السبت 4 مايو 2024

لم ترحل فقيرة ولكن حزينة الضاحكة الباكيـــــــة زينات صدقى

زينات صدقي

24-11-2022 | 10:18

ولاء جـــمـــــــال


ظلت  زينات صدقى .. تلك الفنانة العظيمة محتفظة بكل ذرة صدق تخص فنها وتاريخها وكرامتها ولم تتنازل أبدا ولو بمجرد الكلمة  عن قيمتها الفنية والإنسانية  الفريدة بل ظلت تعطى دون أن تطلب، حتى مع بقائها عشرين عاما بلا عمل أوسؤال من أحد عنها .. زينات «الضاحكة الباكية».. كانت أدوارها ثانوية وليست بطولة مطلقة ولكن الصورة الذهنية لها عند الجمهور مرتبطة دائما بأعمالها وقيمتها الحقيقية حتى وإن كانت المساحة أصغر بكثير من كفاءتها وقدراتها ،أدوارها تأخذ بريقا خاصا من صدقها وطبيعتها لأن هذه مكافأة إنسانية لا علاقة لها بالمقاييس التقليدية ولا بزمن العمل، ليظل يعرض ويشاهد وكأنها أول مرة دون ممل، وهذه هى الأشياء التى لا تقدر بأموال.

البداية
ونبدأ رحلة حياة زينات صدقى من هناك من الإسكندرية، واسمها الحقيقى زينب محمد سعد صدقى المولودة فى حى الجمرك بالإسكندرية فى ٤ مايو سنة ١٩١٣ حصلت على الشهادة الابتدائية وخاف عليها والدها لأنها كانت شديدة الجمال فمنعها من أن تكمل تعليمها، وجلست فى منزلها في انتظار الزوج الذى جاء سريعا إذ تزوجت طبيبا لأول مرة عندما كانت فى ال١٥ من عمرها من أحد أقاربها ولكن لم تكمل الزيجة ١١ شهرا وانفصلت عنه.
بدأت تشارك صديقتها خيرية صدقى الغناء فى الأفراح الشعبية بالإسكندرية،  ولكن عائلتها عارضت عملها بالفن كسائر الفنانات والفنانين فى هذا الزمن، وأمام هذا الحصار قررت الهروب إلى لبنان برفقة والدتها وصديقتها وهناك ذاقت طعم الغناء لأول مرة حتى أصبح لها أغانيها الخاصة، واشتهرت بأداء «المونولوج» ووضعت لنفسها مونولوجا تتغنى فيه باسمها وبمصريتها.
تعرفت زينات على  بديعة مصابنى فى لبنان وطلبت منها العودة إلى مصر وأن تعمل فى الكازينوالذى كانت تمتلكه بديعة وتديره وكانت تريد أن تستكمل مشوارها الفنى إلا أن بديعة مصابنى اختارت لها الرقص إلى جانب تحية كاريوكا وسامية جمال فلم تجد أمامها إلا الموافقة.


  اكتشاف
وفى إحدى المرات كان يجلس نجيب الريحانى عند بديعة مصابنى وسمع زينات تغنى من وراء الكواليس أثناء هزارها مع أصدقائها فأخذها منها حتى أن بديعة قالت له «كل ماتيجى تاخد حد من الفرقة».
وأصبحت زينات صدقى فى فرقة الريحانى واكتشفها من خلال التمثيل وأبهرت الجميع بأداء كوميدى مبهر ثم فتح أمامها أبواب السينما بعد أن قدمها في فيلم «بسلامته عايز يتجوز» وهومن أطلق عليها اسمها الفنى زينات صدقى وانطلقت بعدها وقدمت اكثر من ٤٠٠ فيلم من أشهرها «ابن حميدو، حلاق السيدات، شارع الحب ،عريس مراتى ،السيرك».. وغيرها من الافلام الكثير وكان آخر آخر أفلامها بعنوان «بنت اسمها محمود».
زينات كانت قد أخذت قرارا بألا تكرر تجربة الزواج ولكنها تزوجت للمرة الثانية من أحد الضباط الأحرار وتم أيضا الطلاق لأنه طلب منها أن تترك الفن.


