لدى الأمهات والجدات دائما خلطة عجيبة من اليوميات والمواويل والحكايات والأمثال الشعبية التى يتناقلنها جيل بعد جيل، تتسرب من خلالها القيم الأصيلة والوجدان والشعبي، والأفكار والحيل والمشاعر، واختيارات الناس ونضالهم، وفنونهم التراثية.
وبنفس الخلطة تصنع الأمهات والجدات بصمتهن في عالم السينما السحرى، عبر مؤثرات الصوت والضوء، والحركة والصمت، والملابس والمشية والأداء.
تدهشنا التفاصيل وتدفعنا لتأمل لتلك الخلطة العجيبة، فإما أن نختار التماهي معها أو نقرر التمرد عليها، لكن في النهاية تظل هذه الخلطة هي القاسم المشترك الشعبي الذى يحتكم إليه الجميع.
ضغطت بقوة على جرس الباب، ليفتح لها الزوج فتندفع قائلة:"إنت اللي اسمك محجوب عبد الدايم، تشرفنا ..هو فين، جوزى قاسم بيه..أيوه قاسم بيه، اللي نايم على سريرك دلوقت...افتح ياقاسم بيه..ظبتك..هي دى اللجنة اللى بتقول عليها..افتح بقولك افتح..افتح يامعالي الوزير ياراعي الأخلاق..يامربي الجيل..هتفتح ولا أطلبلك البوليس أخليه يجي ياخد معاليك في الحديد..مش عيب لما أظبتك في بيت الندل ده وهو واقف يحرسكم...والله لأنتقم منك ...".
مشهد وحيد في فيلم القاهرة 30، المنتج عام 66 ، كان يمكن أن تؤديه أية ممثلة، لكن صلاح أبو سيف اختار له عقيلة راتب، الزوجة الأرستقراطية التى يخونها زوجها فتثأر لكرامتها وتستعيده بقوة.
لم يختر المخرج المحنك أبو سيف أيا من ممثلات الجيل نفسه، أمينة رزق أو علوية جميل أو دولت أبيض أو حتى فردوس محمد ولا آمال زايد، وذهب إلى صاحبة "البصمة في هذه الشخصية" عقيلة راتب التى كانت تجرى وقتها عملية المرارة، ولم تشف بعد، وطلبها للدور، فقالت: معلش شوف حد تاني أنا لسه تعبانة، فرد: مافيش حد يقدر يعمله غيرك.
البصمة التى استخدمها قبل ذلك بخمس سنوات، حين اختارها لتكون أم العائلة الأرستقراطية في فيلمه "لاتطفىء الشمس"، وهو الدور الذى حصلت به على جائزة أحسن ممثلة، وبين الدورين التقط نفس البصمة فطين عبد الوهاب، ليرشحها في دور الأم في "عائلة زيزي" 1963.
البصمة نفسها كانت عند"أم حميدة" في فيلم زقاق المدق لحسن الإمام، رغم اختلاف مستوى الأم الاجتماعي، وطريقة حديثها ومشيتها وألفاظها وملابسها، "خلطة وجدانية"، جديرة بأن تدفعنا للبحث عن تفاصيلها.
من الجمالية إلى الظاهر
وسط صخب القاهرة ووسط البلد، لازالت تعيش الحفيدة "جيني" في شقة جدتها عقيلة راتب، بالطابق العاشر، بالعمارة رقم 76 بشارع الجمهورية"، والمسماة بعمارة الأوقاف، والتى ترتفع 11 طابقا.
العمارة الضخمة مبنية في أوائل الخمسينات على الطراز الحديث، وبها مصعدان، أحدهما كبير للأثاث، وبسطاتها من الرخام، واختارت عقيلة شقة الطابق العاشر، لتميزه شققه بأنها عبارة عن فيلا من طابقين، أو بالمسمى الحديث"دوبليكس".
وهي الشقة أو الفيلا ذات الثمانية غرف، بكل طابق 4 غرف، والتى انتقلت إليها عقيلة راتب في عام 59، بعد انفصالها عن زوجها المطرب حامد مرسي، منافس عبد الوهاب في عشرينات القرن الماضي، وظلت تسع أبناء ابنتها الوحيدة أميمة طوال تلك السنوات.
