رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

رغم حالة عدم اليقين القانونى حولها.. هل تنقذ رسوم «ترامب» الصناعة الأمريكية؟


5-6-2025 | 21:27

.

طباعة
بقلـم: د. وفاء على

لا شك أن مآلات المشهد تقول إن هناك معركة جديدة يخوضها رجل التعريفات الجمركية مع القضاء الأمريكى، ما يترك حالة من الغموض الاستفزازى وزيادة الضغط على المستهلك الأمريكى والشركات الأمريكية المتضررة، وحتى بعد قرار محكمة الاستئناف بسريان الرسوم الانتقامية، مازال الأمر معلقًا بين البطلان والاستئناف فيما يخص لجوء ترامب إلى قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية الذى يمنحه التصرف، لكنه تناسى أن هذا القانون للتهديدات الدولية وليس التعريفات الجمركية التى لم يستوفها هذا المعيار، وهذا يقودنا إلى السؤال المهم، هل يقترب خريف الاقتصاد الأمريكى؟

 

ها هى مفاوضات الصين وأمريكا تتعثر فى ملف التعريفات الجمركية رغم الهدنة التجارية، وها هو الفيدرالى الأمريكى يتمسك بسياسة الحذر والترقب وسط خطر التضخم والبيانات الاقتصادية التى قامت بها جامعة ميتشجن أن الأسواق المالية تحصد الخسائر ومؤشر إنفاق المستهلكين غير مطمئن ومؤشرات التضخم وسوق العمل غير مرضية، أما بيانات الاستثمار والصناعة فتعطى إشارات سلبية، فالمستثمرون فى حالة من الحيطة والحذر وانتظار تبرير فريق ترامب لفعلتهم الاقتصادية وحال الأسواق ونهاية الهدن التجارية فهل يستطيع ترامب إنقاذ الموقف؟، خصوصًا بعدما وصف ترامب العجز التجارى أو عجز الموازنة أنه حالة وطنية طارئة.

لم تتفاعل الأسواق لأنها تعلم أن ترامب سيحاول العودة بشتى الطرق إلى رسومه الانتقامية، ومن هنا عادت الأسواق لتقليص مكاسبها بعد الاحتفال المبكر، وذلك يدفعنا إلى سؤال يفرض نفسه على الساحة، هل مشروع ترامب الاقتصادى كله مهدد بالفشل؟.

فالفارق ما زال كبيرا بين الإيرادات والنفقات وأيلون ماسك لفظته الدولة العميقة، وهو واحد من الترسانة الترامبية يخرج معترضا على قانون الضرائب الأمريكى الذى تحدثنا عنه المرة الماضية فى مقالنا، بالإضافة إلى أهم ملف فى حلم ترامب، وهو عودة الصناعة إلى أمريكا فهل تعود لو أخذنا خطوة إلى الوراء لنشاهد الصورة العامة عن فك الارتباط بين الدولار والركود الاقتصادى وزيادة الديون الأمريكية وعدم معرفة أى أخبار تأتى، فترامب حصل 17.4 مليار دولار كرسوم جمركية فى شهرين ومازال العجز يزيد والصناعة تعطى إشارات دلالية أن الاستثنائية الأمريكية فى الصناعة ذهبت مع الريح.

لا شك أن إعادة التموضع الصناعى فى أى دولة يعتمد على عدة محاور رئيسية فى المشهد الاقتصادى ودائما الأسواق تسبق الصورة، وقد لفتت النظر الحروب التجارية إلى ملف تموضع التصنيع الجديد فى العالم وأن هناك قضية هامة تسمى البدائل والاستجابة فى جغرافيا التصنيع العالمى وبعد الفوضى الحادثة فى كل الملفات، لابد لكل دولة أن تبحث عن تقنياتها الفنية لجلب أو توطين الصناعة، وعندما يغيب التفسير فيما يتعلق بملف السياسات الحمائية أو حالة الصخب والفوضى العارمة للأسواق العالمية وحالة عدم اليقين الاستراتيجى تحضر الفرضيات «من يتقدم ومن يتراجع» خصوصًا أنه قد انتهى من زمن تحقيق مستويات نمو مستمر للاقتصاد الأمريكى مع تراجع الثقة بالدولار، فكل دولار يزيد بمستوى الدين العام يقابله تراجع فى النمو الاقتصادى، وبالتالى التأثير الأول على خارطة الصادرات والتصنيع بالمقام الأول، وهنا نقول إن قرارات ترامب هل هى استراتيجية لعودة الصناعة الأمريكية إلى مكانتها أم قرارات بطريقة الصدمة؟ وأن أمريكا ليست مستعدة بالأصل لهذه القفزات النوعية، خصوصًا بعدما تعهد التنين الصينى بالاعتماد على الذات، خصوصًا فى الذكاء الاصطناعي، وهنا لابد أن يكون هناك سؤال يفرض نفسه أين الحل المسئول؟

