«شغلتك على المدفع بررم يا عسكري؟» من منا يستطيع نسيان أشهر إفيهات الشاويش عطية والتي تربى عليها جيل كامل وربما أجيال، هو عملاق الكوميديا المبدع الراحل رياض القصبجي، وُلد في 13 سبتمبر عام 1903 بمدينة «جرجا» بمحافظة سوهاج، كثيراً ما نشاهد نجوم الكوميديا بأفشات الأعمال وخفة الظل فنقول هنيئاً لهم حياةً رغدة خالية من الهموم، ولكن ليس كل ضاحك معاف من الألم، ولعل قصة رياض القصبجي خير دليل على ذلك.
لم يحظ القصبجي بأي قدر من التعليم ولكنه رغم ذلك حرص على تعلم القراءة والكتابة، بدأ حياته العملية كمسرياً بالسكة الحديد ولكن حلم التمثيل كان يداعبه منذ نعومة أظافره، فالتحق بالفرقة المسرحية الخاصة بالسكة الحديد، ولكونه فناناً بالفطرة، فقد برز بين أعضاء الفرقة بل وأصبح ألمعهم حتى نصحه أحد أصدقائه بالاحتراف.
كانت نشأته في سوهاج وفي هذا الوقت كان الثأر من الأمور المعروفة في هذه المنطقة وبالفعل كان لابد من أن يواجه مصيره، فكان عليه ثأراً وإن استسلم فالثمن سيكون حياته أو يصبح مجرماً فكان بين أمرين إما أن يكون قاتلاً أو مقتولاً حتى ألهمه الله بالهرب إلى الإسكندرية وسكن في المنزل المواجه لمنزل ريا وسكينة.
ولكن حلم التمثيل لم يبح تفكيره فقرر تنفيذ نصيحة صديقه والانتقال إلى القاهرة، وهناك انضم لفرق مسرحية عديدة منها فرقة الهواة وفرقة أحمد الشامي وفرقة علي الكسار وفرقة جورج ودولت أبيض وأخيرا فرقة إسماعيل ياسين المسرحية.
ومنها انتقل القصبجي إلى الاحتراف الحقيقي والعمل بالسينما وقدم العديد من الأعمال الناجحة ومنها: سر الدكتور إبراهيم - سلامة في الخير، سلفني 3 جنيه، ألف ليلة وليلة، عايدة -علي بابا والأربعين حرامي - بحبح في بغداد، أحمر شفايف - أرض النيل - الطائشة - المغني المجهول - راوية - سر أبي - شهرزاد - عودة طاقية الإخفاء - عدو المرأة - لست ملاكا - لعبة الست، البوسطجي - الريف الحزين - العقاب – الواجب – اليتيمتين – أميرة الجزيرة - بلبل أفندي - حب وجنون - صاحبة العمارة - عنبر - ليلى العامرية - ليت الشباب، كما شارك اسماعيل ياسين عدداً كبيراً من أعماله ومنها: الآنسة حنفي – مغامرات إسماعيل ياسين – إسماعيل ياسين في الجيش – إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة، إسماعيل ياسين في البوليس، اسماعيل ياسين في الأسطول - إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات، إسماعيل ياسين بوليس حربي - إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين - إسماعيل ياسين للبيع، وإسماعيل ياسين في الطيران - إسماعيل ياسين بوليس سري – العتبة الخضراء.
جمعت صداقة قوية بين كلا النجمين وعشرة لسنوات طويلة حتى بدأت الحالة الصحية للقصبجي في التدهور، وهنا علق نجل القصبجي عن موقف اسماعيل ياسين من والده وقال: الفنان إسماعيل ياسين لم يزر أبى فى مرضه ولو مرة واحدة رغم أن أبى أصيب بالشلل النصفى وظل لسنوات يعانى المرض، وجاء له أغلب نجوم جيله والأجيال الأخرى، والمخرج نور الدمرداش وكل أبناء الليثى وتوفيق الدقن، أما فريد شوقى فكان يأتى إلينا فى المنزل بكل ما لذ وطاب من الطعام، لدرجة أن والدتى كانت «توزع» هذا الطعام على الجيران،
وتابع: «أتذكر عدداً من اللقطات في مشوار والدي، منها اصطحابي لعيد ميلاد ياسين نجل الفنان إسماعيل ياسين، والبندقية التي اشتراها له في عيد ميلاده، كما أتذكر دموع والدي وهو حزين على جحود إسماعيل ياسين تجاهه، فلم يزره في سنوات مرضه ولو لمرة واحدة.