"في هذه البلكونة كانت تجلس جدتي لتستمتع بالهواء والنظر للقاهرة" تقول جيني، ونحن نتقدم للنظر من الشرفة الواسعة، التى تستطيع من خلالها النظر إلى أحياء الموسكي والفجالة والظاهر، حتى تصل بنظرك إلى مقابر الغفير، التى تشير إليها جيني"هناك ترقد جدتي".
لم يتبق من مقتنيات الفنانة عقيلة راتب الشخصية، غير الباسبور والبطاقة الشخصية والدروع والنياشين والتكريمات التى حصلت عليها، وصور للفتاة عقيلة تزين صالونات الطابق الأول من الشقة، وصور أخرى مع الرئيس أنور السادات ومع الرئيس جمال عبد الناصر وهى تستلم التكريمات، وصور لأفلامها.
كما تحتفظ الحفيدة بنسخة من الكتاب الذى تعتبره سيرتها الذاتية الموثقة، "عقيلة راتب..نهر من العطاء" التى كتبها محمد الشافعي، بتكليف من إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عام 98، حين قرر المهرجان تكريمها في تلك الدورة، ويبدو أن التكريم جاء في وقته، فلم تمض شهور حتى فارقت عقيلة الحياة.
يتناول الكتاب الذى يقع في 106 صفحات قصة حياتها منذ ولادتها، ثم حبها للتمثيل، وكيف أصبحت بطلة للفرق المسرحية وحكاياتها مع السينما ووصيتها للفنانين الشباب.
يذكر الكتاب أن والدها رجل من أسرة كريمة، عاشت في بيت بجوار الأزهر الشريف بحى الجمالية،
أتقن عدة لغات، مكنته من العمل كمترجم في وزارة الخارجية، ليصبح المصري الثالث الذى يعمل في الوزارة، التى كان يسيطر على العمل فيها الانجليز، ويصبح محمد كامل شاكر أحد القيادات الهامة في الوزارة.
رزق محمد كامل بثلاث بنات، ثم ولد واحد توفي وهو صغير، فقرر أن يتزوج بأخرى بحثا عن الابن، فصاهر أسرة تركية كبيرة من حي الجمالية، وأنجب من الزوجة بنتا رابعة في 23 مارس 1916، وذهب لمقهي متانيا حيث تعود أن يلتقى كل ليلة فيها مع أصدقائها، فاذا أحد الدراويش يقول له"مبروك البنت كاملة يا كامل بيه، اكتب اسمها كاملة فهو اسم على مسمى"، وبالفعل سمى الصغيرة كاملة.
من مسرح المدرسة لفرقة عكاشة
تحكي عقيلة بدايتها الفنية :"كنت في الصف الأول الابتدائي، وحضرت الحفل الختامي للمدرسة وانبهرت بزميلاتي على مسرح المدرسة، ومنذ هذا اليوم أحببت التمثيل وقررت أن أعمل به، وفي السنة التالية تابعت بروفات فريق التمثيل، وطلبت الانضمام للفريق، فطلبوا موافقة والدي، فكان نصيبي علقة ساخنة، لكن لم تؤثر في حبي للتمثيل، حتى جاءت الصدفة في نهاية العام الدراسي، عندما حدثت ظروف لبطلة الفرقة وكادت المسرحية تلغى، فعرضت على مدير الفريق أن أقوم بدورها، وكنت أحفظه، فقبل وأديت الدور، وكان من بين الحضور ابن عمي، فأخبر والدي، وعوقبت مرة أخرى، لكن أصبحت نجمة المدرسة".
وفي أحد احتفالات المدرسة، أعجب ويصا واصف باشا بالطفلة كاملة التى وقفت تغنى وتمثل على المسرح، وكفاءها بمبلغ من المال، وكان من بين الحضور الممثل زكي عكاشة وشقيقه عبد الله عكاشة أصحاب فرقة عكاشة المسرحية، اللذان لاحظا موهبة الطفلة وأثنوا عليها.
