ما جرى فى البيت الأبيض - يوم الجمعة - بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ومعه نائبه فى مواجهة ضيفه الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، شغل العالم كله، أوروبا اهتزت وتشعر بالقلق العميق، روسيا سعدت، داخل الولايات المتحدة هناك تعاطف مع الرئيس ترامب وتقدير لما قام به، على الأقل لم يعبّر أحد عن معارضته له، استطاع زيلينسكى أن يستفز الرئيس ترامب، كما استفز نائبه، حتى المراسلين فى البيت الأبيض أثار انتقاداتهم، أحد الصحفيين توقف أمام مسألة بروتوكولية وهى زي زيلينسكى، دخل البيت الأبيض حيث يرتدى ملابس غير رسمية، والمعروف أنه فعل ذلك من قبل زمن «جو بايدن» ولم يعترضه أحد ولا استوقف ذلك الكثيرين.
المشادة الحادة والعنيفة فى البيت الأبيض، كانت على الهواء مباشرة، يمكن القول إن المكاتب المغلقة تشهد أحيانا ما هو أكثر من ذلك، لكن كل هذه التفاصيل تكون بعيدا عن كاميرات التلفزيون وعدسات المصوّرين، هذه المرة كان التحدى واضحًا، الرئيس الأمريكى استشعر عدم الاحترام والمهانة من ضيفه، وأظن أنه كان محقًّا فى ذلك الشعور، دعنا من أنه يطلق العنان لانفعالاته ولا يمكنه أن يضبطها.
فى مصر والعالم العربى استذكر بعضنا لقاء الملك عبدالله الثانى ملك الأردن مع الرئيس ترامب، حين خرج جلالة الملك مكفهرًّا من الاجتماع ولديه شعور بالأسى، طبعا ما قيل لجلالة الملك لا يدخل فى باب المساس بشخصه الكريم، كما وقع مع زيلينسكى، لكن هذا كله جعل بعضنا يستعيد مقولة الرئيس الأسبق حسنى مبارك، سنة 2004، «المتغطى بالأمريكان عريان».
أخطاء زيلينسكى عديدة، هى التى أوصلته لتلك الحافة وجعلته موضعًا للإهانة، إلى حد أن يتم طرده حرفيا من البيت الأبيض هو والوفد المرافق له.
فى فبراير 2022 هاجمت روسيا أوكرانيا، ومن اللحظة الأولى اعتبرت الإدارة الأمريكية الحرب حربها هي، فعليا كانت وزارة الدفاع الأمريكية ومجمع المخابرات، فضلا عن البيت الأبيض يتولون إدارة الحرب، فالرئيس بايدن بنفسه اتصل بالحلفاء لدعم زيلينسكى وراح زيلينسكى يتصرف بمنطق «الولد المدلل» لدى الولايات المتحدة والغرب عموما.
فى بداية الحرب اختفى زيلينسكى خشية أن يتم اغتياله بأى طريقة من قِبل روسيا، وتردد وقتها أن اتصالات واسعة أُجريت مع الرئيس بوتين قامت بها المستشارة الألمانية وقتها ميركل والرئيس ماكرون بل والولايات المتحدة ذاتها، حتى حصلوا على وعد من بوتين بعدم المساس بزيلينسكى شخصيا، أى عدم اغتياله، من يومها راح يتصرف ويتعامل مع الولايات المتحدة بطريقة «الفتى المدلل»، لا يتحمل أى مسئولية فقط، عليه أن يطلب بل وأن يأمر ثم يحتج ويغضب إذا ما تأخر تنفيذ مطالبه، يطلب ذخائر ثقيلة، ثم يطلب ذات مرة (40 مليار دولار) دفعة واحدة، ولما تأخرت.. قال إذا لم ترسلوا إلينا الذخائر والأموال فسنعرف أنكم تريدون لنا أن نموت.. وهكذا استعطاف مصحوب بتبجح وابتزاز، وكان بايدن يستجيب ويتجاوز، باعتبار أنه يخوض حربًا لتدمير روسيا.
