استكمالًا للتحليل الأول والذى جاء تحت عنوان «إصلاح المنظومة الضريبية: قراءة تحليلية لمقترح المساهمة الموحدة»، الذى تناول الإشكاليات الهيكلية للمنظومة الحالية، وفرص وتحديات مقترح توحيد الرسوم الحكومية، يأتى هذا المقال لتقديم تصور عملى مبسط لكيفية تنفيذ هذا الإصلاح عبر منهجية تدريجية ذكية، تحقق تبسيط المعاملات دون خلق أعباء إضافية أو تعقيدات غير محسوبة.
تناولنا فى المقال الأول واقع تعدد الرسوم الإدارية فى مصر، والذى يشمل أكثر من 2400 رسم تفرضها حوالى 80 جهة حكومية مختلفة، وما ينتجه هذا الواقع من عبء مالى وإدارى مرتفع على المستثمرين، وغموض فى قواعد الالتزام المالى، إلى جانب ارتفاع تكلفة ممارسة الأعمال مقارنة بالأسواق المنافسة.
وقد أشرنا إلى أن مقترح «المساهمة الموحدة» يسعى إلى معالجة هذه التشوهات عبر «توحيد الرسوم، تحسين الشفافية، تعزيز العدالة المالية، وتقليص التكاليف غير الإنتاجية على المستثمرين»، مع التحذير فى المقابل من أن التطبيق غير الدقيق قد يؤدى إلى نتائج عكسية، سواء بخلق أعباء جديدة، أو بزيادة تعقيد المشهد الإداري.
أعقب طرح الفكرة نقاشات جادة بين الدوائر الحكومية ومجتمع الأعمال، تمحورت حول نقاط أساسية، أهمها التخوف من أن تتحول المساهمة إلى عبء ضريبى غير متناسب، إذا رُبطت صراحة بالأرباح، كذلك الخشية من فرض رسوم جديدة دون تحسن نوعى موازٍ فى الخدمات الحكومية، وأخيرا أهمية التمييز بين تبسيط الإجراءات وتحسين بيئة الأعمال، وبين مجرد إعادة هيكلة مالية للالتزامات المفروضة على المستثمرين.
وقد بيّنت هذه النقاشات أن الهدف الحقيقى ليس مجرد دمج الرسوم، بل تحقيق نقلة نوعية فى تجربة المستثمر قائمة على وضوح الالتزامات واستقرار القواعد إلى جانب وجود مقابل خدمى حقيقى للرسوم المحصّلة.
التصور التنفيذى المقترح قائم على التدرج الذكى عبر نموذج تجريبي:
أولًا: إطلاق نموذج تجريبى داخل الهيئة العامة للاستثمار، فمن المقترح أن يبدأ الإصلاح عبر تجربة نموذجية محدودة داخل الهيئة العامة للاستثمار، باعتبارها الواجهة الرئيسية لتعامل المستثمر مع الدولة، والإطار الأمثل لاختبار فاعلية التوحيد والتبسيط المؤسسى.
وتتضمن ملامح النموذج التجريبى توحيد جميع الرسوم الحالية داخل الهيئة «بما فى ذلك رسوم الجهات الفرعية التابعة لها»، ضمن رسم موحد ثابت ومقنن مقابل الخدمات الأساسية مع إصدار لائحة موحدة معتمدة، توضح أنواع الرسوم، وقيمتها، وتوقيت تحصيلها، إضافة إلى طبيعة الخدمات المقابلة لها، مع ضمان ألا يتم فرض رسوم إضافية لاحقة إلا من خلال تعديل معلن ومنظم، إضافة إلى الاحتفاظ برسوم مستقلة فقط للخدمات الاختيارية أو المتخصصة؛ مثل: (خدمات البنية التحتية الخاصة - التراخيص السريعة - المناطق الحرة ذات الوضع الخاص مع ربط الرسوم بطبيعة دورة الأعمال (Business Cycle) بحيث تكون مرنة مع النشاط الاقتصادى دون فرض أعباء مفاجئة خلال فترات الركود أو التباطؤ، وتعزيز الشفافية الداخلية عبر وضع نظام واضح لإدارة العائدات، يضمن استمرار تمويل الإدارات الخدمية وتحسين كفاءة الأداء المؤسسي.
ثانيًا: تقييم أثر تبسيط الرسوم على تجربة المستثمر، وذلك بـ«إجراء مراجعات دورية لرصد أثر تطبيق النظام الموحد على سرعة إنجاز المعاملات، وتقليل التكلفة الزمنية والإجرائية، ووضوح الإجراءات وشفافيتها، ومستوى رضا المستثمرين، وتطوير آليات معالجة فورية لأى تحديات تنفيذية تظهر أثناء فترة التجربة، لضمان التحسين المستمر قبل التوسع فى التطبيق».
ثالثًا: تحسين جودة الخدمات كمرتكز أساسى للإصلاح، والذى يتحقق بـ«الربط الصريح بين تحصيل الرسوم وتحسين مستوى الخدمات المقدمة، بحيث يلمس المستثمر تحسنًا حقيقيًا فى زمن تقديم الخدمات، والاحترافية المؤسسية، وتكلفة التعامل مع الأجهزة الحكومية، وربط تقييم الأداء المؤسسى للهيئة بمؤشرات أداء محددة وقابلة للقياس (KPIs)، مرتبطة بجودة تقديم الخدمة للمستثمرين.
رابعًا: التوسع المرحلى بعد نجاح التجربة، «فبعد إتمام فترة التقييم التجريبى بنجاح داخل الهيئة العامة للاستثمار، يتم التخطيط المرحلى للتوسع التدريجى نحو الهيئة العامة للتنمية الصناعية، ثم بقية الهيئات الاستثمارية الكبرى، وفقًا لدروس التجربة الأولية ومؤشرات نجاحها».
ختامًا: الإصلاح الذكى يصنع الفارق.. إن هدف مشروع «المساهمة الموحدة» يجب أن يظل مرتبطًا بتحقيق بيئة أعمال أكثر كفاءة وعدالة واستقرارًا، وليس بمجرد إعادة ترتيب للأعباء المالية، ومن ثم فإن نجاح هذا المشروع الطموح يتطلب البدء التجريبى المحدود، والتقييم المرحلى الدقيق، والتحسين المستمر بناءً على التغذية الراجعة الواقعية.
الإصلاح الحقيقى لا يُقاس بحجم القوانين والقرارات، بل يُقاس بمدى التحسن الفعلى فى تجربة المستثمرين وقدرة الدولة على بناء نموذج مؤسسى مستدام وشفاف، وبهذه المنهجية، يمكن لمشروع توحيد الرسوم أن يتحول من فكرة واعدة إلى قصة نجاح مؤسسى فعلى.


