«قومى إليكى السلام يا أرض أجدادى..عليكى منا السلام يا مصر يا بلادى»..لا شك أن الأغنية الوطنية المصرية أرَّخت لجميع الأحداث التى مرت بها مصر على مدار سنوات طويلة، وكانت بمثابة شعلة لهيب توقد جذوة حماس المواطنين للدفاع عن أرضهم كل العصور، وكان لها ومازال دور مهم فى شحذ الهمم والعزائم وبث روح الأمل وتأصيل حب الوطن وتربية وتنمية الروح الوطنية فى نفوس مختلف الأجيال، من منا لا يحفظ نشيد سيد درويش «بلادى بلادى.. لكى حبى وفؤادى»، وأغنية «مصر التى فى خاطرى وفى دمي أحبها من كل روحى ودمى» لأم كلثوم، وأغنية عبدالحليم حافظ «أحلف بسماها وبترابها» وأغنية «إحنا الشعب»، كما قدم عبد الوهاب ملاحم غنائية وأوبريتات رائعة بمشاركة مجموعة من نجوم الطرب مثل «عاش الجيل الصاعد»، «صوت الجماهير»، «وطنى حبيبى»، وغيرها من الأغانى الوطنية الشهيرة التى يحفظها الشعب المصرى حتى الآن وأصبحت خالدة فى ذاكرته، هذا بخلاف الأغانى الوطنية الشبابية الحديثة، حيث تعتبر مصر من أكثر الدول التى تمتلك أغانى وطنية، لذلك توجهت «الكواكب» بسؤال لمجموعة من النقاد الموسيقيين وأساتذة الموسيقى حول أهمية الأغنية الوطنية ودورها فى خدمة الوطن، تطالعون آراءهم فى السطور التالية..
يرى الناقد الفنى أحمد السماحى، أن تاريخ الأغنية الوطنية طويل جداً وكانت البداية مع ثورة 1919، وقبلها لم نعرف ولم يحفظ لنا التاريخ الغنائى أغنيات وطنية، حيث كانت ثورة 1919 بعثاً جديداً للعزيمة المصرية والإرادة المصرية القوية التى لا تقهر أبداً.
وأكد أن الفن والفنانين قد خاضوا هذه المعارك الدامية، وانطلق الفن والغناء متحدياً أسلحة الإنجليز، وانفعل شعب مصر بسبب الفن ضد الاحتلال، ومن أجل حياة جديدة فاضلة وكريمة، ولم يأخذ انفعال الشعب شكل المظاهرات فقط، ولا شكل الصراع المسلح ضد الاحتلال فقط، ولكن الشعب فى تلك الأيام كان يغنى فى كل المظاهرات وكل التجمعات، كان يغنى بنسائه ورجاله، وكان يغنى بفتيانه وبناته، وفى تلك الأيام كان ينطلق من بين الجميع أى صوت مجهول يتميز بالعذوبة والجمال ليقود الجماهير وهى تغنى.
وتابع: كان ملحن هذه الانتفاضة الغنائية هو سيد درويش، الذى كان يلتقط ألحانه الحقيقية من واقع الناس المنفعلة الثائرة، ويحمل عوده ويركب «حنطوراً» ويقود المظاهرات بهذا العود الوطنى الجميل النبيل، كان الشيخ سيد يعزف ويغنى والناس من ورائه يرددون ما يغنيه.
لا تقول نصرانى ولا يهودى ولا مسلم
يا شيخ أتعلم اللى أوطانهم بتجمعهم
عمر الأديان ما تفرقهم
وفى إحدى مسرحياته رددت مصر كلها فى الشوارع:
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك
خد بنصرى نصرى دين واجب عليك
وأضاف السماحي: كان طبيعياً أن يكون أهل الفن فى مصر من أسبق المواطنين إلى مكافحة الاحتلال الأجنبى، وإلى الثورة ضد الطغيان، وذلك لأن الفن فى أى زمان وأى مكان من لوازمه الحرية الكاملة، ولا حياة له إلا بها، ولأن الفنان بطبيعة عمله أرهف حساً.
وأردف قائلاً: بعد ثورة 19 واكبت الأغنية الوطنية كل تحديات وأفراح مصر عبر حروبها، واستمعنا إلى أعذب الأناشيد الوطنية مع ثورة يوليو 1952، وحزنت الأغنية الوطنية وتكللت بالسواد مع هزيمة يونيو عام 1967، وعادت وزغردت وارتدت أجمل الألوان مع نصر أكتوبر العظيم، وظلت الأغنية الوطنية تواصل مشوارها مع أفراح أعياد تحرير سيناء وعودة طابا وأيضاً فى حرب مصر ضد الإرهاب.