ومنذ أن ظهر ترامب فى ساحة الانتخابات الأمريكية أعلن موقفه من تلك الحرب، اعتبرها عبثية، واستهدف زيلينسكى شخصيا، رأى أنه «محتال» يتلقى أموال أمريكا التى هى بحاجة إليها أصلا، وأنه يقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
فى سنة 2023 كان العالم على حافة حرب نووية، طبقا لكتاب «الحرب» للصحفى الأمريكى بوب ودورد أنه وصلت إلى المخابرات الروسية أن أوكرانيا جهزت قنبلة قذرة كى تلقيها على موسكو، القنبلة القذرة هى قنبلة نووية صغيرة الحجم، لكنها فى النهاية قنبلة نووية، على الفور أمر بوتين بتجهيز الصواريخ النووية، والأقمار الصناعية. والمخابرات الأمريكية عبر مصدر موثوق لها فى الكرملين وصلتها المعلومة، تدخل البيت الأبيض، وكذلك وزير الدفاع الأمريكى بأن أمر زيلينسكى بفتح كل منشآته النووية للتفتيش، وأمره أن يطلب هيئة الطاقة النووية لمراقبته، بعد جهد دبلوماسى ضخم وكذلك مخابراتى أمكن عبور تلك الأزمة، لكن لم يتضح هل جهزوا فعلا قنبلة قذرة أم لا، باختصار زيلينسكى وضع العالم كله على حافة الدمار.
الخطأ الأكبر الذى ارتكبه الرئيس الأوكرانى أنه منذ لحظة وصوله إلى الحكم قرر استعداء جارته القوية روسيا، لم يدرك حساسية روسيا وأمنها القومى، ومدى الارتباط بين البلدين، منذ اللحظة الأولى أعلن أن هدفه هو انضمام بلاده إلى حلف الناتو، وهذا يعنى حرفيا إعلان الحرب على روسيا.. ولأسباب كثيرة فإن قبول أوكرانيا فى الناتو شبه مستحيل، ربما تُقبل عضوا بالاتحاد الأوروبى أما الناتو فهذا خارج المقبول، حتى إدارة بايدن كانت تدرك ذلك روسيا دولة نووية، يقال إن قدراتها النووية تفوق من ناحية الكمّ قدرات الولايات المتحدة، ومن ثم فإن دخول أوكرانيا الناتو يعنى أن تصل صواريخ نووية أمريكية إلى أوكرانيا، على بُعد مئات الأميال من موسكو، وهذا لن تسمح به روسيا ولن تغامر أمريكا به، لكن السيد زيلينسكى على طريقة «عبيط القرية» راح يصرخ مطالبا بدخول الناتو.
فى العلاقات الدولية تُدار الأمور بمنطق الاحتمالات، ومن ثم فقد فرض زيلينسكى على روسيا أن تتخذ خطوات لمنع حدوث ذلك، بل منع احتمالات التفكير فى حدوثه، وهكذا بدأت الحرب.
الخطيئة الكبرى أن زيلينسكى دفع بلاده إلى خوض حرب ليست متكافئة، يعلم جيدا أنه لن ينتصر فيها، وقد راهن على أنه يثير عطف الغرب وأن الولايات المتحدة سوف تقف خلفه إلى النهاية، وهو فى ذلك يجهل التاريخ الأمريكي.
الآن الحرب فى أوكرانيا عمرها أربع سنوات، ثبت فيها أن روسيا قادرة على التحمل، لديها ترسانة أسلحة متقدمة جدا، لديها اقتصاد قادر على الصمود فى مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية، ومن ثم صارت الحرب عمليا استنزافا للاقتصاد وللسلاح الأمريكى ولا طائل من ورائها أنفقت أمريكا حوالى 350 مليار دولار، والجيش الأوكرانى غير قادر على الحسم، إذا تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر فهذا يعنى قيام حرب عالمية، صواريخ روسيا النووية يمكنها أن تصل لندن خلال ثلاث دقائق فقط.
التاريخ الأمريكى يقول إن الولايات المتحدة ليست مستعدة للاستمرار طويلا فى حروب الاستنزاف، حينما غرقت أمريكا فى حرب فيتنام، دخل نيكسون البيت الأبيض بجملة واحدة هى أنه سيوقف الحرب، وهذا ما نجح فى إنجازه «هنرى كيسنجر»، ومثل ذلك نجده فى التاريخ الأمريكى والإنسانى، وتكرر الأمر فى العراق.. دخلوا سنة 2003 وجاء أوباما ليقرر الانسحاب وللخروج الآمن لقواته، بل إن بايدن نفسه فعلها فى أفغانستان، وكان لا بد للرئيس الأوكرانى أن يدرك أن الولايات المتحدة لن تسانده، طويلا، إدارة بايدن واجهت اعتراضات عديدة على مساندة زيلينسكى، وكانت هناك تساؤلات حول وجوه إنفاق الأموال التى تدفعها أمريكا لأوكرانيا، الشكوى لديهم أن نسبة منها كانت تذهب لحسابات خاصة وأمور خارج الحرب، قد لا يقبلها القانون الأمريكي.