ارتجال
كانت زينات صدقي مبدعة فى ارتجال الحوار من دون سيناريو لدرجة أنه أحيانا كان المخرج يحكى لها الموقف وهى ترتجل كلامه كاملا فكل تلك العبارات واللزمات التى أحببناها وما زالت محفورة فى أذهاننا هى من تأليف زينات صدقى وتخصها وحدها مثل «إنسان الغاب طويل الناب، ووارد افريقا وكل تلك الإفيهات،  فقد كان لديها القدرة المذهلة والبكارة والرغبة فى إسعاد الناس، كانت شيئا بديعا، تبدع فى كل تفاصيل أعمالها ..حتى إكسسواراتها هى التى كانت تبتكرها بنفسها وكذلك هى التى اخترعت القبعة التى تربى فيها كتاكيت وفقا للإفيه الشهير « كتاكيتوبنى». 
نوادر
ومن النوادر فى حياة زينات صدقى وعلاقاتها بزملائها الفنانين  أن كانت هند رستم تسبب الغضب الشديد  للمخرج «فطين عبدالوهاب» وإسماعيل ياسين أثناء تصويرهم لفيلم «ابن حميدو» حينما كانت تنتابها نوبات الضحك بسبب زينات صدقى والتى كانت مشهورة بالارتجال والتى لعبت دور شقيقتها بالفيلم .. وقالت هند فى لقاء لها : «فى أحد مشاهد الفيلم التى جمعتنا لم أستطع أن أكمل الحوارلأننى كنت أنفجر بالضحك، وأعدنا المشهد حوالى عشر مرات ، فقد كانت زينات صدقى تفاجئنى كل مرة بجملة جديدة من ابتكارها تضيفها إلى الحوار الأصلى من دون أن نكون متفقين عليها، وفى إحدى المرات قالت یعنی هافضل طول عمرى من غير جواز يا اخواتی؟! دا حتى مش كويس أبدا على عقلى الباطن .. وأنا سمعت جملة « عقلى الباطن»  وانفجرت من الضحك.
كما  أن زينات صدقى هى صاحبة أهم درس فى حياة أحمد رمزى الممثل، فقد علمته كيف تكون التلقائية وأن المتفرج أوالمشاهد يحب أن يشاهدنا على طبيعتنا ويكره التكلف ،الطبيعية هذه ظلت هى العامود الفقرى لموهبة أحمد رمزى منذ بدايته حتى نهايته فلا تشعر به أبدا يمثل وهذا كان درسا من فنانة عظيمة مثل زينات صدقى.
قيثارة المسرح
اما نجيب الريحانى..  فكان يسمى زينات صدقى قيثارة المسرح، وكمانجة المسرح وقد حزنت عليه حزنا شديدا عندما مات،  فنجيب الريحانى هومن وفّر لها شقة فى شارع عماد الدين  وكانت هذه الشقة هى وش السعد عليها فكل زملائها كانوا من سكان نفس العمارة ، ففى الطابق الأخير عاشت الفنانة نجمة إبراهيم وفى الطابق الأسفل عاش إسماعيل ياسين وثريا حلمى وفى نفس الطابق عاش عبدالسلام النابلسى، وكان الجميع على ارتباط وجدانى بالفنان نجيب الريحانى.
وجميعهم انتلقوا إلى أماكن أخرى إلا هى وذات مرة قال لها إسماعيل ياسين: «يازينات ما تيجى الزمالك زينا وتسيبى عماد الدين» ولكنها رفضت وأصرت ألا تترك شقتها .
ومات نجيب الريحانى تاركا زينات صدقى فى حالة حزن  وعلى الرغم من ارتباطها بعدد من الأفلام فإن زينات صدقى ظلت ما يقرب من شهر من دون عمل حزنًا على رحيل الريحانى، لم ينجح فى إخراجها من هذه الحالة سوى سليمان نجيب، الذى قال لها: «يا ستى أنا حزين أكتر منك، الله يرحمه كان صاحبى وأخويا وصديقى، وعمرى ما كنت أتخيل وأنا بعمل قدامه دور الباشا فى «غزل البنات» إن دى آخر مرة هشوفه فيها، وآخر فيلم هنشتغله سوا... بس دا قضاء الله ولا اعتراض على قضائه».
نصيحة
ووجه سليمان نجيب نصيحة للفنانة زينات صدقى قائلا: «لازم تعرفى إن نجيب الريحانى ما كنش بيشتغل لوحده فى المسرح أو السينما الفنان لما بيشتغل بيفتح بيوت جيش جرار وراه، يعنى إذا كان هو بيستفيد قيراط، فيه غيره بيستفيدوا أربعة وعشرين قيراط، علشان كدا الفنان لازم يشتغل مهما كانت الظروف... مهما مات لنا عزيز، نحزن فى قلوبنا، لكن لازم نشتغل علشان غيرنا».
 تكريم