وظل الأخوان عكاشة يتابعانها خمس سنوات، وخلال عروضها على مسرح مدرسة التوفيق القبطية الثانوية، عرض عليها زكى عكاشة التمثيل بالفرقة، لكن والدها لم يوافق، فتركت بيت والدها وعاشت مع عمتها بحي الظاهر، وشجعتها العمة على الدخول في عالم التمثيل، لتلتحق بالعمل في فرقة عكاشة وتترك الدراسة.
في عام 1930 ، أعد عكاشة للفتاة كاملة ذات ال 14 عاما، أوبريتا خاصا بعنوان"هدى" وكلف مدربا خاصا ليدربها في منزل عمتها على الغناء وحفظ الألحان، لتشاركه بطولة الأوبريت، وهنا لقبت نفسها بعقيلة ، على اسم زميلتها بالمدرسة، و"عقيلة في اللغة تعنى الزوجة "، وراتب على اسم أخيها المتوفي صغيرا، وحقق العرض نجاحا كبيرا، وملأت صور عقيلة راتب الشوارع.
وتحكي عقيلة في كتاب"عقيلة راتب نهر من العطاء" أن منيرة المهدية وإسماعيل باشا صدقي، رئيس وزراء مصر وقتها وبعض من أعضاء وزارته، كانوا من بين حضور أوبريت هدى، وأثنوا عليه، وأبرزت الصحف هذا الأمر كنجاح للعرض.
في المقابل لم يكن يعرف والد عقيلة ما وصلت إليه الابنة، فأخبرته العمة بما حدث للابنة وبتألقها في التمثيل وبتركها المدرسة، فأصابته الصدمة بالشلل، لكن ما لبث الأب أن رضى عن عقيلة بعد أن تركت الفرقة، إثر مكائد الممثلات ضدها، وعادت تقيم مع والدها.
وحدث أن زار الأب أحد أصدقائه المترجمين، الذى طلب من عقيلة أن تعمل في فرقة علي الكسار، لتنقذها من عثرتها، ووافق الأب ومثلت عقيلة بالفرقة في مسرحية غنائية أعدت لها، هى ملكة الغابة، ونجحت نجاحا مبهرا، وتزوجت عقيلة من بطل المسرحية المطرب حامد مرسي، في عام 1932.
عاش الزوجان في شقة بشارع قنطرة الدكة بالأزبكية، ليكونا بجوار مسرح الماجستيك بشارع عماد الدين، الذى تعرض عليه فرقة الكسار عروضها، وكان يتقاضى كل واحد منهما 150 جنيها شهريا، وبعد شهور رزقا بالابنة الوحيدة "أميمة".
الابنة ترث موهبة الأم
درست الابنة أميمة في مدرسة الفرانسيسكان، وتحكى الحفيدة جيني"كانت أمى موهوبة في الغناء وتحلم بالسفر لايطاليا لتستكمل دراستها في الغناء، لكن جدتي لم ترحب بذلك، وفضلت أن تزوجها من الصحفي عبد الرحمن دنيا بأخبار اليوم، وكانت في سن 16 سنة وقتها في عام 52.
كانت عقيلة راتب قد انتقلت للعيش في عمارة بشبرا في 2 شارع روبير شماع، وتزوجت الابنة أميمة في شقة أسفل شقة الأم، وفيها رزقت أميمة بأولادها طارق وأحمد وخالد، لكن مرت السنوات وانفصل الزوجان، وانتقلت أميمة وأولادها الثلاثة للعيش مع الجدة في شقتها الجديدة بشارع الجمهورية.
"تزوجت أمي بعدها من ابن خالتها جلال، ليرزقا بي، ونعيش جميعا مع جدتى في شقتها هذه، بعد أن انفصل جدى عن جدتى، عام 59 لكنه ظل يزورنا ويطمئن علينا حتى وفاته". تحكى جينى
خلال هذه السنوات لم تتخل الأم عقيلة يوما عن التمثيل، وتنقلت بين عدة فرق مسرحية، فبعد عملها مع فرقة الكسار، عملت في فرقة جمعية أنصار التمثيل والسينما، ثم في فرقة فوزى منيب بالاسكندرية، التى ظهرت فيها كمؤدية للمونولوجات الفنية، وخلال الأربعينات قدمت عروضا استعراضية على مسرح مسيو دكرا في الاسكندرية، وعملت مع فرقة ببا عز الدين بالقاهرة، نظير 30 جنيها في الليلة.