واستكمل: الذاكرة المصرية حفظت العديد من الروائع الوطنية الخالدة التى لن تموت وستظل باقية بقاء النيل وخلود الأهرامات مثل «قوم يا مصرى»، «مصر تتحدث عن نفسها»، «يا صوت بلادنا»، «النيل الخالد»، «الله يا بلدنا الله على جيشك والشعب معاه»، «بالأحضان»، «حكاية شعب»، «بلدى أحببتك يا بلدى»، «أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد»، «المسيح»، «عدى النهار»، «قومى يا مصر»، «مصر اليوم فى عيد»، «تسلم الأيادى»، وغيرها.
فيما علق الدكتور شريف حمدى الأستاذ بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان قائلاً: قبل أن نتحدث عن الأغنية الوطنية دعونى أذكركم أنه قديماً كان لابد من وجود فرقة موسيقية تسير خلف الجيش تقرع الطبول لتنظم الصفوف، وأيضاً لتنظم خطوات الخيول، وتلهب المشاعر عن طريق دق الطبول، وبالتالى يكون دائماً الجيش فى حالة إقبال للأمام .
وأكد أن الأغنية الوطنية المستخدمة تلهب الحمية مع كلمات حماسية تشحذ الهمم للجنود، وكذلك تشد من عزم الشعب، ليصبر ويواجه الصعاب التى يتعرض لها أثناء الحروب.
وأوضح د. حمدى أن دور الأغنية الوطنية ظهر فى حقبة الاحتلال الإنجليزى لمصر، حيث قدم السيد درويش روائع خالدة مثل «قوم يا مصرى»، «يا بلح زغلول» التى غناها دعماً لثورة سعد باشا زغلول سنة 1919 ضد الإنجليز.
وتابع: بعد فترة من الزمان تأتى حرب 1967 وما واكبها، وتلاها من أغانٍ تحاول تضميد جراح المصريين مثل أغنية «عدى النهار» لعبد الحليم حافظ لحن بليغ حمدى، وأغنية «دوس على كل الصعب وسير» لأم كلثوم لحن رياض السنباطى، بالإضافة إلى أغنية أم كلثوم «حبيب الشعب» لحن رياض السنباطى، والتى جاءت لتجديد البيعة للزعيم جمال عبد الناصر عقب خطاب التنحى الذى أعلن فيه الهزيمة وانضمامه إلى صفوف المواطنين وتخليه عن الحكم، ومن أهم الملحنين الذين سجلوا هذه الفترة بألحانهم محمود الشريف، كمال الطويل، محمد الموجى، وعبد العظيم محمد وغيرهم.
وأردف قائلاً: ثم أتت حرب أكتوبر وما رافقها من ثورة غنائية عظيمة فى الأغنية الوطنية، حيث ظهر على إسماعيل ظهوراً واضحاً بمجموعة من الألحان التى تعيش فى الوجدان حتى الآن، ونذكر منها نشيد «رايات النصر»، ومحمد عبد الوهاب أيضاً الذى قدم «الوطن الأكبر»، وكذلك محمد الموجى الذى قدم «أغلى اسم فى الوجود»، أما عن بليغ حمدى فقد أقام إقامة كاملة داخل مبنى التليفزيون أثناء حرب 1973؛ ليقدم لنا «وأنا على الربابة بغنى» للفنانة وردة و«عاش» لعبد الحليم حافظ.. كل هذه الأغانى محفورة فى وجدان الشعب المصرى.
وأضاف متحدثاً عن أكثر الأغانى التى تؤثر فيه شخصياً، قائلاً: أغنية «أم البطل» التى قدمتها الفنانة شريفة فاضل من كلمات صديقتها الشاعرة نبيلة قنديل وألحان على إسماعيل، والتى عبرت فيها عن مشاعرها بعد فقدان ابنها الشهيد البطل فى حرب 73، وذلك بعد وفاته ببضعة أشهر، وأتذكر أن هذه الأغنية دخلت جميع البيوت وتأثر بها الشعب بأكمله لأنها تواكب حالة واقعية حقيقية.