بعدما بدأ المستثمرون فى التخارج من الأصول الأمريكية بسبب تحركات الأسهم والسندات الأمريكية ونزيف الخسائر بسبب التعريفات الجمركية، وهنا نقول هل هذا نهاية الاستثنائية الأمريكية التى كانت تدعم الأصول الأمريكية بشكل كبير وتحافظ على التموضع الصناعى.

تغيرت التركيبة الاقتصادية والصناعية العالمية، وأصبحت دائرة عدم اليقين الاستراتيجى متنامية وتغيرت هندسة الصناعة على الخارطة العالمية وبالعودة إلى عبارة عدم اليقين الاستراتيجى، نجد أن وزير الخزانة الأمريكى سكوت يقول هذه العبارة الغامضة، ويعبر أن أمريكا لن تعود تلعب دورها السابق فى الصناعة لماذا؟ تعطلت البنية الصناعية الأمريكية كثيرا، لذلك على من يتفاوض مع ترامب أن يعلم أن أمريكا ليست كما كانت، وإذا صارت السياسة المالية والنقدية والاقتصادية لخدمة مصالح أمريكا فقط سوف تنغلق على نفسها، فالصين مثلًا لا يهمها أمريكا من قريب أو بعيد، وإنما كم مليار شخص سيشترى سلعها على المدى الطويل أما فكر أمريكا فهو لمدة أربع سنوات.

التنين الصينى وهدوؤه

فالصين تحتل الصدارة فى العالم للبطاريات 90 فى المائة من الإنتاج العالمى وفوجئت أمريكا أن البطاريات الأمريكية صنعت فى الصين وتحتاج أمريكا إلى 85 مليار دولار حتى 2030 لتنتج بطاريات أمريكية والصناعة فى مراحلها الأولى فليس هناك بنية تحتية مجهزة.

وهنا نقول إن الاقتصاد العالمى عند مفترق الطرق وعلى الدول الناشئة ومنها مصر أن تستغل الرياح المعاكسة عالميًا فى جلب كل الصناعات العنقودية الهاربة من الجحيم الأوروبى، ومن فقدان الثقة فى التمركز الصناعى الأمريكى..

أربع سنوات أخرى كفيلة لهدم القوة العالمية الاقتصادية، فهل ينجح ترامب فى إحياء الصناعة والانتصار للعامل الأبيض؟

لا يخفى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رغبته فى إعادة إحياء قطاع الصناعة الأمريكى مع تركيزه على الصناعات الثقيلة، مثل الحديد والصلب والألومنيوم والفحم والسيارات، هذا التوجه فى استراتيجية ترامب الاقتصادية يرتبط بأجندته ذات النزعة القومية لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، ولذلك خدمة قواعده الانتخابية من أبناء الطبقة العاملة، لاسيما الأمريكان البيض الذين تضرروا من تراجع القاعدة الصناعية فى أمريكا طيلة العقود الأربعة الماضية، وهو يركز على محورين أساسيين هما الوزن النسبى لقطاع الصناعات التحويلية فى الاقتصاد الأمريكى، فعلى سبيل المثال نجد أن القيمة المضافة من هذا القطاع فى الناتج المحلى الإجمالى تراجعت بشكل منتظم حتى وصلت إلى 11 فى المائة عام 2021 ولو نظرنا إلى التكوين القطاعى للاقتصاد الأمريكى نجد أنه المضاف من الصناعات التحويلية هو 11 فى المائة بينما باقى القطاعات نحو 43 فى المائة .

