رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سيرة الأزبكية فى كتاب مهم


8-3-2025 | 19:51

.

طباعة
بقلـم: يوسف القعيد

 

أهدانى الدكتور أحمد بهى الدين رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، عندما كنت فى زيارة للهيئة كتاباً جديداً صادراً عندهم عنوانه: سيرة الأزبكية. من تأليف المؤرخ المعروف الدكتور وائل إبراهيم الدسوقى. بل إنه صادر عن سلسلة تاريخ المصريين. وهى سلسلة مهمة ونشِطة وغير عادية. يرأس تحريرها الدكتور محمد صابر عرب، وينوب عنه الدكتور أحمد زكريا الشلِّق، ومدير التحرير الدكتورة أمل فهمى. وها نحن فى رمضان، وكل عام والمصريون والأشقاء العرب والمسلمون بخير. حيث تحلو القراءة وتصبح متعة المُتع وتساعد الصائم على قضاء وقته. فضلاً عن أنها تُضيف له ما لم يعرفه من قبل. ولهذا تُصبح للصيام فوائد لا تُحصى ولا تعد.

والمؤلف يسأل نفسه فى أول كلمة بالكتاب: لماذا تشغله الأماكن وتبدُّل أحوالها؟ خاصة أن التاريخ يرصد أحوال الناس ونادراً ما يتحدث عن تبدُّل أحوال الأماكن وتراكُم الأحداث فيها. ومع هذا فقد أنفق وقتاً طويلاً من عُمره يبحث فى «سيرة الأزبكية» التى تمتد فى التاريخ المصري، وتحمل عمقاً يتجاوز حاضرها.

 

ثم يقول: من المعروف أن الأزبكية ارتبطت بالعديد من الأمراض الاجتماعية والسلوكيات المتوارثة التى كانت سائدة منذ العصور الإسلامية الأولى. فكانت واحدة من «الخرائب» التى انتشرت فى القاهرة. وأصبحت عاملاً مهماً وسبباً رئيسياً فى تفشِّى وانتشار تلك الأمراض انتشاراً كبيراً بين العامة والخاصة.

 

وللحد منها قام الحُكَّام فى مختلف العصور والأزمنة بتعمير المنطقة. لدرجة أنهم جعلوا منها قاعدة مركزية لحُكمهم. فسكنها أمراء المماليك وحُكَّام الدولة العُثمانية واستخدمتها عائلة محمد على باشا كنواةٍ لمشروعاتهم التحديثية. وإلى جانب عمليات التطوير كتجفيف البِرِك وإقامة المنازل والقصور والأسواق والمبانى الحكومية والمنشآت الثقافية المختلفة. وقاموا بعملية قضاء تامة على الجريمة.

 

وهكذا أدركت الحكومات المصرية عبر العصور أنه من الواجب أن تهتم بإنشاء الحدائق وأماكن التريُّض العامة التى يحتاجها الناس جميعاً للراحة والاستجمام. فعملوا على إنشاء العديد منها، وزيَّنوها حتى تُصبِح جذابة تسر الناظرين.

 

الخديوى إسماعيل

 

وحينما أراد الخديوى إسماعيل أن تكون الأزبكية تُحفته الفنية الخضراء ونواة عاصمته التى رغب فى أن تكون باريس الشرق أمر بتطوير حديقة الحي، بحيث تكون بقعة خضراء وسط عاصمته المتطورة. فقد كان يعلم جيداً أن ثقافة إدخال النباتات الغربية فى الحدائق يُعد من أكثر العلامات التى تميز تقدم وأخلاق الشعوب. وأنه فى جميع البُلدان المُتحضرة تجد ذلك ميلاً عاماً. فهو من عناصر النظافة والمُتعة والترفيه. وهو فن مفيد ومصدر للتجارة والازدهار.

 

ومن المعروف أن جميع النباتات فى الحدائق مثلها مثل معارض الصور والمتاحف الفنية وما إلى ذلك. وغالباً ما تحتوى المدن الكبرى على متنزهات. بل وفى بعض الأحيان غابة فى تخوم المدينة. فأصبح حى الأزبكية يضم العمائر الحديثة وأماكن التريُّض والاستمتاع.

