أولًا: الإطار القانونى وتطور التشريع..
بدأت العلاقة الإيجارية المنظمة فى مصر منذ عشرينيات القرن الماضى بقوانين استثنائية خاصة قانون 1920 وقانون 1921، التى هدفت إلى حماية المستأجرين فى ظل ظروف الحروب والتقلبات الاقتصادية، وأهم تلك القوانين.. القانون 199 لسنة 1952 الذى خفّض بنسبة 15 فى المائة على القيمة الإيجارية للوحدات التى أُنشئت من أول يناير 1944 حتى 18 سبتمبر 1952، ويسرى مــن أكتوبر 1952. وأيضًا قانون 55 لسنة 1958 وخفّض بنسبة 20 فى المائة على الأماكن المنشأة من 18 سبتمبر 1952 حتى 12 يونيو 1958، اعتبارا من إيجار يوليو 1958 والقانون الثالث رقم 168 لسنة 1961 خفّض بنسبة 20 فى المائة على إيجارات الأماكن المنشأة منذ 12 يونيو 1958 حتى 5 نوفمبر 1961 واعتبارا من ديسمبر 1961.
ثم صدر قانون رقم 46 لسنة 1962 للأماكن المنشأة بعد نوفمبر 1961، وطبقًا لأحكامه تم تحديد القيمة الإيجارية على أساس أن يعطى الإيجار عائدًا سنويًا قدره «5 فى المائة» من قيمة الأرض والمبانى، و«3 فى المائة» من قيمة المبنى مقابل استهلاك رأس المال ومصروفات الإصلاحات والإدارة.
إلى أن صدر قانون رقم 49 لسنة 1977، الذى نظّم العلاقة بين المالك والمستأجر للوحدات السكنية وغير السكنية، وبعده القانون رقم 136 لسنة 1981، الذى رسّخ مبدأ الامتداد القانونى للعقود وقيّد قدرة المالك على تعديل القيمة الإيجارية.
وهذه القوانين ثبّتت الإيجار لمدى الحياة، بل وسمحت بامتداد العلاقة الإيجارية إلى الأبناء والأحفاد، مما أدى إلى استمرار عقود إيجار بقيمة زهيدة فى مواقع متميزة لفترات تتجاوز 70 عاما، واستمر الوضع كذلك حتى جاء حكم المحكمة الدستورية العليا الذى كان بمثابة الحجر الذى حرّك المياه الراكدة.
ثانيًا: حكم المحكمة الدستورية وتعديلات 2022..
فى مايو 2018، أصدرت المحكمة الدستورية العُليا حكمًا بعدم دستورية استمرار العلاقة الإيجارية للوحدات غير السكنية المؤجرة للأشخاص الاعتباريين (مثل الشركات والمؤسسات)، باعتبار أن هذا الامتداد يخلّ بمبدأ المساواة ويعتدى على الملكية الخاصة.
واستجابة لهذا الحكم، أصدر البرلمان قانون رقم 10 لسنة 2022، والذى أتاح إنهاء العلاقة الإيجارية فى الوحدات غير السكنية المؤجرة للأشخاص الاعتباريين خلال 5 سنوات من صدوره، مع زيادة تدريجية فى الإيجار خلال تلك المدة.. لكن يظل التحدى قائمًا بالنسبة للوحدات السكنية المؤجرة للأشخاص الطبيعيين، والتى ما زالت تخضع لقانون الإيجارات القديمة دون إصلاحات جوهرية.
ثالثا: التأثير الاقتصادى لقانون الإيجارات القديمة..
هناك تأثيرات اقتصادية للقانون تتمثل فى تشوّه سوق الإيجار، فأسعار الإيجارات القديمة لا تتناسب مطلقًا مع القيمة السوقية للوحدات، ما يخلق سوقًا مزدوجًا وغير عادل. فعلى سبيل المثال، هناك محال تجارية فى مناطق راقية (وسط البلد – الزمالك – جاردن سيتي) تُؤجر بـ10 إلى 50 جنيهًا شهريًا، بينما تصل قيمتها السوقية لعشرات الآلاف.