ومع كل هذه المكاسب، قالت عنها صديقتها كوكب الشرق أم كلثوم، كما يذكر الكتاب"عقلية راتب ستعيش وتموت فقيرة لأنها حريصة على الأداء والفن الحقيقي المتميز، دون الالتفات إلى المال، وهذا الذى أحبه فيها".
كلمات أم كلثوم، لم تكن بعيدة عن الواقع، كما تقول الحفيدة جيني جلال: "جدتي كانت تملك عمارة كبيرة بمنطقة غمرة، والعديد من الشقق، التى كانت تستثمر فيها جزءا من أموالها، لكنها كانت تبيعها عندما تحتاج، كما فعلت مع سيارتها".
عقيلة ترفض السينما
لكن كلمات أم كلثوم لم تصدق فقط على الوضع المالي لعقيلة راتب، بل على حرصها على الأداء المتميز، فمع بداية السينما في الثلاثينات، كانت عقيلة في أوج شهرتها، وكان من المتوقع أن تسعى إليها السينما، وبالفعل عرض عليها توجو مزراحي بطولة فيلم غنائي، لكنها اعتذرت، كما اعتذرت أيضا لنجيب الريحاني عن مشاركته لبطولة فيلم، واعتذرت لشركة أوديون عن بطولة أفلام غنائية، واعتذرت لبديعة مصابني عن بطول فيلم.
والسبب الذى جاء على لسانها ونشرته إحدى الصحف الفنية وقتها "لا أستطيع أن أغامر بسمعتي الفنية، لأن فن السينما لازال وليدا، ويفتقر للأدوات والامكانيات"، وهو الرأى الذى كونته من خلال متابعتها لما يكتب عن السينما المصرية في المجلات الأجنبية، كان هذا قبل أن ينشىء ستديو مصر.
وكما رفضت سينما الثلاثينات، سعت وقتها لأن تحقق حلمها في تمثيل الأدوار التاريخية، "عشت طوال مشوارى الفني أتمنى أن أتقمص دور جان دارك أو أديس كافيل، لما لهما من تاريخ نضالي في الكفاح من أجل الحرية، لكن فرقة الكسار لم تكن تهتم بهذا، فكنت أذهب لدار الأوبرا لأشاهد الزميلات في الفرقة القومية وهن يؤدين دور البطلات التاريخيات، ومع بداية عمل الفرقة في عام 1935 ، عرضوا علي الانضمام إليها، لكن زوجي مرسي، رفض أن نترك فرقة علي الكسار".
كان على أمنية عقلية راتب في تمثيل الشخصيات التاريخية أن تنتظر، حتى عام 1941 حين مثلت دور الأميرة التى تحب ابن الصياد في فيلم ألف ليلة وليلة، مع علي الكسار وزوجها حامد مرسي، ومسلسل تليفزيوني تاريخي في الستينات مع عبد المنعم مدبولي اسمه"نوادر جحا".
التراث المفقود
200 مسرحية و56 فيلما و338 حلقة من مسلسل عادات وتقاليد، حملت بصمة الجميلة الرشيقة عذبة الصوت "عقيلة راتب"، لم يصلنا الكثير منها، فقد سعت عقيلة نفسها خلال الثمانينات للبحث عن أفلامها المفقودة، واستطاعت أن تجد بعضها في لندن، فأرسلت في طلبها، ومنها "أفلام أنا وابن عمي، المظلومة، المال والبنون، طلاق سعاد هانم، دايما في قلبي، من غير وداع".
