رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

توثيق «السيرة الهلالية» منجزه الأكبر.. 7 وجوه للأبنودى فى ذكراه


10-4-2025 | 20:51

.

طباعة
بقلـم: صلاح البيلى

تمر هذه الأيام ذكرى شاعر العامية المصرى، عبد الرحمن الأبنودى، ابن (أبنود) فى قنا بصعيد مصر، وابن بيت الدين والعلم والشعر، فقد كان والده كوالد رفيق رحلته (أمل دنقل)، مدرسا وحافظا للقرآن وشاعرا، ونحن لم ننسَ الأبنودى كى نتذكره، فحياة الأبنودى كانت مشاعًا، حتى إن أمه (فاطمة قنديل) أصبحت علمًا من الأعلام من كثرة ما تناولها فى شعره وسيرته، والأبنودى ابن شرعى لمدرسة شعر العامية فى مصر من مؤسسها العظيم بيرم التونسى، إلى أصغر شاعر، مرورا بفؤاد حداد، وأحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين، والأخير هو مَن قدّم جيل الأبنودى للصحافة ونشر عنهم ولهم، فجاهين صاحب الفضل على هذا الجيل كله، وللأبنودى وجوه متعددة كمبدع، ولكن يبقى منجزه الأكبر هو توثيق السيرة الهلالية. 

 
منذ صغرى وأنا فى قريتى التابعة للمنصورة كنت أستمع للراديو، وكانت الإذاعة وتظل حبى الأول، وكنا فى البيت كأسرة نتابع حلقات السيرة الهلالية فى إذاعة (الشعب) قبل أن تنضم إلى إذاعة (الشباب والرياضة)، ونتابع حلقات السيرة الهلالية بتقديم شاعر الجنوب عبدالرحمن الأبنودى، وغناء المنشد جابر أبو حسين، كان الأبنودى يقدم الحلقة من حيث توقف فى الحلقة السابقة، ثم يقدم الجديد فى تطور دراما السيرة الشعبية، ويترك جابر أبو حسين يغنى ما قدمه شعرًا، وهو يقول له: (جول يا عم جابر)، وكأنها كلمة السر مثل (افتح يا سمسم)، ينطلق صوت عم جابر المشحون بشجن آلاف السنين، وبحضارة مصر الأصيلة فيقول: (بعد المديح فى المكمل، أحكى فى سيرة وأكمل، سيرة عرب أقدمين، كانوا ناس يخشوا الملامة، بطلهم أسد سبع ومتين، يسمى الهلالى سلامة)، وبعد هذا الاستهلال الشعرى الجميل والمفتتح بالصلاة على النبى يأخذ عم جابر فى وصف دراما السيرة وأحداثها وحواراتها، وهو يعزف على الربابة، تلك الآلة المصرية الصميمة التى عرفها قدماء المصريين، ومن خلال حلقات السيرة عرفنا أبا زيد الهلالى وغانم ودياب والجازية والشريفة خضرة والزناتى خليفة، وعرفنا ترحال قبائل الهلالية من الجزيرة العربية إلى تونس الخضراء، واستقرار أجزاء كبيرة منهم فى صعيد مصر.

كانت هذه أول معرفتنا بالأبنودى، مع حلقات السيرة الهلالية فيما بعد مصورة تليفزيونيا مع سيد الضوى، فأصبح لدينا نسختان منها، نسخة مسموعة بصوت جابر أبو حسين، ونسخة مصورة بصوت سيد الضوى، علاوة على النسخة المطبوعة التى جمعها الأبنودى فى سنوات عمره الأولى وطبعها، وأعتقد أنه لو لم يقُم عبد الرحمن الأبنودى إلا بهذا الدور الكبير لكفاه، فهو دور تنهض به مؤسسات، وقام به وحده، وظل سنوات شبابه الأولى يطوف قرى الصعيد، ويلتقى بالعجائز، ومنشدى السيرة الهلالية، ويستمع من أمه ومن غيرها إلى حكايات الكبار عن السيرة، ثم وثقها فى مجلدات منشورة، ثم إذاعيا، وأخيرا تليفزيونيا، وهذا جهد لو تعلمون كبير، وقام به الأبنودى بحب وعشق دون انتظار ثمرة أو عائد أو جائزة، بل عشق فى السيرة ومنشديها وحكايات الكبار من أهلنا فى صعيد مصر، ولليوم وحتى آخر الحياة ستظل تسجيلات الأبنودى للسيرة الهلالية هى النسخة المعتمدة لهذه السيرة الشعبية التى تمجّد البطولة وقيم الحق والشرف والعدل، والانتصار للمظلومين، وكانت مصر والعرب أجمعين فى أشد الحاجة إلى هذه القيم بعد هزيمة 5 يونيو سنة 1967م الثقيلة، وبالفعل نجحت (الهلالية) فى استنهاض روح التحدى، وتفجير الطاقات الجبارة داخل الشخصية المصرية، وهذا هو الوجه الأول والمنجز الخالد للأبنودى.

