23-9-2022 | 14:15
نانيس جنيدي
كثيرون هم من أمتعونا ورسموا الضحكة على شفاهنا وعاشوا هم أحزانهم خلف الشاشات دون أن يراهم أحد، ومن أكثر النجوم الذين صنعوا السعادة لجمهورهم، وجعلوا أعمالهم بمثابة مسكنات لهم على هموم الحياة هو النجم الراحل وأيقونة الكوميديا إسماعيل ياسين، الذى يعد أشهر من جمع بين الضحك والشقاء فى آن واحد، فقد كان يسعد جمهوره وفى قلبه ما لا يعلمه أحد. يرسم الضحكات على الملامح ويبكى وحيداً، فمنذ أن كان طفلاً تجرع طعم المعاناة بفقدان والدته التى كانت له بمثابة حائط الصد الذى يحول بينه وبين تقلبات الزمن وغدر الأيام، وحينما فقدها كشرت له الدنيا عن أنيابها وهو لا يزال غضاً لا يقوى على مجابهة الحياة لتبدأ رحلته مع الشقاء.
معاناة مبكرة
منذ أن رحلت سند «سمعة» الحقيقى فى الحياة والدته، توالت الصدمات من بعدها، حيث عاش الطفل مع والده الجواهرجى، والتحق بأحد الكتاتيب، وتابع فى مدرسة ابتدائية حتى الصف الرابع الابتدائى، ولكن محل الصاغة الخاص بوالده تعرض لخسائر كبيرة وأعلن إفلاسه نتيجة لسوء إنفاق الأب، الذى دخل السجن نتيجة لتراكم الديون عليه، فاضطر إسماعيل أن يترك دراسته وأن يعمل منادياً أمام محل لبيع الأقمشة، فقد كان عليه أن يتحمل مسئولية نفسه منذ صغره، وبسبب معاملة زوجة والده القاسية وخوفه الشديد منها فضل أن يهجر منزل والده ويبتعد ليعمل منادياً للسيارات بأحد المواقف بالسويس.
شوارع القاهرة
عندما أتم إسماعيل ياسين عامه الـ17 بدأ يفكر فى غده، فقرر الانتقال إلى القاهرة، خاصة أن بعض المحيطين به فى تلك الأثناء كانوا يؤكدون له أنه يمتلك صوتاً عذباً يؤهله ليكون مطرباً مشهوراً كالموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان «سمعة» يرى أنه يستطيع منافسته فى الغناء، لكن تلك الفكرة كان ينقصها المال، الذى يؤمن له رحلته، فقرر أن «يسرق» جدته، وكان يعرف أنها تحتفظ بأموالها داخل غطاء المرتبة، وعن ذلك المشهد يقول: «هي بتحوش بطريقة غريبة، بتفك خيط المرتبة وتحوش فلوسها، بالصدفة وقع في أيدي فلوس من تحويشتها وأخدتها ومشيت هربت على القاهرة عشان أدخل معهد الموسيقى.. هي مش مسرقة لكنها اقتباس».
واتجه بعد ذلك إلى القاهرة ليحترف الغناء، ويلتحق بمعهد الموسيقى، ولكن القدر لم يكن قرر بعد أن يضحك له فوجد المعهد مغلقاً فاتجه إلى منزل خاله ليقيم مع أبنائه الذين كانوا لا يختلفون كثيراً عمن قابلهم فى حياته، فتركهم بسبب معاناته منهم، وظل وقتاً طويلاً يتجول فى الشوارع؛ لأنه لم يكن يعرف أحداً فى القاهرة، ويبحث عن مكان للنوم، فكان يذهب للنوم فى مسجد السيدة زينب، وذلك حسب ما قاله فى لقاء تليفزيونى قديم.
مستشفى المجانين بأمر ملكى
بعدما بدأ إسماعيل ياسين العمل فى المونولوج وأصبح اسمه لامعاً وكان قد قرر القدر أن يمنحه فرصة للسعادة، جاء اليوم الذى يقف فيه أمام الملك فاروق، ولم يكن يقف فى هذا المكان إلا كبار النجوم، وكان ذلك فى أوائل الخمسينيات، إذ كان يؤدى «منولوج» أمامه، وقال: «مرة كان فى واحد مجنون زى حضرتك»، فغضب الملك، وقال له: «أنت بتقول إيه يا مجنون؟» فحاول إسماعيل أن يخرج من هذا المأزق بالتظاهر بالإغماء وسقط مغشياً عليه بالفعل لينجو من غضب الملك.
ولحظه السيئ الذى لم يفارقه طيلة حياته، أحضر الملك فاروق طبيبه الخاص لفحص إسماعيل ياسين، لكن الطبيب فهم ما حدث، فكتب تقريراً للملك أكد فيه أن إسماعيل ياسين تعرض لحالة عصبية سيئة دفعته ليقول ذلك، وأن هذه الحالة جعلته يفقد وعيه مؤقتاً، ونتيجة ذلك زج به «فاروق» فى مستشفى الأمراض العقلية، وبالفعل مكث فيها 10 أيام.