واختتم بالقول: هكذا عبرت الأغنية الوطنية، بل سجلت ودونت مراحل تاريخية فارقة فى حياة الوطن، وستظل الأغنية الوطنية باقية تحمل فى طياتها ذكريات تمتزج فيها مشاعر الفخر بالنصر والحسرة على الأبطال الشهداء والدماء التى بذلت فى سبيل أرض الوطن.
من جانبه أكد الناقد الموسيقى الأستاذ الدكتور أشرف عبدالرحمن، أن مصر تملك أكبر عدد من الأغانى الوطنية خلال القرن العشرين، ولا توجد دولة على مستوى العالم تملك هذا العدد، وهذا بدأ مع ثورة 1919 عندما ظهر سيد درويش وعمل كل الأغانى الوطنية التى مازلنا نرددها حتى الآن، وكانت الأغنية بالنسبة لثورة 1919 الأيقونة، أو بمعنى أصح تمثل «سوشيال ميديا» هذا الزمان، مشيراً إلى أن سيد درويش عندما أراد التوجه لمشكلة الفتنة الطائفية ومعالجتها، اتفق مع بديع خيرى على مواجهتها من خلال الفن والغناء وأن يقضوا على هذه الفتنة، وقالوا: «إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود.. دى العبارة نسل واحد مـ الجدود».
ولديه عدة أغانٍ أخرى تتناول هذا الموضوع كما غنى «أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا» و«قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك» و «بلادى بلادى.. لكى حبى و فؤادى» بخلاف أغانى الطوائف التى قدمها لكى يحث كل طائفة على العمل من أجل مصر، وغنى لكل طائفة فى المجتمع.
وتابع: كان للأغنية الوطنية سنة 1919 دور كبير، فلم تكن هناك سينما ولا تليفزيون ولا سوشيال ميديا، وكان سيد درويش مع مجموعة من المثقفين يتجمعون ويغنون تلك الأغانى الحماسية، وكانت تنتشر بشكل كبير وترفع من روح المواطنين، لذلك سيد درويش هو أيقونة ثورة 1919، وكان أكثر تأثيراً من خطب الزعماء والمقالات التى تكتب فى حب الوطن.
وأضاف: سنة 1947 غنى محمد عبدالوهاب «حق الجهاد وحق الفدا» دعماً للقضية الفلسطينية حينذاك، وبعد ثورة 1952 أخذت الأغنية الوطنية منحى آخر، وأصبحت أكثر انتشاراً ودورها أكثر أهمية، وأصبحنا نمتلك كماً كبيراً من الأغانى الوطنية التى أرَّخت كل الأحداث السياسية التى مرت بها الثورة، وكان أيقونة الثورة عبدالحليم حافظ الذى جمع مبادئ الثورة كلها فى أغنية واحدة «ثورتنا المصرية مبادئها الحرية وعدالة اجتماعية ونزاهة ووطنية».
وكان عبدالحليم أكثر مطرب حينها يؤرخ لكل الأحداث حتى أثناء هزيمة 1967 غنى «عدى النهار» الأغنية بها حزن وقوة، ثم كان دائماً يبدأ حفله بصيحة «أحلف بسماها وبترابها» وكانت هذه الأغنية من أهم الأغانى التى ترفع من الروح المعنوية عند العرب، بما بها من عزيمة وإصرار على النصر، حيث كان يتغنى حليم للعرب جميعاً، وبعد النصر العظيم سنة 1973 غنى «عاش العرب» ولم يقل «عاش المصريين» لأنها كانت قضية عربية، لذلك الأغنية الوطنية وحدت الوطن العربى كله على قلب رجل واحد، وقدم كثير من المطربين عديداً من الأغانى الوطنية أثناء العدوان الثلاثى على مصر و1973 تميزت الأغانى بالبهجة والفرح.
واستكمل: وغنى حليم آخر أغنية وطنية له عام 1975 أثناء افتتاح الملاحة «النجمة مالت على القمر فوق فى العلالى»، وبعد 1977 أخذت الأغنية الوطنية اتجاهاً آخر، حيث لم تعد هناك قضية يجمع عليها الوطن العربى، وأصبحت الأغنيات الوطنية تتلخص فى أغانٍ فى حب مصر فقط، وظهر الفنان محمد ثروت وغنى لذكرى أكتوبر العظيم، وأيضاً كانت الأوبريتات الوطنية، وأصبحت كل الأغانى فى حب الوطن