الرئيس ترامب جاء بفكرة السلام وإنهاء الحرب، وفيما يخص المساعدات التى قدمتها بلاده لأوكرانيا، راح يطالب باستردادها، وذلك بتوقيع اتفاق «المعادن النادرة» مع الرئيس الأوكرانى، وهكذا صار الرجل أمام عدو مباشر هو الرئيس بوتين، ومن خلفه صديق لا يودّ صداقته، بل يرى أنه عبء عليه وعلى بلاده أقصد الرئيس ترامب.
ما حدث فى البيت الأبيض يكشف عدة أمور، أهمها أن الزيارة واللقاء لم يتم الترتيب الدبلوماسى الجيد له، بمعنى أنه لم يكن هناك جدول أعمال متفق عليه ولم تقُم لجان متخصصة بتناول القضايا التى سيتمّ التباحث فيها، ولذا دخل الرئيس ترامب ولديه أجندته الخاصة، وضيفه الأوكرانى كذلك.
ببساطة ليس لدى زيلينسكى أوراق ضغط، ودخل بشروط يريد أن يفرضها على ترامب دون الاتفاق عليها من قبل.
دخل البيت الأبيض ولم ينتبه إلى وجود إدارة جديدة، حرفيا كارهة له، وهو فى موقف ضعيف، رئيس انتهت ولايته منذ مايو الماضى، وهو موجود لظرف استثنائى، لكن فى مايو القادم لا بد أن يغادر موقعه ويتولى رئيس البرلمان هناك إلى حين إجراء انتخابات جديدة.. وكان أمامه أن يعلن قبل السفر أنه ليس بصدد التوقيع على أى اتفاق ويترك الأمر لمَن يأتى بعده.. لكنه يتصرف بمنطق الحاكم الأبدى، وكأن المسألة معركته الشخصية وليست معركة تخوضها بلاده.
قبل اللقاء كرر الرئيس ترامب أن زيلينسكى مدته منتهية ولا يجرى انتخابات.. وكان لا بد أن يفهم مغزى هذه الرسائل، لكنه يعيش حالة «الصبى المدلل»، يراه البعض وقحاً، لكنهم فى أوروبا يعتبرونه ضحية.
وكان أمامه الحل الآخر وهو «أن يتجرع السم» كما فعل آية الله خمينى مع الرئيس صدام حسين فى الحرب العراقية - الإيرانية، كانت لديه فرصة محاولة البحث عن أى تسوية مع الرئيس بوتين، حتى لو بإطلاق تصريح للتهدئة، لكنه لم يفعل، فتلقى الصدام المهين فى البيت الأبيض.
المشهد المهين، يمثل لحظة انفجار لأخطاء قديمة، لم يعد ممكنا الاستمرار فيها، يمكن لأى مغامر أو متهور أحمق أن يبدأ حربًا، أو أن يدفع الأمور نحو الحرب، المهم هو إمكانية الاستمرار فى الحرب ثم تحقيق النصر، على الأقل تحقيق أقل قدر من الخسائر، والآن خسرت أوكرانيا مساحات شاسعة استولت عليها روسيا، وتأكد بذلك استحالة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وباتت أوكرانيا مطالبة بالتوقيع –كرهًا- على اتفاقية المعادن النادرة مع الولايات المتحدة- وفى هذه الحالة سوف يكون التعامل مباشرًا بين روسيا والولايات المتحدة، أما دولة أوكرانيا فلن تكون سوى خيال المآتة، درس جديد يجب أن يستوعبه أولئك الذين يورطون بلادهم فى حروب بالوكالة.
الحرب ليست حالة فهلوة، يمارسها فرد، الحرب مصائر دول وشعوب، لذا لا يصح الاستخفاف بدخول معركة دون جاهزية ودراسة كل احتمالاتها، ومن بينها إمكانية الخروج منها فى لحظة معينة.