المحور الثانى الوزن النسبى للصناعات، انعكس سلبًا على تراجع العمالة الصناعية، ففى عام 1970 كانت 31 فى المائة وفى 2010 انخفضت إلى10.7 فى المائة وفى 2023 بلغت 9.7 فى المائة.

هذا الانخفاض نتيجة التغييرات التكنولوجية التى طالت الصناعات التحويلية عامة وقللت الاعتماد على الأيدى العاملة مع تقدم الذكاء الاصطناعى والروبوتات، ومن ناحية أخرى نتيجة اندماج العمالة الصناعية الماهرة ونصف الماهرة والرخيصة فى شرق آسيا، خاصة الصين فى نظام التجارة العالمى منذ الثمانينيات، مما أسهم فى نقل نسبة مهمة من الإنتاج الصناعى إلى آسيا تركز الخدمات الرأسمالية الأقدم فى أمريكا وأوروبا.

تحديات الصناعة الأمريكية

على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكى ككل استمر فى توليد معدلات نمو وتشغيل مرتفعة مقارنة بغيره من الدول مرتفعة الدخل مثل دول الاتحاد الأوروبى أو اليابان فإن انتقال مركز الثقل فى الخدمات كانت له آثار توزيعية بالغة السوء على القاعدة العريضة من الأمريكيين، وهو ما انعكس على التدهور الكبير فى توزيع الدخل، حيث تراجع نصيب الفرد للأمريكان من 20 فى المائة إلى 12 فى المائة فى عام 2024.

ونعود للسؤال العالق والمهم:

هل ينجح ترامب فى إعادة الصناعة إلى أمريكا؟، الإجابة لا وهى إجابة لها دلالة قطعية ولأسباب يعود أولها إلى توازنات القوى الحاكمة للعلاقة بين الحكومة الفيدرالية التى يرأسها ترامب وأصحاب رأس المال فى تلك القطاعات خدمية الطابع التى كتبت لها الهيمنة على الاقتصاد الأمريكي، فى العقود الماضية، وسعى ترامب إلى استخدام سلاح الرسوم لجذب الاستثمارات والمحلية والأجنبية نحو الصناعات التحويلية وتوفر حوافز أخرى مثل الطلب الحكومى الأمريكى لجذب رؤوس الأموال تلك القطاعات ذات الأولوية ومن ثم توليد فرص العمل المطلوبة هناك.

لكن أولى مشكلات تطبيق هذا التصور تكمن فى أن أثر علاقات الحكومة برأس المال فى الولايات المتحدة لم تسر فى قنوات مؤسسية تسمح لها بالتنسيق مع الدولة وتقديم نماذج رأسمالية أخرى مثل الصين أو من قبل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان ولا حتى نماذج أوروبية مثل السويد وفرنسا وألمانيا، حيث لعبت الديمقراطية الاجتماعية دورًا فى خلق قرارات لتنسيق قرارات الاستثمارات والإنتاج والتشغيل بين الحكومات وممثلى الشركات والتجمعات العمالية.

نموذج أصحاب الأسهم

هو نموذج شديد الاضطراب بحكم التعريف، لأنه يقوم على انتظار عوائد على الاستثمار فى الأجل البعيد والقصير جدًا، ورأينا كيف أسهم ظهور تطبيق ديب سيك الأخير فى نهاية يناير الماضى فى تدهور أسهم التكنولوجيا العملاقة لتخسر تسلا 800 مليار دولار من قيمتها السوقية، علينا تذكر أن قدرة الكثير من تلك الشركات ومالكيها فى ضوء التركيز المبالغ فيه للثروات فى أيدى أشخاص بعينهم على مراكمة تلك الثروات المطلقة وارتبطت قلبًا وقالبًا بخروج الصناعات الثقيلة من الولايات المتحدة وتوطينها فى آسيا، ولابد أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية تمتلك ما يكفى من أدوات أو موارد لإعادة توجيه رؤوس الأموال نحو الاستثمار فى التصنيع لداخل الولايات ولا خارجها.

