الأربعاء 24 ابريل 2024

برا المنهج ...قوة الحقيقة في مواجهة أشباح الأكاذيب

فيلم برا المنهج

23-6-2022 | 16:14

هبة عادل
تعجبنى تلك الأفلام التى تعتمد فكرتها على الجرأة والخروج عن السائد والمألوف، ولا أعنى بالجرأة مشهد هنا أو تعبير هناك، وإنما هى روعة التفكير خارج الصندوق وهو ما يتجلى فى فيلم" برا المنهج"، أو إذا جاز التعبير" برا الصندوق".. الفيلم ينطوى على أبعاد فلسفية جاءت جديدة ومختلفة فى طرح مغرٍ وشيق حسبنا فى الثناء على جودة هذا العمل ما ناله من الجوائز العديدة ولعل آخرها ما حصده فى مهرجان المركز الكاثوليكى المصرى للسينما فى دورته الأخيرة . الفيلم يبدأ بطريقة الحكى" ناريشن" بصوت بطله الفنان الكبير ماجد الكدوانى والذى يحكى فى الخلفية بداية بالقول إنه فى زمان غير الزمان ومكان غير المكان، وعندما أستمع إلى هذه العبارة أو ما يشابهها ،أُدرك على الفور العمق الفلسفى الذى يرمى إليه الفيلم و عدم النمطية فى الطرح الذى يتناوله حيث فكرة التعميم تلقى بظلال الابتعاد عن شخصنة الأفراد أو الأزمنة أو الأمكنة التى يتعرض لها الفيلم وأحداثه . الفيلم يحكى عن الطفل" نور" أو " عمر شريف" وهو موهبة فوق العادة لطفل متميز جدا جاء أداؤه مبهرا غير أن القصة فى حد ذاتها تدور حول هذا الطفل نور كبطل أساسى وعامود فقرى فى الأحداث ،الطفل نور يلقبونه فى مدرسته بالقرية الصغيرة ب" عماشة "،حيث يعانى من ضعف الإبصار ويرتدى نظارة سميكة وفى حين يلعب نور مع أطفال المدرسه زملائه فى الفصل..كرة القدم فى الشارع ويلقون كرة القدم التى يلعبون بها فى بيت مشهور فى القرية بكونه بيتا للأشباح حتى أنهم يخوفون الأطفال فى المدرسة ويعاقبونهم كما طبق عليه أحد المدرسين ذات يوم بالطلوع إلى السطوح المقابل لبيت الأشباح هذا ، فيما يردد الأطفال أن من يدخل إلى هذا البيت" يتسخط إلى فرخة" ، نور يلعب مع رفاقه الكرة فى الشارع تطير تدخل إلى بيت الأشباح فيقرر الدخول إلى داخل البيت ليأتى بالكرة ،يخيفونه الأطفال، أما هو فيقرر الدخول لتظهر أمامه غوريلا كبيرة، فيفر هاربا ركدا إلى بيت خالته التى تتولى تربيته بعد وفاة والديه، فيما يعامله زوج الخالة بقسوة مفرطة، يذهب نور ثانية إلى بيت الأشباح لاسترداد نظارته التى كانت قد وقعت منه أثناء الجرى، فيخرج له الشبح يهدده بعدم القدوم مرة أخرى هو يقول له : " لا تحاول التدخل فيما لا يعنيك وفك شفرة هذا الشبح "،فيقرر الطفل نور بذكائه الفطرى المفرط عقد صفقة مع هذا الشبح وأن يقول لرفاقه فى الفصل إنه رآه وتحدث معه حتى يحترمه الأطفال ويقدرونه ويسكتون عن وصفه بالجبان، ينجح نور فى هذه الصفقة ويخدع رفاقه أنه قد رأى الشبح وأنه استطاع استرداد الكرة التى كانوا يخافون الدخول إلى بيته للإتيان بها ،يقتنع الأطفال ويهابون نور ومن هنا تتبدى أولى ملامح الفكرة حيث معادلة هل القوة فى الذكاء أم فى قوة الجسد ،ينتصر نور بذكاء ، فنور ضعيف البنيان ولكنه قوى فى العقل إذ استطاع أن يخدع تلاميذ الفصول و حتى المدرسين ، فكلهم آمن بأنه يتعامل مع الجن والأشباح والعفاريت فكل من كان لديه طلب أو أمنية صار يتودد إلى نور بل ويعطيه الأموال كى ما يقنع هذا الشبح بتحقيق هذه الأمنيات فهذه تلميذة تريد