 

ويعترف المؤلف الدكتور وائل إبراهيم الدسوقى أنه لإدراكه لأهمية تاريخ المكان وحكاياته كتب كتابه، ونشره للقُرَّاء للوقوف على تاريخ الحى العريق منذ العصور الإسلامية الأولى حتى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين. وهكذا نجد الكتاب مُقسَّماً إلى مدخل يسرد تاريخاً مختصراً للقاهرة وحدائقها. بالإضافة إلى ستة فصول، الأربعة الأولى منها للحديث عن تاريخ الأزبكية فى عصورها المختلفة. أما الخامس فهو عن تاريخ الأزبكية الثقافى.

 

سور الأزبكية

 

يعترف المؤلف أنه قدَّم هدية للقُرَّاء عندما خصًّص الفصل السادس عن تاريخ سور الأزبكية. لم يشأ دمجه مع فصل التاريخ الثقافى لأهميته ورؤيته الخاصة. وقام بجمع ما توفر من المقالات والشهادات الشفهية، ووقف على مراحل تطوره، وتتبع كل مكانٍ انتقل إليه، ودمج كل ذلك مع ذكرياته الخاصة.

 

ويعترف أنه منذ أيام طفولته الأولى كان زائراً دائماً لسور الأزبكية يذهب إليه أينما ذهب. ألاحقه فى كل مكان. ينهل منه مع والده – يرحمه الله رحمة واسعة – ما استطاع لتكون لديهم فى بيتهم مكتبة عظيمة أغلبها من كنوز السور.

 

ومن شدة تواضع المؤلف والتواضع صفة من صفات العُلماء الكبار لا ينسب لنفسه فضل التأريخ الأوحد لحى الأزبكية. ويعترف أنه سبقته جهود عظيمة لم يغفلها أبداً فى أثناء جمعه لمادته العلمية التى تتزين بها قائمة مصادر ومراجع الكتاب وهوامشه. ولكنها لم تكن بشمولية هذا الكتاب الذى يعتبر أن كتابته أهم ما قام به فى حياته. والذى امتد فى تأريخ المكان إلى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين. تحية منه لمن قاموا بعمل جهودٍ لكتابة تاريخ المنطقة.

 

أهمية الهوامش

 

ومنْ يقرأ هذا الكتاب بعناية، خاصة ما ورد فى شروحات وتوضيحات لبعض الأحداث والأماكن الواردة فى الهوامش فى أجزاء مهمة تكميلية للمتن. جرت العادة إلى استبعادها فى هوامش توضيحية لعدم ارتباطها ارتباطاً مباشراً بالموضوع الأساسي.

 

أيضاً فإن هذا الكتاب المهم فيه إشارات داخل فصوله تُمكِّن القارئ من الإبحار بخياله إلى أزمنة الأزبكية بالشرح والصورة. بل إن المؤلف من أجل أن يُقدَّم أفضل خدمة للقارئ يعود إلى ما سبق أن كتبه فى الفصل الخامس عن أنتكاخانة الأزبكية، والأوبرا الخديوية. وقد أخذها من كتابيه: التاريخ الثقافى لمصر الحديثة، وكتاب: تاريخ علم المصريات. وإن كان لم يُدوِّن دور النشر التى نشرتهما حتى يُمكن العودة إليهما.

 

ويعترف بالجهد المستمر من أستاذه وصديقه الدكتور أحمد زكريا الشلِّق، وأعترف أنا كاتب هذه السطور أنه مؤرخ مهم للغاية. أيضاً فالدكتور صابر عرب من الذين شغلتهم قضية تاريخ مصر لولا مُبادرته للقيام بدور عام فى تاريخ بلادنا فى بعض الفترات.

 

الأزبكية تاريخٌ قديم

 

إن المؤلف يعود إلى التاريخ ليُقدِّم لنا حى الأزبكية فى دولة المماليك. والأزبكية فى زمن العُثمانيين. فإن كانت قد أصبحت مُنذ عصر المماليك المقر المثالى لكبار المسئولين، وكان ذلك سبباً رئيسياً لتعرُّضها للتدمير فى أوقات الاضطرابات السياسية. وهو يعتمد بصبرٍ من النادر أن نجده عند غيره من المؤرخين على ما كتبه الرحَّالة الذين مروا بالمنطقة.

 

ويتوقف أمام ما تركوه من كتابات مهمة بصبرٍ من النادر أن نجده عند مجايليه من المؤرخين. وأنا عن نفسى أحب كثيراً جداً المؤرخ الذى يهتم ليس بالإنسان فقط، بل بالمكان الذى يعيش فيه الإنسان وما يُمثله فى تواريخ حضارة البلد.