الشاعر الغنائى 

أما عن وجه الأبنودى الثانى هو الشاعر الغنائى الذى جاء بجديد فى المعانى والألفاظ، وبكلمات بسيطة وقريبة من الناس، أصبح فى سنوات معدودة نجما من نجوم الأغنية الشعبية المصرية، فقدم لمحمد رشدى (تحت السجر يا وهيبة يا ما كلنا برتقان)، والسجر بالعامية وكما ينطقها الناس هى الشجر، والبرتقان هو البرتقال، كما قدم لفايزة أحمد أول وأشهر أغانيها مثل (يا أمه القمر ع الباب) ولحنها العبقرى محمد الموجى فأصبحت تنتشر كالنار فى الهشيم، وغطت وقتها على كل ما عداها، وأصبحت مثلًا يضربه الناس فى أحاديثهم، وقدم لها (مال عليا مال) و(أمه يا هوايا) وغيرها، وكان أن التفت عبد الحليم نجم الجيل الغنائى لموهبة الأبنودى ولغته ومعانيه الجديدة، فطلبه وقدم من خلاله أشهر أغانيه الشعبية، بألحان صديقهم الثالث العبقرى بليغ حمدى، وأصبح الأبنودى أحد شلة حليم، يقيم فى بيته، ويأكل معه، ويسهر معه، وفى هذه الفترة كتب الأبنودى لغالبية المطربين والمطربات من نجاة وشادية وسعاد حسنى ورشدى، وكان مقدرا أن يكتب لأم كلثوم ولكن التجربة لم تكتمل. وفى حقبة الثمانينيات والتسعينيات كتب لكل أبناء الجيل من محمد منير وعلى الحجار ومحمد الحلو وسميرة سعيد وميادة ونادية مصطفى ومصطفى قمر وغيرهم. 

ولما قُبض على الأبنودى فى ستينيات القرن العشرين فى العهد الناصرى مع ثلة من أصحابه المبدعين ومنهم جمال الغيطانى وسيد حجاب، وأفرج عنهم بعد شهور معدودة، وآثر الأبنودى العودة للجنوب، ولكنه وجد حليم يطلبه ويستدعيه على عجل، ويأمره بكتابة الأغانى الوطنية. 

شاعر الوطن 

وهذا هو الوجه الثالث من وجوه الأبنودى، فهو بحق مع أستاذه ومكتشفه صلاح جاهين كانا من رواد الأغنية الوطنية خاصة بألحان كمال الطويل، وبصوت فنان الثورة عبد الحليم حافظ، فكتب الأبنودى غالبية الأغانى الوطنية عقب هزيمة 67م وحتى انتصارات 6 أكتوبر سنة 1973م، وكلنا يتذكر أغنيته الحزينة بصوت عبد الحليم (عدى النهار، والمغربية جايه، تتخفى فى ورق الشجر، وبلدنا صبية على الترعة بتغسل شعرها، جاها نهار مقدرش يدفع مهرها)، و(أحلف بسماها وبترابها، ما تغيب الشمس العربية، طول ما أنا عايش فوق الدنيا)، وهى الأغنية التى كان يبدأ بها حليم كل حفلاته الغنائية فى أى مكان من أرض العرب. 

وأكثر من ذلك قام الأبنودى بتجربة فريدة لا يقوم بها إلا شاعر وفنان صادق، ألا وهى الحياة وسط الجنود والمقاومين على شاطئ قناة السويس وقت حرب الاستنزاف، وكتب عن هذه التجربة ديوانه (وجوه على الشط)، وخلد شخصيات مصرية نسائية ورجالية وحوّلها لأساطير، وقبل ذلك كان عايش عمال بناء السد العالى كما فعل محمد مستجاب، وكتب عن تجربة بناء السد، وكلنا يتذكر قصيدته الطويلة عن (جوابات حراجى القط) لزوجته، وهى أشبه بمعزوفة حب للزوجة والوطن. 

