خلال حديثى الممتد عن إصلاح المنظومة الضريبية، انصب المستهدف الأول على فكرة عدالة المنظومة والتطبيق، وهى غاية كثيرا ما تتعارض مع طبيعة الضرائب التقليدية مثل ضريبة الدخل وكذا القيمة المضافة، خاصة أن العبء الأكبر منها يقع غالبًا على كاهل الفئات المتوسطة والفقيرة، بينما تظل الثروات الضخمة بمنأى عن المساهمة الفعلية.
ومن هنا.. يعود طرح «ضريبة الثروة» إلى الصدارة كأداة جريئة وخيار استراتيجى يفتح الباب نحو نظام أكثر كفاءة وإنصافًا، لما تضمنه من قدرة على توسيع قاعدة العدالة الضريبية وتعزيز الإيرادات العامة دون المساس بالشرائح الضعيفة.. وبالطبع لا تأتى الدعوة إليها بدافع العقاب الطبقى، بل كأداة عقلانية لاستدامة المالية العامة وضمان الحد الأدنى من التوازن الاجتماعى.
صحيح أن «ضريبة الثروة» ارتبطت تاريخيًا بالمطالب اليسارية، وغالبًا ما طُرحت كآلية لإعادة توزيع الدخل والحد من تراكم رأس المال، إلا أن هذا التوصيف يغفل عن التحولات العميقة التى شهدتها السياسات المالية العالمية فى العقود الأخيرة، والتى دفعت حتى بعض الاقتصادات الليبرالية إلى إعادة تقييم موقفها من تركّز الثروة، والتفكير الجاد فى سُبل تنظيمها بما يخدم الصالح العام.
من يساريات النظرية إلى براجماتية التطبيق
ارتبطت «ضريبة الثروة» تاريخيًا باليسار الأوروبى، خصوصًا خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، حيث كانت جزءًا من موجات اشتراكية دعت إلى تدخل الدولة فى ضبط السوق وتوجيه توزيع الثروات، إلا أن هذا المشهد تغيّر كثيرًا، ولم تعد «ضريبة الثروة» تُقرأ اليوم من منظور أيديولوجى محض، بل بات يُنظر إليها باعتبارها خيارًا اقتصاديًا قابلًا للنقاش من زاوية الكفاءة والعدالة، بصرف النظر عن الانحيازات السياسية.
فعلى سبيل المثال، التجربة الفرنسية الأخيرة فى تطبيق ضريبة الثروة حتى عام 2018 جاءت فى ظل حكومة اشتراكية، لكن فى المقابل، نجد أن سويسرا، ذات التوجه الليبرالى الصريح، تطبق ضريبة الثروة على مستوى الكانتونات منذ سنوات، وكذلك الحال فى النرويج، حيث تُطبق ضريبة الثروة فى ظل اقتصاد مختلط يجمع بين السوق والضمان الاجتماعى، مع تطوير مستمر فى آليات التقييم والرصد.
يؤكد هذا التنوع فى التجارب، مرونة خيار «ضريبة الثروة» خارج الإطار الأيديولوجى التقليدى، فهى لم تعد حكرًا على مدارس اقتصادية بعينها، بل باتت أداة مرنة يمكن تكييفها بحسب الظروف المحلية، وتُستخدم لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية فى آنٍ معًا.
ما ضرائب الثروة؟ أنواعها وخصائصها
وفى الحقيقة، لا تشير «ضريبة الثروة” إلى أداة واحدة محددة، بل تشمل طيفًا واسعًا من الضرائب التى تستهدف تراكم الثروة أو انتقالها، وهى تختلف من حيث الآليات والتوقيت، فمنها ما يُفرض بشكل دورى، ومنها ما يُستحق فى لحظات انتقال الملكية.
