حقيقة نحن أمام ظاهرة بل آفة تهدد ثوابت الدين الإسلامى وتثير البلبلة وربما الفتن فى المجتمع، وتنذر بمخاطر كثيرة، ألا وهى ظاهرة فوضى الفتاوى الدينية التى تزداد وتيرتها بشكل لافت فى شهر رمضان، الذى اختص وحده بحوالى 40 فى المائة من مجموع الفتاوى طوال العام .
تلك الفتاوى التى تصدر عن غير المتخصصين أو المؤهلين أو الدارسين لأصول الدين وفقهه، أولئك الذين حوّلوا «الفتوى» إلى «سبوبة» أو تجارة يتربحون منها بغض النظر عن كونها فتوى صحيحة أو باطلة، متخذين من بعض الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعى التى تصعب السيطرة عليها مطيةً لهم !
وربما لا يعلم هؤلاء أنهم ارتكبوا إثماً عظيماً بما فعلوا، بل إن الفتوى بغير علم هى «الخطر العظيم»، كما وصفها وحذر منها مفتى الديار السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، أو هى «بلايا وليست فتاوى» تثير الفتنة بين طوائف الأمة، كما وصفها الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية الأسبق، فنرى شخصاً يريد أن يستحل أعراض الناس، وآخر يُبطل عقود الزواج المستقلة، وثالثا يتكلم عن إراقة الدماء وكأنها دماء دجاج وليست دماء مسلمين!.
الأمر الذى يدعو إلى سرعة إصدار تشريع ينظم «الإفتاء»، ويُقصره على علماء يملكون علماً غزيراً وملكة فقهية كافية، تمكنهم من استنباط الأحكام الشرعية وتنظيم الفتوى؛ لترتقى إلى المستوى العلمى اللائق بها ويصون قدسيتها، وأتصور أن ذلك ليس بالأمر العسير .
نريد تشريعاً يُجرم ويعاقب كل من يتصدى للفتوى بغير علم ودون ترخيص أو تأهيل علمى معتمد من الجهات المختصة، ويحصرها فى القنوات الشرعية التى قصرها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر على هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية ولجنة الفتوى بالجامع الأزهر ودار الإفتاء ومركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية، وجميعها تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية التى تتحقق من خلالها مصالح المواطنين !
إن ما يبثه الجُناة الحقيقيون صُناع فوضى الفتاوى الدينية التى تزداد وتيرتها فى «رمضان» باعتباره أكثر شهور العام عبادة وتقرباً إلى الله ومن ثم تساؤلاً فى أمور الدين، ليست بفتاوى بل أفكار مغلوطة لا تعبر بأى حال من الأحوال عن فتوى، بل هى مجرد آراء شخصية لأصحابها أو مروجيها بحثا عن «تريند» أو تحقيق نسب مشاهدات عالية، والمؤسف أن يتورط بعض علماء الدين فى المشاركة بتلك الفوضى عن عمد، أمثال عميد سابق لإحدى كليات الأزهر الشريف، الذى أضاع هيبة الفتوى وحوَّلها إلى استظراف وسخرية من السائل، ومسخ كوميدى باهت بحجة التبسط لنجد أنفسنا أمام ممثل وليس عالم جليل، أو بأستاذ الشريعة والفقه المقارن الذى يمضى على طريقة خالِف تُعرف بأسلوب بث الشك وأثار الجدل فى نفوس جموع المشاهدين من المسلمين !
إن الفتوى كما أوضح فضيلة الدكتور «نظير محمد عياد» مفتى الديار المصرية ليست تشريفاً، بل هى مسئولية عظيمة وأمانة، يتم من خلالها النظر إلى المفتى على أنه قاضٍ فى قضيته، من هنا، يجب أن تكون الفتوى مستندة إلى علم صحيح، يخلق حالة من التوازن بين النصوص الدينية والحكم الشرعى، بعيدًا عن التسرع فى إصدار الأحكام، خاصة وأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، والقضايا المستجدة والنوازل تحتاج إلى أحكام شرعية تتطلب دراسة متأنية، وتراعى قدسية النصوص وتتماشى مع متطلبات الواقع، بما يستوجب على المفتى امتلاك الرؤية الدقيقة والمعرفة بكيفية الاستفادة من النصوص بما يحقق الخير للبلاد والعباد.