والنقطة الثانية هى إهدار الثروة العقارية، حيث يقدر عدد الوحدات المؤجرة بنظام الإيجار القديم بحوالى 3 ملايين وحدة سكنية ومئات الآلاف من الوحدات التجارية، وكثير من هذه الوحدات مغلقة ولا تتم الاستفادة منها، ما يقلل من المعروض فى السوق، ويؤدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل مصطنع.
والنقطة الثالثة هى ضعف العائد الاستثماري، فانخفاض العائد يجعل الملاك يحجمون عن صيانة العقارات أو تطويرها، ما يسرّع من تهالك البنية العمرانية، كما يعزف المستثمرون عن الدخول فى سوق الإيجارات طويلة الأجل، بسبب غياب الضمانات القانونية بتحرير العقود.
أما النقطة الرابعة فهى فقدان الحصيلة الضريبية، فالحكومة نفسها تخسر جزءًا كبيرًا من الضرائب العقارية والدخل نتيجة تدنى الإيجارات، حيث تُحسب الضريبة وفقًا للإيجار الفعلي، وليس السوقي.
رابعًا: التأثير الاجتماعى..
وهنا تأثير اجتماعى يجب النظر إليه وهو الخوف من التشريد، فملايين المستأجرين يعيشون فى وحدات إيجار قديم، ويمثلون فئات محدودة الدخل أو كبار السن، وأى تحرير مفاجئ للعلاقة الإيجارية قد يؤدى إلى تهجير بعض الأسر من مساكنهم الأصلية.
فضلاً عن فجوة العدالة، فهناك حالات يعيش فيها مستأجرون من الطبقة العُليا أو ورثة أغنياء فى شقق راقية بإيجارات رمزية، بينما يدفع محدودو الدخل إيجارات مرتفعة فى أماكن أقل جودة، هذا الوضع غير عادل ويُخالف مبدأ تكافؤ الفرص.
بالإضافة إلى تجميد الثروة العقارية، فعدم تدوير الوحدات القديمة يؤدى إلى بطء حركة السكن بين الفئات، ويمنع الاستفادة من ملايين الوحدات المغلقة.
المعالجات والتوصيات المقترحة
لكى تنجح محاولة إصلاح قانون الإيجارات القديمة، لا بد من الجمع بين حماية الطرف الأضعف (المستأجر) والحفاظ على حق المالك، وهذا يستوجب مجموعة من التوصيات:
أولها: تدرج زمنى واضح لتحرير العلاقة الإيجارية تصل إلى 7 سنوات، مع رفع الإيجار تدريجيًا بنسبة 10 إلى 20 فى المائة سنويًا حتى الوصول للسعر السوقي.
ثانيا: إنشاء صندوق دعم المستأجرين، ويكون تمويله من الضرائب العقارية المحصّلة بعد تحرير العلاقة، ويستخدم لمساعدة المستأجرين محدودى الدخل وكبار السن، ويُقدم دعمًا مباشرًا أو وحدات سكنية بديلة ضمن مشروعات الإسكان الاجتماعى على فتره سداد طويلة بفائدة ميسّرة ومخفّضة.
وثالثا: تحفيز الملاك على تطوير العقارات القديمة، من خلال تقديم حوافز ضريبية أو تمويل منخفض الفائدة للملاك الذين يرممون المبانى القديمة، وتشجيع إعادة استثمار العوائد فى بناء وحدات جديدة.
ورابعا: حصر شامل للوحدات المغلقة، وإلزام المستأجر بالإبلاغ عن استخدام الوحدة، وفى حال عدم الاستخدام الفعلي، يمكن اعتبار العقد لاغيًا أو إعادة التفاوض عليه.
وخامسا: فتح حوار مجتمعى شفاف، وإشراك جمعيات المجتمع المدنى ونقابات المحامين والمهندسين فى الحوار التشريعي.
كل ما سبق من تفسيرات وتوصيات يؤكد أن الحل يحتاج سياسات عقلانية وتدريجية، تُراعى التوازن بين الطرفين، وتضع فى الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، لأن معالجة هذه القضية تمثل فرصة لإصلاح عمرانى واجتماعى حقيقى، وتحقيق العدالة، وتحفيز الاستثمار العقارى والتنمية الحضرية فى مصر.
