقة مساومة استراتيجية بيد الدول وأداة رئيسية للاستقطاب وتشكيل تحالفات استراتيجية وانفكاك أخرى وتأجيج صراعات داخلية وتنافس ظاهرة المليشيات غير النظامية فقد كان من مهام مجموعة فاجنر مثلا الاستحواذ على موارد إفريقيا والسطو عليها وتتضح بقضية موارد السودان ومحاولة الدعم السريع غير النظامي للاستيلاء علي هذه الموارد الطبيعية بالسودان
ومن هنا نقول إن صناع القرار في مختلف دول العالم عليهم دراسة ملف الطاقة والثروة المعدنية وتكون بالنسبة لهم محركاً مهماً للشئون الخارجية وتاريخياً كان التقاطع بين الجغرافيا السياسية والطاقة وملف المعادن النادرة وقد يكون الصراع حول النفط أو الغاز أو المعادن النادرة والآن أصبحت المعادن النادرة بعد الخطط الترامبية لها تأثير على الجغرافيا السياسية وعلى المدى الطويل تشير الترجيحات أن هذا الملف على المدى البعيد لن يكون أكثر استقرارا وأماناً وعدلاً مقارنة بالوقود الأحفوري ومع إعادة رسم طرق تجارة الطاقة والمعادن الجديدة سيكون شكل الخريطة الجيوسياسية مختلفاً، ففي العالم الجديد الذى يموج بقوى تدعم النهب الدولى بكثير من القوى المهيمنة ستكون أقل قدرة فى ممارسة نفوذها التقليدي والتحكم في البحار والمحيطات والمضايق وستضاءل عندها دور بعض المنظمات كالأوبك والأوبك بلس من وجهة نظرنا على المدى البعيد فأمام العالم مدة طويلة للاستغناء عن الغاز والنفط أما المعادن لا يمكن الاستغناء عنها أبداً ومن هنا نرى أن (دبلوماسية البنية الكونية) عامل مهم فى مسألة الجغرافيا السياسية التى تسبب القلق وعدم اليقين وتأتى أدوار أخرى للمعادن الثمينة كأداة من أدوات السياسة الخارجية وهو ما تفعله مصر بمشروعاتها هو ما يعرف حالياً باسم فن إدارة الطاقة وهو يعتمد على توزيع وتوسيع أطر الطاقة المتجددة لتعويض الأهمية الجيوإستراتيجية للنفط والغاز كأدوات للسياسة الخارجية.
فإما تكون الجغرافيا السياسية نعمة ونفوذا وعليها قوة الطاقة والمعادن وإما أن تكون لعنة الجغرافيا أو انتقام الجغرافيا ليظل هناك عسكرة أساسية لأهم ملف اقتصادى هو أساس اللعبة الدولية ألا وهو ملف الطاقة والمعادن النادرة التى أدت إلى أهم مشادة كلامية فى التاريخ وتهدد بحرب عالمية ثالثة وتكون صفقة المعادن ورقة للمساومة وتلعب لعنة الجغرافيا فى التراك العالمى لتغير المزاج العالمى وتنبه الجميع إلى كشف الأروقة الاقتصادية.