لشقيقتها أن تنجب، وهذا المدرس يريد لابنته "عريس"، وهذا الآخر لديه مشكلات مع زوجته وكل هذه الأمنيات لم يعد لديهم شك أن نور هو القادر على تحقيقها من خلال التعامل مع هذا الشبح . من ناحية أخرى ، يصادق نور الشبح، ويذهب فى شبه إقامة معه فى محاوله لكشف سر هذا الشبح الذى يكتشف أنه مجرد إنسان عادى قام بدوره الفنان الكبير ماجد الكدوانى الذى يرتدى ملابس الشبح ولكنه عندما يكشف عن وجهه يتبدى فى كونه إنسانا عاديا اختار لنفسه أن ينعزل عن الحياة فى هذا البيت البعيد فى هذه القرية النائية هربا من شيء ما يحاول نور التعرف عليه، تتشابك الخطوط أكثر حينما تظهر مدرسة نور فى المدرسة التى قامت بدورها الفنانة روبى لتذهب معه ذات يوم إلى بيت الشبح وتتعرف عليه حيث هو مذيع شهير ترك أسرته هربا من الحياة فى هذا البيت المهجور، و ذات ليلة يقلب نور فى صندوق أسرار هذا الشبح ليجد خطابات يكتبها لابنته التى هرب بعيدا عنها فيقرر هو ومدرسته روبى الذهاب إلى عنوانها فى القاهرة ليأتيا بها لمشاهدة والدها وعودة العلاقات بينهما وبينما تأتى الابنة الشابة التى جسدتها الفنانة "أسماء أبو اليزيد " لتواجه والدها الذى لا يتمنى فى الكون سوى أن تسامحه ، حيث تتضح من الأحداث قصته ، و أنه فى زمان الحرب و النكسة كان قد أذاع بيانات كاذبة و عند افتضاحه ، احتقره الناس ، حتى أهل بيته و ابنته ، ففضل الهروب بعيدا عنهم فى معاقبه لنفسه ، تذهب معهم الابنة ولكن الفشل فى عودة العلاقات لوالدها يكون هو نتيجة هذا اللقاء وعندما يحاول نور محاورة الرجل الذى كان دائما ما يحكى له عن أبطال التاريخ وشجعانه على المواجهة وعدم الكذب حيث إنها العقدة التى سببت له الابتعاد عن الحياة والحرمان من ابنته ، يطالبه نور بالمواجهة لأنه هو الآخر من المفترض أن يكون على قدر من الشجاعة لاسترداد ابنته فينهار البطل الكدوانى قائلا :"أنا مش من شجعان التاريخ يا نور ، أنا من جبناء التاريخ"،" لأنى كنت بكذب على الناس ، فكان لازم أبقى شبح" . يتعلم نور الدرس وينطلق إلى مدرسته ويمسك بالميكروفون فى الحوش أمام التلاميذ والناظر والأساتذه ليقول لهم : إن الشبح هذا هو رجل وأنه ليس كما خدعهم بأن لديه قدرة على التعامل مع الأرواح والأشباح، وإنما هو مجرد رجل وإن كل ما تحقق من أمانى ما هو إلا محض المصادفة، يتمسك نور بمصداقيته دون خوف من ردود أفعال أساتذته والناظر الذى فضح طلباتهم وصفقتهم معه ولكنه آمن بما لقنه البطل الكدوانى بأن الكذب هو ما يدمر الشخص حرفيا ويجعله ضعيفا حتى وإن كان يجيد استخدامه بذكاء وإنما المصداقية هى القوه الحقيقية . وهذا هو الدرس الذى نخرج به من هذه " التيمة "الرائعة التى قدمها المؤلف والمخرج عمرو سلامة من خلال الفيلم البديع . يموت الطفل نور فى نهايه الأحداث ويخرج الكدوانى إلى الحياة مرورا بقبر نور، و يحكى بصوته فى الخلفية : " أن نور قد تحول إلى درس لن ينسى بل سيظل موجودا بقصته"، ويذهب الكدوانى مع روبى إلى القاهرة، حيث تعود المياه إلى مجاريها مع ابنته وينزل تتر النهاية مؤكدا ما ختم به" الشبح الكدوانى" أن الدرس هذا الذى لا ينسى يؤكد أن رموز التاريخ الحقيقيين الذين لا تنسى قصصهم هم من يتفوقون بقوه الصدق وليس بشيء آخر.