يحكى القديس أوغسطيس قصة قرصان أسرهُ الإسكندر الأكبر وسأله: كيف تجرؤ على الاعتداء على الناس فى البحار؟ فأجاب القرصان: وكيف تجرؤ أنت على الاعتداء على العالم بأسره؟، إلا أننى أقوم بذلك بسفينة صغيرة فحسب، أدعى لصًا، أما أنت ولأنك تقوم بنفس الشئ بأسطول كبير، فيدعونك إمبراطوراً.
ما أشبه القصة بين اللص والإمبراطور بما يحدث فى البحر الأحمر من اعتداءات وتهديد العالم من خلال الهيمنة وبسط النفوذ على ممر مائى من أهم الممرات الملاحية، بين هذا وذلك مَن يحمى البحر الأحمر، فكل من يعتدى يُطلق على نفسه مصطلحًا يليق بحجمه فالاعتداء من جماعة صغيرة تسمى إرهابًا والاعتداء من جيوش وأساطيل تُسمى تحالفات.
فى محاولة لاستكمال سلسلة من المقالات فى مجلتنا العريقة المصور عن أزمات البحر الأحمر نتطرق لأبرز النقاط الحيوية والمهمة التى لها أثر وبعد استراتيجى على أمن المنطقة بل والعالم بأكمله، بدأتها بمقال «أزمات البحر الأحمر بين صراع المصالح ومخاطر الملاحة» واليوم نكتب عن «عسكرة البحر الأحمر واحتدام صراع القوى».
الحشد العسكرى غير المسبوق فى البحر الأحمر يطرح تساؤلاً، عن حجم التهديدات التى تواجهها القوى الغربية لتعمل على عسكرة البحر الأحمر؟ الذى يعكس التنافس المتزايد على السيطرة والنفوذ فى هذه المنطقة الاستراتيجية، التى تمثل نقطة التقاء حيوية بين قارات العالم، وتشكل محورًا استراتيجيًا تتنافس عليه القوى الكبرى، إن فهم ديناميكيات عسكرة هذه المنطقة أمر بالغ الأهمية لصياغة سياسات تضمن الأمن والاستقرار الإقليمى والدولى.
وعليه يشهد البحر الأحمر فى السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا من كونه ممرًا مائيًا حيويًا إلى ساحة تنافسية للعسكرة المتزايدة، حيث تتسابق القوى الأقليمية والدولية لتوسيع نفوذها العسكرى فى منطقة لها عمق استراتيجى بالغ الأهمية، وتتطلب هذه التطورات استراتيجيات منسقة من قبل الدول المشاطئة على البحر الأحمر، والمجتمع الدولى لضمان الأمن والاستقرار فى المنطقة.
لم تكن حرب غزة الأخيرة المندلعة فى 7 أكتوبر 2023، هى التى أخذت العالم لكل هذا الدمار والصمت المطلق من قبل المجتمع الدولى على جرائم الإبادة الجماعية وعلى التهديدات التى تواجه أمن حركة الملاحة فى البحر الأحمر، من قِبل تهديدات وهجمات الحوثى فى البحر الأحمر وفى مضيق باب المندب، التى منحت الولايات المتحدة الحضور بقوة عسكرية مكثفة بدافع الاستجابة للهجمات الحوثية ضد سفن إسرائيل، وأعلنت أمريكا تشكيل قوة بحرية دولية أطلقت عليها «حارس الازدهار»، فى ديسمبر 2023، بمشاركة أكثر من 20 دولة.
بل من قبل ذلك ومنذ عام 2001 أسست الولايات المتحدة القوة البحرية المشتركة (CMF) بمشاركة مجموعة من الدول المتحالفة وحلف شمال الأطلسى، القوة البحرية المشتركة الأكبر فى العالم، وتضم تلك القوة البحرية المشتركة مجموعة من خمسة أساطيل لمواجهة تهديديات الإرهاب الدولى، ومكافحة القرصنة، وحماية البحر الأحمر، وتعزيز الأمن البحرى فى الشرق الأوسط.
تمركز أمريكا فى البحر الأحمر والشرق الأوسط بمختلف الطرق والوسائل، يجعلنا نسأل هل تريد الولايات المتحدة ردع الحوثى وحلفاء إيران أم هدفها تعطيل الصين؟ التى تعتمد بشكل أساسى على التعاون بين دول الشرق الأوسط والدول المشاطئة للبحر الأحمر من أجل تعزيز وإنجاح مبادرة الحزام والطريق التى تؤرق الولايات المتحدة، وترى أن الصين عدوها الأول فى العالم بسبب تمددها الدبلوماسى والاقتصادى.
ومنها استغلت الولايات المتحدة السيطرة على المحيط البحرى للقوة البحرية المشتركة «أكبر قوة بحرية» تغطى 3.2 مليون ميل بحرى من المياه الدولية التى أسستها الولايات المتحدة منذ عام 2001 تحت مظلة الأسطول البحرى الخامس.
ولذلك يرى المراقبون فى منطقة الشرق الأوسط بأن الهدف المعلن لتكوين التحالفات الأمريكية فى مواجهة العمليات التى تنفذها جماعة الحوثى، بأنه لا يمثل الهدف الحقيقى لتلك التحركات المكثفة للوجود فى هذه المنطقة الحيوية، بل إن هناك إدراكًا عالميًا بأن الحروب القادمة فى العالم هى حروب بحرية، وبالتالى الوجود فى منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب ذات الأهمية الاستراتيجية يعد أولوية لقوى كبرى فى العالم.
من المتوقع أن تستمر القوى الكبرى فى تعزيز وجودها العسكرى فى البحر الأحمر لضمان مصالحها الأقتصادية والأمنية، كما أن الدول المشاطئة والمطلة على البحر الأحمر ستسعى إلى تعزيز قدراتها العسكرية والتعاون فيما بينها لمواجهة التحديات المشتركة، وهذا ما سنتطرق إليه فى مقالنا القادم بإذن الله.