 

الحملة الفرنسية

 

يتوقف المؤلف كثيراً أمام ما فعلته الحملة الفرنسية بالمكان. سواء سلباً أو إيجاباً. ويخرج من الفرنسيين ليتوقف عند العُثمانيين. ويقول إن القاهرة فى عصرهم لم تتغير كثيراً عما كانت عليه تحت حُكم المماليك. غير أن بعض الولاة مثل سليمان باشا، وسنَّان باشا، علاوة على أمراء المماليك مثل محمد بك أبو الذهب، ومراد بك، والألفى بك وغيرهم كان لديهم شغف بالبناء والتعمير. فخلدوا أسماءهم بما شيدوه بالأزبكية وغيرها من أحياء القاهرة من مساجد ودور وأسبلة وتكايا. كان يتعبد بها الدراويش ورجال الصوفية. فدبَّت الحياة حولها وانتقل إليها مركز الثقل من الأحياء القديمة كحى القلعة. وهكذا أصبحت القاهرة العاصمة الكُبرى ليس لمصر وحدها، ولكن لكل البلاد التى حولها فى ذلك الزمان البعيد.

 

أفول الأزبكية

 

ويعترف أن حركة الإنشاء والتعمير فى سنوات الاحتلال البريطانى وخاصة خلال فترتى الحربين العالميتين وما بينهما، لم يطرأ على خريطة القاهرة أى تعديل. وظلت شوارعها وميادينها فى القرن التاسع عشر تحافظ على الازدواجية بين الطُرز الغربية والمحلية. ولكن مع توقف الطراز المحلى عن النمو، وروعى فى بناء أغلب العمائر والقصور الجديدة الطراز الأوروبى الحديث.

 

فى أواخر الكتاب يحاول أن يُلقى المؤلف نظرة مجمعة للأزبكية وما بقى منها ويقرأ ما كتبه الصحفيون عنها. مثل: إبراهيم يونس، وكاتب هذه السطور. عندما كتبت فى مجلة الهلال غاضباً وقلت:

 

- إن سور الأزبكية أحد الأمكنة التى يستريح الإنسان عندما يذهب إليها. خاصة حين يُشاع أن كاتباً أو مُفكِّرا باعت أسرته بعد وفاته مكتبته الخاصة إلى تُجَّار السوق، ثم يتم هدم سور الأزبكية، وكُنتُ برِفقة صديق العمر ورفيق الدرب جمال الغيطاني، ونحن نرى أطلال سور الأزبكية الذى تعلَّمنا منه الكثير، وقرأنا عنه الكثير، وتثقّفنا بالكُتب التى أحضرناها منه، ولولاها ما كُنَّا. وربما كانت الكاتبة الصحفية سهير غنَّام دقيقة عندما وصفت القرار الذى انتقل السور بمقتضاه إلى منطقة درب الغفير ليُدفَّن مع الموتى على بُعد خطوات من مشرحة زينهم والباطنية.

 

كتبت سهير غنَّام:

 

- بالله عليكم من ذا الذى يذهب إلى القرافة لكى يحصل على كتاب؟ ومن ذا الذى يقترب من الباطنية حيث تجارة الموت والدمار ليشترى كتاباً.

 

وكان ما كتبته سهير غنام منشوراً فى صحيفة الأهرام فى الثالث من أكتوبر سنة 2013، أى منذ اثنى عشر عاماً.

 

يعترف المؤلف أن من رواد سور الأزبكية: نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، وجمال الغيطاني، وإبراهيم المازني، وعباس محمود العقَّاد. ويكتُب:

 

- ويُشاع أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يتردد بنفسه عليه لاقتناء الكُتب، كذلك الرئيس الراحل محمد نجيب، والرئيس محمد أنور السادات الذى كان من رواده قبل أن يُصبح رئيساً للبلاد. وقد كتب فى كتابه: البحث عن الذات، عن الثقافة التى كانت تستهويه فى مرحلة مبكرة من حياته.

 

ويختم المؤلف كتابه الجميل والبديع بالواقعة الآتية. يكتب أن ألبريت أينشتاين:

 

- إذا كنت تريد لأطفالك أن يكونوا أذكياء فاقرأ لهم الحكايات. وإذا كنت تريد لهم أن يكونوا أكثر ذكاءً فاقرأ لهم المزيد.

 

إنها ليست قصة سور الأزبكية فقط، ولكن قصة العقل المصرى فى القرن العشرين. والكتاب يجب أن يكون فى مكتبة كل مثقف عربى الآن.