عزوف الجمهور
رغم النجاح الكبير الذى حققه إسماعيل ياسين، إلا أن مسيرته الفنية تعثرت فى العقد الأخير من حياته؛ وذلك بسبب اعتماده شبه الكلى على صديقه أبو السعود الإبيارى فى تأليف جميع أعماله مما جعله يكرر نفسه فى السينما والمسرح، وكذلك ابتعاده عن تقديم المونولوج فى أعماله الأخيرة والذى كان يجذب الجمهور إلى فنه، الأمر الذى أدى إلى عزوف الجمهور عن أعماله والملل منها، كما ظهر جيل جديد سحب البساط من تحت قدميه، فتراكمت الضرائب عليه وأصبح مديوناً.
آخر بطولاته.. وانحسار الأضواء عنه
يعتبر آخر فيلم قدمه إسماعيل ياسين كبطل هو «العقل والمال»، ولكن الفيلم لم يحظَ بنفس نجاحات أفلامه، لتتراجع أسهمه وتنحسر عنه الأضواء، وتتراكم عليه الديون نتيجة الحجز على عمارته، فحل فرقته عام 1966 وسافر إلى لبنان وشارك ببعض الأفلام من خلال أدوار ثانوية، منها «فرسان الغرام» مع مريم فخر الدين وفهد بلان، كما بلغ به الأمر للغناء فى مطاعم متواضعة فى لبنان لمواجهة متاعب الحياة وتقديم بعض المونولوجات مرة أخرى، حتى عاد إلى مصر بعدها محطماً وقبل بأدوار صغيرة لا تليق بتاريخه.
الكلمة الأخيرة
كان حجز الضرائب على ثروته من المواقف العصيبة التى لم يتحملها، فقرر إسماعيل ياسين أن يخرج عن صمته ويكتب خطابه الأخير، وهو الخطاب الأكثر حزناً فى حياة ملك الكوميديا، الذى صال وجال، ورفعه الزمن لقمة المجد وأنزله لقمة الحزن والأذى النفسى، وكان الخطاب بعنوان: «مش دى تكون نهايتى أبداً»، حيث اشتكى الفنان الراحل إسماعيل ياسين، من معاناته فى نهاية حياته من قلة العمل والتجاهل، الأمر الذى دفعه للعودة للعمل كمونولوج فى أحد الملاهي الليلية، وقال إسماعيل ياسين فى خطاب كتبه إلى وزير الثقافة فى ذلك الوقت، بدر الدين أبوغازى: «أنا أربعين سنة شغل وتعب وجهد، مثلت 400 فيلم، وعملت 300 مونولوج، ومثلت 61 مسرحية، كنت عامل زى الدوا للإنسان المهموم عشان أضحكه وأنسيه همه وغمه.. مش دى تكون نهايتى أبداً».
وتابع: «الناس تنسى ده كله ويفتكروا إن أنا فى آخر أيامى رجعت اشتغل فى كباريه، طب أعمل إيه؟.. أعمل إيه؟!، أنا أربعين سنة جهد ما أخدش شهادة تقدير ولا حتى ميدالية صفيح، بالعكس كل مليم حوشته فى حياتى اتاخد منى فى الضرائب، ومقلتش حاجة.. مش دى تكون نهايتى أبداً».
تكريم لم يتم
وبينما كان الرئيس السادات يفكر فى تكريمه، فقد وافته المنية فى 24 مايو 1972 إثر أزمة قلبية حادة، قبل أن يهنأ بالتكريم وكأن القدر عانده وحال بينه وبين الفرح فى أواخر أيامه.
شائعات وأكاذيب
لم تكن فقط الأزمات هى ما قضت مضجع «أبو ضحكة جنان»، بل إن الشائعات نالت منه ما نالت وكأنها كانت على اتفاق مع عراقيل الحياة ألا يهنأ له بال، فأشيع عنه أنه مات مفلساً ولكن هذه الشائعة ليست حقيقة، فعلى الرغم من حجز الضرائب على جزء كبير من ثروته، وتأثره بذلك مادياً بشكل كبير، إلا أنه لم يصل لدرجة الإفلاس، بل كان يعيش داخل فيلا عبارة عن شقتين كبيرتين فى عمارة ضخمة، وعندما تأثرت حالته المادية اضطر إلى أن يبيع إحداهما، أى أنه كان يعيش فى آخر أيامه فى مكان محترم وشقة كبيرة تتكون من 7 غرف، وليس مفلساً كما أُشيع، وعلى الرغم من أن عمله تأثر أيضاً إلا أنه لم يتسول من أحد كما أشيع عنه بل كان لديه ما يكفيه ويكفى أسرته.