دائماً ما عُرفت الأغنية المصرية واشتهرت، بل وتميزت بتصدرها المشهد الغنائى العربى على مر الأجيال، ولم يأتِ هذا بالطبع من فراغ، بل نظراً لامتلاك مصر مجموعة من الأصوات البديعة بخلاف المبدعين فى مجالات الشعر والتلحين والتوزيع، ما صنع لها مكانتها الخاصة التى تتوهج داخل القلوب العربية، ولكن مع التطور التكنولوجى والرقمى وفى ظل عصر «السوشيال ميديا» أصبح هناك تنافس كبير بين الأغنية المصرية والأغانى العربية (الخليجية - اللبنانية - المغربية) وغيرها، لذلك قمنا فى هذا التحقيق بسؤال بعض من أساتذة النقد الموسيقى والشعراء والملحنين.. هل مازالت الأغنية المصرية محتفظة بمكانتها حتى الآن كما اعتدنا.. أم أن هناك أغانى عربية أخرى تفوقت عليها؟.. وفى ظل تلك المنافسة الكبيرة بين الأغانى العربية كيف تحافظ الأغنية المصرية على مكانتها وريادتها؟، وكانت آراؤهم متباينة حول ذلك، كما تقرأونها فى السطور التالية...
يقول الموسيقار الكبير حلمى بكر: لابد أن نعترف بأننا تعسرنا فى الطريق وهذه هى الحقيقة، وما يحدث الآن بعضه لا يطلق عليه «غناء» وما نسمعه لا يسمى أغانى، وإذا تحدثنا عن دول الخليج أو لبنان فهم يقدمون فنوناً جيدة أحياناً، وأحياناً يقدمون أغانى غير جيدة أيضاً، لكن رقم واحد عندهم الفن الجيد أما نحن فلا.. الجيد لدينا أصبح يختفى يوماً بعد يوم، على سبيل المثال.. عندما نأتى بصوت جديد جميل يغنى، ولا ينجح، فنذهب للنقيض تماماً، وهذه هى الكارثة التى نعانى منها».
وعن تصوره لإيجاد حل يقول بكر: يجب أن تتضافر أكثر من جهة مثل نقابة المهن الموسيقية وعليها دور كبير جداً، بالإضافة إلى دور وزارات الثقافة، الإعلام، والسياحة؛ فيجب عليهم الاتفاق على أساس أن الثقافة تهتم بقصور الثقافة وتخرج منها مواهب جديدة، والإعلام ينشر هذا ويدعمه.
على النقيض يرى الشاعر بهاء الدين محمد، أن الأغنية المصرية لم ولن تغادر المشهد والصدارة، مؤكداً أن الأغانى المصرية بكل أشكالها ناجحة سواء فى المهرجانات أو الراب أو مع كبار نجوم المطربين، ونحن مستمرون فى الريادة، وليس هناك منهج محدد للحافظ على هذا، بل يجب أن يقدم الفنانون فناً جيداً فى أى مكان فى الوطن العربى ليس مصر فقط.
ويرى الناقد الموسيقى، الدكتور زين نصار، أن هناك تراجعاً للأغنية المصرية، مرجعاً ذلك إلى عدة عوامل أدت لذلك أهمها توقف الإذاعة عن الإنتاج الغنائى وإعطاء الفرصة لبعض الأفراد والجهات الخاصة التى لا تهمها القيم الفنية، بل يهتمون بالمكسب المادى فقط، لذا أصبحوا ينتجون الأغانى الهابطة دون المحافظة على قيم المجتمع عكس الإذاعة التى كانت تختار الأصوات بعناية، وكذلك الكلمات والألحان، لذلك لابد من اهتمام الدولة بفن الغناء أسوة باهتمامها بالدراما والفن بشكل عام، لأنه شديد التأثير فى سلوكيات الأطفال والشباب، وجميعنا نرى الآن الإفساد الذى خلفته أغانى المهرجانات، حيث يرجع ظهورها لخلاء الساحة الغنائية أمامها.
وتابع، نحن لدينا مطربون كبار ولكن ليس هناك إنتاج لهم، ولا شك أن حرية الإبداع مكفولة للجميع، ولكن يجب على المبدع أن يراعى تقاليد وهوية مجتمعه وفقاً لقاعدة «أنت حر ما لم تضر».