كيف خسرت أمريكا الصراع الصناعى؟

لقد شهد قطاع التصنيع الأمريكى تراجعًا طويل الأمد فى التوظيف والهيمنة العالمية حتى مع نمو نصيب العامل من الناتج، وركز صانعو السياسات على عكس هذا الاتجاه من خلال إعادة الصناعات من آسيا إلى أمريكا، لقد كان محور أجندة ترامب هو توفير الوظائف، ولكن نقل الوظائف إلى الخارج بسبب نقل الصناعة إلى الصين بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية فى 2001 أدى إلى تآكل القاعدة الصناعية الأمريكية، وهى تعرف باسم (صدمة الصين) فقد انتقلت صناعات بأكملها إلى الخارج، وأكثر من 95 فى المائة من المنسوجات الموجودة بأمريكا مستوردة، وتصنيع جميع الجوالات الذكية تقريبًا بالخارج .

انخفضت حصة أمريكا من الناتج الصناعى العالمى إلى 17 فى المائة تقريبًا مقارنة بعام 1990 كانت 25 فى المائة وعلى النقيض الصين تمثل 1/3 الناتج الصناعى العالمي.

نقاط ضعف أمريكية؟

كيف ينقذ ترامب بلاده رغم أن هناك ضعفا رئيسيا فى القاعدة الصناعية الأمريكية فى سلاسل التوريد الحيوية فلا ينتج فى أمريكا سوى 12 فى المائة من أشباه الموصلات فى العالم، وقد كشفت جائحة كورونا ضعف أمريكا فى نظم الإنتاج فقد تراجعت قاعدة التصنيع الأمريكية التى هاجرت إلى الخارج .

هل ستنتهى الاستثنائية الأمريكية

بهذه الطريقة وحالة عدم اليقين بسبب سياسات ترامب التجارية يتم تهديد تفوق الاقتصاد الأمريكى ولا شك أن سياسات ترامب خطر على عوامل تميز أمريكا قصيرة الأمد .

الابتكار وزيادة الأعمال المعززة بمؤسسات قوية أهم ركائز التفوق الأمريكى

يمثل الاقتصاد الأمريكى حالة فريدة، إذ يتمتع بثراء وابتكار يفوقان معظم اقتصادات العالم المتقدمة ويواصل تحقيق معدلات نمو قوية وخلال الأعوام 15 الماضية قدم أداء لافتًا، إذ تفوقت الأسهم الأمريكية على نظيراتها فى بقية الدول فى وقت خفت فيه بريق النمو فى الصين وأوروبا .

لكن هذه الاستثنائية الأمريكية باتت مهددة، فقد دفعت حالة عدم اليقين المحيطة بالتجارة العالمية ومستقبل قوة الدولار إلي قيام كبار المستثمرين الأوروبيين بتقليص استثماراتهم فى الأسهم الأمريكية، وتذهب بعض التقديرات إلى أن التحدى قد يكون أعمق من ذلك، ومع مرور أكثر من 100 يوم على بداية الولاية الثانية فقد بدأ المراقبون بالفعل فى الحديث عن احتمال نهاية هذه المرحلة الاستثنائية لأمريكا.

عوامل الاستثنائية

يستند الاقتصاد الأمريكى فى الاستثنائية إلى مجموعة من العوامل المتكاملة فمن جهة يتمتع بأكبر وأعمق الأسواق المالية من حيث السيولة، ما يعزز قدرة النظام المالى على توجيه رؤوس الأموال نحو الاستثمارات الأكثر كفاءة وإنتاجية، لكن ما يجعل هذا الاقتصاد فريدًا هو ديناميكيته التى تشكل أساسا للابتكار وتعزيز الإنتاجية، وتعد عامل جذب رئيسيًا لأفعال المواهب من مختلف أنحاء العالم، ولفهم ما إذا كانت بوصلة الازدهار قد شارفت على نهايتها من المهم التفرقة بين الاستثنائية قصيرة الأجل المرتبطة بالظروف المالية الراهنة والاستثنائية الهيكلية طويلة الأمد لطالما ميزت الاقتصاد الأمريكى خلال القرن الماضى .

ومع تراجع مؤشر الدولار منذ منتصف يناير كذلك سوق الأسهم قد تحدث تحركات تصحيحية فى الأسواق، مازال العالم يعول على تفوق الاقتصاد الأمريكى وآفاق نموه وحتى فى حالة تراجع الدولار لا توجد عملة احتياطية عالمية مهيمنة أخرى.

ومازالت الفجوة قائمة بين كل الفرضيات الأمريكية وواقع العالم الجديد.