وعن تكريمها من قبل الرئيس الراحل محمد أنور  السادات قالت إحدى قريباتها المقربات لها جدا وتدعى  عزة : إنها قبل التكريم بفترة كانت موجودة فى فرح ابنة الرئيس بدعوة منه، وجلست على مائدة السادات، ومعها أمى وقرينة الرئيس، ثم ذهبت لتهنئ الرئيس، لكن قدمها اصطدمت بقدم أختها، فاندفعت تجاه الرئيس الذى سندها.
وقالت لوالدتى تعليقاتها المعتادة، وظل الرئيس يضحك كثيرا بسبب كلماتها، وأعطاها رقمه الخاص، وقالت له أمى إن زينات توقفت عن العمل، فصرف لها معاشا استثنائيا، وجاء بعد ذلك مباشرة عيد الفن عام 1976.
ولم تكن من المكرمين، فسأل الرئيس عنها، وطلب البحث عنها لكى تأتى ليكرمها، وأعطى لها مكافأة لم تلتفت لقيمتها المادية، بل إلى قيمتها المعنوية التى أخرجتها بعض الشىء من حزنها الشديد بعد تجاهل زملائها السؤال عنها فى محنتها المرضية التى طالت قلبها وأصابته بالعلل.
شائعات 
لم يكن حقيقيا كل ما قيل عن زينات صدقي أنها باعت أثاث منزلها والحقيقة أنها باعت فقط مصوغاتها وبعض التحف الغالية بعد أن ربطت الضرائب عليها مبلغ ٢٠ ألف جنيه إذ تعرضت وقتها لأزمة مالية ولكنها كانت ميسورة الحال وفى حياتها وطيلة عمرها لم تطلب من أحد المساعدة لا الفنية ولا المادية حتى فى ظل تناسي المخرجين لها مدة طويلة لم ترفع سماعة التليفون على أحدهم وفى آخر فيلم لها بنت اسمها محمود ندمت وقررت ألا تعمل مرة أخرى  إلا إذا كان شيئا يليق باسمها لأنها رأت معاملة مختلفة لم تعجبها .
وزينات لم تنجب ولكنها هى التى قامت بتربية أولاد ابنة اختها «طارق وعزة» وتكفلت بكل مصاريفهم وجهزت عزة التى مازالت إلى  الآن تعيش فى شقة زينات صدقى فى عابدين وكانت كلماتها الشهيرة دائما «كتاكيتوبنى»تقصد بها طارق وعزة 
تتذكر عزة أنه فى إحدى المرات كانت عائدة هى وزينات صدقى حيث كانت اشترت لها جهازها وفى الطريق قابلت بنتا تتجهز هى الأخرى يتيمة فأعطت زينات للبنت نصف جهاز عزة وقالت لها : «متزعليش بكرة هجيبلك غيره»
كذلك فى إحدى المرات كانت عزة تسير فى شارع عماد الدين فقابلت سيدة تجلس  على الرصيف ولا تعرفها وعندما تكلمت معها قالت لها «يابنتى أنا فاطمة رشدى» وعندما عادت عزة إلى  البيت روت لزينات صدقى ما رأته فانزعجت زينات بشدة وأخذت عزة وقالت لها «ورينى فين» وذهبت وأخذت فاطمة رشدى عندها أسبوع فى البيت إلى  أن دبروا لها  سكنا مستقلا.
 زينات الإنسانة
ومن أكثر المواقف الإنسانية كذلك لزينات صدقى أنه فى إحدى المرات توفى زميل لهم على المسرح أثناء مسرحية لإسماعيل ياسين وعندما انتهى العرض سألوا عن أهله فلم يكن له أحد وكانت زينات صدقى قد اشترت مدفنا لها وللعائلة، ووقفت زينات على المسرح بعد انتهاء العرض وقالت للجمهور زميلنا توفى وأرجو منكم الدعاء له، وجمعت الفرقة وكل من كان حول المسرح على المقاهى ليسيروا فى جنازته وقامت بدفنه فى مدفنها الخاص وكان هذا الممثل هو إبراهيم جكلة ملحن وهو من قام بتلحين أغنية أبو الفصاد ومن هنا أطلقوا عليها شائعة أنه زوجها وبعد ذلك طلب منها أحدهم أن والده لم يكن له مدفن وفقير ولايعرف أين يدفنه فقامت بدفنه أيضا واعترض أهلها وقالوا لها كيف ندفن مع هؤلاء فأصرت أن يفتح مدفنها كصدقة جارية لكل فقير وكتبت عليها مدافن للصدقة ووصت التربى بذلك وبعدها فتحت سبيل ماء بجانب المدفن كتبت على الماء لا تنسوا الدعاء لزينب محمد سعد اسمها الحقيقى ومن هنا أطلق الناس عليها شائعة انها دفنت بمدافن الصدقة والفقراء .. لكنها ليس كما يشاع عنها بأنها ماتت فقيرة أومعدمة، هى فقط  كانت حزينة  أنها ابتعدت عن الفن.
وكانت زينات صدقي تشترى المصاحف وتحب أن توزعها على كل من يزورها، كانت سيدة تقف إلى  جانب الكبير والصغير ولها أخلاق كريمة وعزة نفس وظلت هكذا إلى أن رحلت ٢مارس عام ١٩٧٨.