والمفتى إما أن يكون فى الجنة إذا أصاب الحق، أو فى النار إذا أخطأ وكان حكمه مبنياً على هوى أو جهل، ناهيك عن أن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك على حد قول فضيلة المفتى.
لا شك أن مهمة «الفتوى» تواجه كثيراً من التحديات التى يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، كالتعدد الفكرى والمعرفى والتنوع الدينى فى المجتمعات، لذلك، يجب عليها أن تضع كل تلك التحديات فى الحسبان، وغالباً ما يكون مطلوباً منها أن تُصاغ بشكل معين، وبأسلوب يتناسب مع شتى المستويات الفكرية والثقافية والدينية، حتى لا تسفر عن انفلات فكرى، أو تشدد وتطرف، يسيء لصورة الإسلام والشريعة.
حقيقة أيضاً لم يكن ما كشفه المؤشر العالمى للفتوى، التابع لدار الإفتاء المصرية عن استحواذ الفتاوى الرمضانية على 35 فى المائة من نسبة الفتاوى الصادرة عالمياً بالأمر الغريب، لكن الأخطر فى الموضوع أن تمثل الفتاوى الرمضانية المضللة الصادرة عن شخصيات لا تنتمى للمؤسسات والهيئات الدينية الموثوقة نسبة 40 فى المائة وحدها، وهى نسبة تؤكد ظاهرة «فوضى الإفتاء» التى يجب التصدى لها بكل حسم وحزم.
إن مؤشر الفتوى فى دراسته حول فتاوى التريندات خلال أشهر (سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر 2024) قد خلُص إلى أن (56 فى المائة) من تريندات الفتاوى غير الرسمية، تسببت فى إحداث بلبلة وفوضى دينية ومجتمعية، ووضعت عوام الناس فى حيرةٍ من أمرهم، واعتبر المؤشر أن ترك الباب مفتوحًا لمثل هذه الفتاوى عبر مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، من أجل تحقيق جنون الشهرة أو لمكاسب مادية؛ سيؤدى إلى تدنى قيمى وأخلاقي.
ومن أبرز الفتاوى السلبية التى تسببت فى إحداث جدل كبير وفوضى دينية ومجتمعية خلال تلك الأشهر، فتوى تجيز سرقة المياه والكهرباء والغاز، وفتوى تطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث!.
من المؤكد أن هؤلاء ليسوا مفتين بل مضللين، يستنبطون فتاواهم من الأهواء والأعراف دون سند إلى أصل أو أدلة شرعية مستغلين حالة الفراغ الدينى، والأمية الدينية التى تعم قطاعات كبيرة من المجتمع، فوضعتها فى مرمى نيران القنوات الفضائية الدينية وسط غياب للمؤسسات الدينية المعتدلة فى العالم الإسلامي.
لقد بات مجتمعنا بحاجة ماسة إلى تحصين سريع من فوضى الفتاوى المضللة المشوهة لثوابت الدين وأصول العقيدة الإسلامية، التى اختلط فيها الحق بالباطل، وأيضاً تشريع سريع يمنع ظهور مدمنى الشهرة والأضواء من غير أهل الاختصاص الذين يحق لهم الإفتاء بما يمتلكون من خلفية علمية كبيرة وثقافة واسعة، وخبرة وتجارب كافية، وملكة فقهية راقية فى فهم النص والواقع، ودراية واسعة بمقاصد الشريعة، وفقه الأولويات والموازنات!
الأمر الكارثى فيمن هم ليسوا أهلاً للفتوى، أنهم يملكون الإجابة عن كل ما يطرح عليهم من تساؤلات، وكأنهم أفقه من الإمام مالك الذى سُئل عن أربعين مسألة، فقال فى ست وثلاثين منها: لا أدرى!.
فلا يجوز شرعاً أن يترك ميدان الفتوى لكل من هبّ ودبّ، وأعطى لنفسه الحق أن يُفتى، مستغلاً التطور التكنولوجى واتساع الفضاء الرقمي، والمنابر الإلكترونية فضلاً عن استخدام الفتوى لأغراض تجارية، وسعى بعض الإعلاميين خلف شخصيات تثير الجدل وتهدف إلى ركوب التريند على حساب الثوابت الشرعية والأخلاقية !