وأكد نصار أن غياب التعليم الموسيقى فى المدارس يعتبر سبباً رئيسياً لتراجع الأغنية داخل المجتمع، حيث كان الأطفال فى الماضى منذ مرحلة الحضانة وحتى الجامعة يدرسون الموسيقى، وكان هذا يرسخ فى وجدانهم.
وبدأ الدكتور شريف حمدى الأستاذ بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان، حديثه قائلاً: تعود الأغنية المصرية الجيدة للصدارة عندما تعود حصة الموسيقى فى المدارس، ونهتم بالذوق العام، حينها سوف يلمس الطفل هذا ويتذوق الموسيقى الجيدة وينمو معه قبول النوع الجيد ويرفض الردىء، لذلك الأمر يبدأ من تحسين ذوق الجمهور أولاً، ولدينا فى مصر مبدعون كثيرون لا حصر لهم، وسيبقى هذا إلى يوم الدين، مصر بها شعراء وملحنون، وأصوات موهوبة رائعة، لكن فى النهاية.. تقدم المطلوب حالياً فى السوق وفقاً لذوق الجمهور.
وتابع: ستظل الأغنية المصرية فى الصدارة، لا شك فى ذلك، لكن بما أن الأغنية التافهة هى ما تتصدر المشهد أحياناً، فإذا عاد الذوق العام يبحث عن الرقى فسنجد هذا ما يتصدر السوق «الناس عاوزة تاكل عيش»، وإذا أردنا العودة للأغنية الجادة المحترمة فهناك عدة أدوار متكاملة يمكنها القيام بذلك، على رأسها دور الجهات المتخصصة المعنية والمؤسسات الكبيرة ثم دور رجال الأعمال الذين يدعمون مؤدى المهرجانات ويشجهونهم مستنكراً: يمكن لهؤلاء الرجال أن يدعموا الأصوات العظيمة بدلاً من ذلك!، وأيضاً فى الماضى كانت هناك برامج تليفزيونية تهتم بالموسيقى العربية والمحلية ونحتاج إلى تواجدها وبكثافة فلا تستطيع نقابة المهن الموسيقية مواجهة هذا بمفردها.
وأضاف: نحن فى كلية التربية الموسيقية نخرج كل عام مئات الطلاب منهم 30 أو 40 طالباً يتمتعون بأصوات جميلة، كذلك أكاديمية الفنون ومعهد الموسيقى العربية، هل يحضر أحد حفلاتهم ويتحدث عنهم؟ الأمر يحتاج إلى دعم كبير ومناهج تعليمية ليس فقط أغنية أو موسيقى، بل هناك ارتباط وثيق بالواقع والمجتمع
.
ويعلق الشاعر عمرو المصرى، قائلاً: لا شك أن المشهد المصرى مازال موجوداً بنجاحاته، ووجود منافسين له يرجع للتطور، حيث أصبحت هناك أغانٍ مغربية معروفة ومطربون أيضاً، كما يوجد شباب كثيرون موهوبون ومتطورون فى دول الخليج.
وتابع: فى الماضى لم يكن متصدراً سوى الفن المصرى فقط وهذا كان سبباً فى نجاح جميع الأغانى، أما الآن فأصبح هناك منافسون أقوياء من بلدان عربية.
وأكد أن الأغنية المصرية وغيرها تستطيع الحفاظ على مكانتها دائماً بالتجديد والاختلاف والتطور المستمر فى كل أشكال المزيكا من لحن وكلمات وأداء وغيرها، لأن الأمر ليس فقط منافسة بيننا وبين بلاد أخرى، بل أصبح داخل مصر نفسها منافسة بين فئات متعددة: المغنون ومؤدو المهرجانات ومؤدو الراب.
وأضاف أن الحل أن نظل مستمرين ونعمل بجد ونطرح العديد من الأغانى، ويقدم المغنون أعمالاً كثيرة، حيث أصبح المشهد ضيقاً جداً فى السوق المصرى، فمثلاً نحن فى الصيف الآن مر تقريباً شهران إذا نظرنا سوف نجد أن الأغانى التى طرحت حتى الآن هذا الموسم تعد على أصابع اليد، أما فى الماضى فكان يطرح 30 و40 أغنية وجميعها ناجحة، فلابد أن يقدم الفنانون أغانى كثيرة ليسعدوا جمهورهم ولكى تستطيع مصر أن تنافس وتباهى بموهوبيها فى كل مكان.