على سبيل المثال، هناك الضريبة السنوية على الثروة الصافية، والتى تُفرض على صافى الأصول التى يمتلكها الفرد أو الأسرة بعد خصم الالتزامات، إذا تجاوزت حدًا معينًا، وهى الصيغة الأقرب لما يُطلق عليه «ضريبة الثروة المباشرة»، لكنها غير مطبقة فعليًا فى المنظومة المصرية.
كذلك نجد ضريبة التركات والميراث، والتى تُفرض عند انتقال الأصول بعد الوفاة، بهدف الحد من التراكم الوراثى للثروة فى أسر محددة عبر الأجيال، ورغم أهميتها فى ضبط توزيع الثروة، فقد تم إلغاؤها منذ عام 1996 .
إلى جانب ذلك، هناك ضريبة الأرباح الرأسمالية، التى تُفرض على المكاسب الناتجة عن بيع الأصول، سواء كانت مالية أو عقارية، وهى مطبقة جزئيًا فى مصر، لكنها لا تغطى كافة الأشكال المحتملة لتضخم الثروة.
كما توجد ضريبة العقارات الفاخرة، وهى تختلف عن الضريبة العقارية العادية، إذ تستهدف الوحدات مرتفعة القيمة باعتبارها مؤشرًا مباشرًا على الامتلاك الفائض للثروة، غير أنها لا تزال غير مفعّلة فعليًا.
وأخيرًا، هناك الضرائب على الأصول غير المُنتجة مثل المجوهرات، اليخوت، والسيارات الفاخرة، وهى مظاهر واضحة لتكدّس الثروة دون مساهمة مباشرة فى العملية الإنتاجية، لكنها أيضًا غير مطبقة حتى الآن.
هل فعلا «لوبى الأثرياء» يعطلها؟
وفى الحقيقة، لا يمكن إنكار وجود لوبى اقتصادى قوى يعارض تطبيق ضريبة الثروة، سواء على المستوى المحلى أو العالمى، فمراكز القوى المالية، خصوصًا تلك التى تستفيد من تراكم الثروات دون قيود، تنشط فى التصدى لأى محاولة لتطبيق هذا النوع من الضرائب، مستندة إلى أدوات نفوذها فى الإعلام والسياسة لتصوير الضريبة على أنها معوّق للنمو الاقتصادى أو تهديد لبيئة الاستثمار.
ورغم قوة هذا اللوبى وتأثيره، إلا أن المشهد الدولى يشهد تحوّلًا تدريجيًا فى الخطاب، حيث بدأ يتبلور إدراك متزايد، حتى من قبل مؤسسات تقليدية كانت تُعرف بالحذر من فرض ضرائب على الثروة، مثل صندوق النقد الدولى IMF ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD ، بأن تركّز الثروة فى يد قلة من دون وجود أدوات تصحيحية فعالة لا يُعدّ مجرد مسألة عدالة اجتماعية، بل يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار المالى.
الضريبة التى تُقنع.. لا تُفرض
ختامًا، فإن ضريبة الثروة ليست تعبيرًا عن عناد أيديولوجى أو صراع طبقى، بل استجابة عقلانية لواقع اقتصادى تتسع فيه فجوة العدالة الاجتماعية، وتتراكم فيه الضغوط المالية، ويتراجع فيه شعور المواطنين بالانتماء إلى المنظومة الضريبية، وهو ما يتفق مع ما حذّر منه الاقتصادى الحائز على نوبل، جوزيف ستيغليتز:»إذا لم تُصحّح الأنظمة الضريبية مسار تركّز الثروة، فإن الأسواق تفقد توازنها، وتتحول الرأسمالية إلى أداة احتكار، لا إنتاج.”
فى المحطة القادمة، نقترب أكثر من أرض الواقع، لنتناول الضريبة العقارية فى مصر هل يتم تقديرها بعدالة؟ هل تحققت الميكنة؟ وهل يشعر المواطن أن ما يُدفع يعود عليه فى شكل خدمات محلية حقيقية؟
