عقودٌ من الزحام اليومى والتكدس المرورى الذى تعانى منه القاهرة الكبرى، وشكاوى متكررة مما يشهده الطريق الدائرى من «حوادث الميكروباص»، دفعت الدولة للبحث عن حلول جذرية تُحدث نقلة حقيقية فى منظومة النقل الجماعى.. ليأتى مشروع «الأتوبيس الترددى السريع BRT» كأحد أبرز المشروعات البديلة، ليس فقط لتقليل الحوادث وتخفيف الضغط على «الدائرى»، بل لإعادة تنظيم حركة النقل بطريقة أكثر أمانًا وكفاءة.
المشروع، الذى بدأ بالفعل تشغيله تجريبيًّا بالركاب هذا الأسبوع، يُمثل نموذجًا للاعتماد على وسائل نقل صديقة للبيئة، ويستهدف تحسين تجربة التنقل اليومية لملايين المواطنين، ضمن رؤية شاملة لتطوير البنية التحتية ورفع جودة الحياة فى العاصمة.
سكان القاهرة الكبرى كانوا على موعد مهم فى الأول من يونيو الجارى، بالتزامن مع التشغيل التجريبى للمرحلة الأولى من مشروع الأتوبيس الترددى بمشاركة الركاب، فى مرحلة يمتد مسارها من تقاطع الطريق الدائرى مع طريق الإسكندرية الزراعى وصولًا إلى محطة أكاديمية الشرطة، بطول يبلغ 35 كيلومترًا، لتخدم بذلك شريحة واسعة من المواطنين من شرق العاصمة إلى غربها، وتربط أحياء ومناطق حيوية بمحور نقل حضارى حديث.
ما يُميز هذا المشروع ليس فقط اتساع نطاقه الجغرافى أو عدد المحطات التى يخدمها، بل كونه أول منظومة نقل جماعى تعتمد بالكامل على الأتوبيسات الكهربائية الصديقة للبيئة، والمُصنعة محليًّا فى إطار استراتيجية الدولة لتوطين الصناعة.
الأتوبيسات المستخدمة فى المشروع مكيفة الهواء، وذات سعة استيعابية تصل إلى 66 راكبًا لكل أتوبيس، أى ما يعادل خمسة ميكروباصات، لينقل 3200 راكب فى الساعة فى الاتجاهين، مما يُسهم فى تقليل عدد المركبات الخاصة على الطريق، وبالتالى يُخفف من التكدس المرورى والانبعاثات الضارة، فى حين يبلغ زمن التقاطر بين الأتوبيسات 3 دقائق، وقد يصل إلى دقيقة ونصف الدقيقة فقط فى أوقات الذروة، بما يضمن انسيابية عالية فى الحركة وسرعة فى التنقل، وهو ما يُعد تحولًا جذريًا فى مفهوم الانتظار بالنسبة لوسائل النقل.
المرحلة الأولى من المشروع تضم 14 محطة رئيسية، تتنوع بين محطات سطحية وأخرى تخدمها أنفاق أو كبارى مشاه، لضمان وصول آمن وسهل للركاب.. وتبدأ هذه المحطات من محطة «الإسكندرية الزراعى»، مرورًا بمحطات مثل «شبرا بنها»، و«المرج»، و«عدلى منصور»، وانتهاءً بمحطة «أكاديمية الشرطة»، وجرى تصميمها بعناية لتخدم أكبر عدد ممكن من المناطق السكنية والمراكز الحضرية، وتتكامل مع وسائل النقل الأخرى كمترو الأنفاق والقطار الكهربائى الخفيف.
من الجوانب اللافتة فى المشروع هو حرص وزارة النقل على تنظيم حركة المرور بشكل يحفظ كفاءة المنظومة واستدامتها، فقد تم تخصيص حارة مرورية منفصلة تمامًا لمسار الأتوبيسات الترددية، فى الحارة اليسرى من الطريق الدائرى بكل اتجاه، ومنع سير أى مركبة خاصة داخل هذه الحارة، لكن خلال اليوم الأول من التشغيل ظهرت بعض السلبيات مثل دخول عدد من السيارات الملاكى للمسار المخصص للأتوبيس، بل ووصل الأمر إلى دخول بعضها داخل المحطات نفسها، ما تسبب فى تعطيل حركة الأتوبيسات، لتقوم وزارة النقل على الفور بالتنسيق مع الإدارة العامة للمرور لتطبيق مخالفات رادعة ضد من يتعدى على المسار المخصص للأتوبيس الترددى، دعمًا للانضباط المرورى ومنعًا لأى تداخل قد يُفقد المشروع أهميته.
مميزات مشروع الأتوبيس الترددى لا تُخطئها عين، فمن حيث التكامل فى وسائل النقل، ينسجم المشروع مع شبكات النقل الأخرى، إذ يرتبط بخطوط المترو (الخط الأول فى محطتى الزهراء والمرج، والخط الثالث فى عدلى منصور وإمبابة)، كما يتصل بالقطار الكهربائى الخفيف (LRT) فى محطة عدلى منصور، وبالتالى تتيح هذه الشبكة المتكاملة للراكب الانتقال بسلاسة بين وسائل المواصلات المختلفة، دون الحاجة للجوء إلى وسائل النقل العشوائى أو السيارات الخاصة.
أما على الصعيد الصناعى، فيُمثل المشروع إنجازًا نوعيًا فى ملف توطين الصناعات الثقيلة، إذ تم تصنيع الأتوبيسات الكهربائية بالكامل محليًّا، ضمن رؤية طموحة لتحويل مصر إلى مركز صناعى إقليمى، ووقف استيراد الأتوبيسات من الخارج.
المشروع كاملًا سيمتد بطول 113 كم حول القاهرة الكبرى، ويضم 48 محطة و4 محطات شحن (واحدة رئيسية وثلاثًا فرعية)، وسينفذ على ثلاث مراحل.. فبعد الانتهاء من المرحلة الأولى، يجرى حاليًّا العمل فى المرحلة الثانية التى تشمل 21 محطة تمتد من المشير طنطاوى حتى تقاطع الفيوم، بما فيها ثلاث محطات على محور المريوطية (الهرم، الملك فيصل، ترسا)، إلى جانب محطة المتحف المصرى الكبير على طريق الإسكندرية الصحراوى، أما المرحلة الثالثة، فستُكمل الشبكة بعدد 13 محطة إضافية.