عانى الفنان رياض القصبجي ليس فقط من جحود الأصدقاء بل أيضاً من المرض، وضيق ذات اليد فقد أصيب بشلل نصفي في الجانب الأيسر بسبب ارتفاع ضغط دمه، أثناء تصوير فيلم «أبو أحمد» بطولة الفنان فريد شوقي، وظل طريح فراشه حتى وفاته، ورغم مشاركته فى أكثر من 100 فيلم، كان دخله فى السنة لا يزيد عن 25 جنيهاً، ينفق منها على أسرته وعلى تعليم ابنه فتحى الذى كان طفلا فى المدرسة وقتها، وبعد أن أقعده المرض ساءت أحواله المادية خاصة مع حاجته للعلاج، وعاش فقيرًا حتى وفاته.
أما عن مواقف بعض النجوم معه فنذكر موقف العظيم نور الشريف والذي أراد أن يدعمه فعرض عليه العمل معه في إحدى مسلسلاته، وتجسيد دور عمدة مشلول يحرض أبناءه على الأخذ بالثأر، وبعد أن ذهب للتصوير مع زوجته، سمع تهامس العاملين عليه، انخرط في البكاء، وطلب من زوجته أن تصطحبه إلى المنزل رافضًا البقاء.
ثم نقل إلى المستشفى ولم يستطع أيضا سداد مصروفات العلاج وفي أبريل عام 1962 كان المخرج حسن الإمام يصور فيلم 'الخطايا' الذي ينتجه عبد الحليم حافظ، وأرسل حسن الإمام إلى الممثل رياض القصبجي للقيام بدور في الفيلم، كان حسن الإمام قد سمع بأن رياض القصبجي قد تماثل للشفاء بعد الشلل الذي أصابه وأنه بدأ يمشي ويتحرك، فأراد أن يرفع من روحه المعنوية وكان الدور مناسبا جدا له.
حضر القصبجي إلى الاستوديو ودخل البلاتوه مستندا على ذراع شقيقته وتحامل على نفسه ليظهر أمام العاملين في البلاتوه أن باستطاعته أن يعمل.. لكن حسن الإمام أدرك أن الشاويش عطية ما زال يعاني وأنه سيجهد نفسه كثيرا إذا ما واجه الكاميرا فأخذ يطيب خاطره ويضاحكه وطلب منه بلباقة أن يستريح وألا يتعجل العمل قبل أن يشفى تماما وأنه أرسل إليه لكي يطمئن عليه. لكن الشاويش عطية أصر على العمل وتحت ضغط وإلحاح منه وافق حسن الإمام على قيامه بالدور حتى لا يكسر بخاطره.
وقف الشاويش عطية يهيئ نفسه فرحا بمواجهة الكاميرا التي طال ابتعاده عنها واشتياقه إليها ومضت لحظة سكون قبل أن ينطلق صوت الكلاكيت وفتحت الكاميرا عيونها على الشاويش عطية الذي بدأ يتحرك مندمجا في أداء دوره.. وفي لحظة سقط في مكانه! وانهمرت الدموع من عينيه الطفولتين وهم يساعدونه على النهوض ويحملونه بعيدا عن البلاتوه، وعاد إلى بيته حزينا وكانت تلك آخر مرة يدخل فيها البلاتوه وآخر مرة يواجه فيها الكاميرا!
بعد عام من هذا اليوم كتبت كلمة النهاية وأسدل الستار على حياة نجم الكوميديا عزيز النفس، لفظ رياض القصبجي أنفاسه الأخيرة عن عمر 60 عاما بعد أن قضي سهرة الوداع مع عائلته وتناول خلالها الطعمية واستمع إلى صوت أم كلثوم الذي يعشقه عبر الإذاعة ولكي تكتمل فصول مأساة رياض القصبجي التي بدأت بالتهام المرض لجسده العريض انتهت بأن أسرته لم تجد ما يغطي تكاليف جنازته وظل جسده مسجّى في فراشه ينتظر تكاليف جنازته ودفنه حتى تبرع بكل هذه التكاليف أحد المنتجين.