شاعر العروبة 

وهنا يمتد نشاط الأبنودى الوطنى ويتسع، وتطول مشاعره القومية لتشمل العروبة كلها، فكتب عن القضية الفلسطينية ونضال أطفال الحجارة ديوانه الجميل (الموت على الأسفلت)، وأهدانيه بخط جميل كاتبا: (إلى صلاح البيلى، الرجل الذى سقط فى قلبى فجأة)، وهو إهداء أعتز به من أكبر شاعر عامية مصرى معاصر، ويكاد يكون الأبنودى هو شاعر العامية المصرى الوحيد الذى كانت حفلاته فى العواصم والمدن العربية والغربية يؤمها آلاف المعجبين به وبشعره، ومع أنه لم يكتب القصيدة الفصيحة إلا نادرا، إلا أنه جعل العامية المصرية على كل لسان عربى، كما فعلت السينما المصرية والأغنية المصرية، وكان نجم الحفلات بلا منازع، وكان مشهورا على امتداد العالم العربى بنفس شهرته الجارفة فى مصر، وهذا هو الوجه الرابع من إبداع الأبنودى.

شاعر التترات 

أما وجهه الخامس فهو قدرته الفائقة مع رفيق إبداعه سيد حجاب، على كتابة تترات المسلسلات بمهارة فائقة، وشكل مع كتاب الدراما من أبناء الجنوب وحدة عمل واحدة، مثل محمد صفاء عامر، وغيره، وكانت كلماته تصيب مباشرة، دون لف أو دوران، ولمَ لا؟، وهو كاتب أغانى فيلم (شيء من الخوف) عن رواية ثروت أباظة وإخراج حسين كمال، وغناء شادية، وكانت أغانيه فى الفيلم من أسباب نجاحه لليوم، وليس أجدر من الأبنودى على ترجمة مشاعر أبناء الصعيد فهو واحد منهم، وتعتبر أغانى تترات المسلسلات التى كتبها درة من درر مسيرته الإبداعية. 

الليالى المحمدية 

والوجه السادس للأبنودى هو كتابته لليالى المحمدية التى كان يحييها التليفزيون فى ذكرى المولد النبوى من كل عام، فأبدع فيها بكلمات تدل على عمق إيمانه، وفطرته السوية، ونصاعة تربيته فى بيت دين وقرآن وعلم، وأصالته وجذوره، وفى عقب إحدى الحفلات صافحه الرئيس الأسبق مبارك وحرمه سوزان، مع الراحل د. جمال سلامة، ومع نجوم الحفل، ورغم هذا كتب الأبنودى وقت مظاهرات المصريين إبان ثورة 25 يناير سنة 2011م قصيدته الشهيرة (ارحلى يا دولة العواجيز)، فهو على تماس مع نبض الشارع والناس، ولم يعتبر نفسه يومًا من أهل السلطة. 

المرأة الصعيدية 

والوجه السابع والأهم فى رأيى من وجوه الأبنودى أنه كان خير سفير للمرأة الصعيدية، فقد قدمها باعتزاز وفخر، وظل يتحدث عن أمه (فاطمة قنديل) حتى ظننا أنه لا أمهات سواها، وتحدث عن قوتها وعن صواب رأيها وحكمتها، وعن حُسن إدارتها لشؤون البيت، فهدم الأبنودى بذلك الصورة النمطية السلبية وغير الحقيقية عن المرأة الصعيدية، تلك الصورة التى تقدمها كظل للرجل، باهتة لا دور لها ولا كيان خاص، فنفى الأبنودى هذه الصورة النمطية وقدم لنا الحقيقة من خلال أمه (قنديلة).

والملاحظ فى صوره الغنائية عن المرأة أنه يرفع من قدرها، ويقدمها عاشقة محبة بكرامة، لا تذلل ولا إهانة، ونظرة على أغانيه لفايزة أحمد مثل (يا أمه القمر ع الباب) أو (مال عليا مال، فرع من الرمان)، أو (عيون القلب) لنجاة، وغيرها من أغانيه العاطفية نراه يقدم المرأة فى صورة جميلة، وهذا منبعه التأثر بأمه، وتربيته السوية.