وهي الأفلام التى ظلت تشاهدها كثيرا كما تحكي حفيدتها "جيني"، لكن ظلت بعض أفلامها مفقودة، مثل فيلمي عروس البحر، وسواق القطار، والفيلم الوحيد الذى أنتجته "الغيرة"، رغم أن بعضا من أجزاء هذه الأفلام يعرض عبر الفضائيات واليوتيوب.
الناقدة ماجدة موريس، تؤكد أيضا أن هناك جزءا غائبا من تراث وأعمال عقيلة راتب، لم نشاهده ولم نعلم عنه شيئا، وهو مجموعة المسرحيات والأفلام التى مثلتها في بداية مشوارها الفني، لكننا تعرفنا عليها من خلال أدوارها التى قدمتها في أفلام الخمسينات والستينات، التى أدت فيها دور الأم والزوجة الشيك التى تعي حدودها وتستطيع أن تسير أمور البيت بحكمة ومقدرة واقناع وشخصية قوية، وأثرت هذه الصورة في وجداننا، بنموذج المرأة المصرية القوية المؤثرة، التى تواجه ولا تخاف، وتعبر عن نفسها بوضوح وهو ما كانت تحتاجه السينما والمسرح.
وتكمل موريس: "هي من أهم الممثلات اللاتي أدين دور الزوجة في الطبقة المتوسطة، بملابسها وتعبيراتها وألفاظها، والأم التى تعرف حقوق زوجها وأولادها، تعترض وتغضب دون حدة، ما جعلها قريبة من المشاهد، ودفع مخرج مسلسل عادات وتقاليد أن يرشحها لهذا الدور الاجتماعي".
أما المخرجة مريم الجزايرلي، حفيدة الفنان فوزي الجزايرلي، فتوثق للتاريخ السينمائي لعقيلة راتب بفيلمها الثالث بعد اليد السوداء "1936" ، وسر الدكتور إبراهيم 1937، وهو فيلم "خلف الحبايب" من انتاج فوزى الجزايرلي 1937، و"شاركت في التمثيل مع جدى فوزى في فيلم الفرسان الثلاثة سنة 41" وكانت في تلك الفترة تلعب دور الفتاة الأولى".
وتتوقف مريم عند أدوار الزوجة والأم الأرستقراطية المحتشمة والملتزمة والمقبولة اجتماعيا التى قدمتها عقيلة في أفلام الخمسينات والستينات، والتى زاوجت فيها بين الكوميديا الراقية والتراجيديا، لتجسد معاناة الأم المصرية المتعلمة في تربية الأبناء، في أفلام مثل عائلة زيزي، لا تطفىء الشمس، ليلة الزفاف، أيام وليالي، كما قدمت دور الجدة والحماة، والأم الشعبية في السبعينات، مواكبة ظهور طبقة جديدة في عصر الانفتاح، فعقيلة راتب تجيد التمثيل والاقناع معا.
قصة الكفاح المنظم
"قصة حياتي، قصة الكفاح المنظم والمتواصل في سبيل إدراك هدف شريف، ولم يكن الهدف سوى خشبة المسرح، ثم شاشة السينما والتليفزيون، وقد استطعت تحقيق هدفي، لأن غايتي كانت شريفة، وأيضا كانت وسائلى نظيفة، وهذه وصيتي لكل فنان شاب، فعليه أن يحرص على شرف الهدف ثم على نظافة الوسيلة، حتى لا يندم، وفي نهاية المشوار أؤكد على أنني لم أندم يوما واحدا على عملي بالفن رغم تعرضي لمشاكل كثيرة، كان أهمها انقطاع أسرتي عني في فترة مبكرة من حياتي، فقد كان أبي مثل كل آباء تلك الفترة، يعتبر من تعمل بالتمثيل مجرمة، لكن حرصي على سمعتي وفني، جعلني مصدر فخر لوالدي، وهكذا يجب أن يفعل كل فنان يحترم نفسه وفنه".
تقرأ الحفيدة جيني هذه الكلمات التى أنهت عقيلة راتب سيرتها الذاتية في كتاب الشافعي، وتقول :قدمت جدتي دور الأم قوية الشخصية، لكن ليست الأم المتسلطة كما قدمتها دولت أبيض وعلوية جميل، وكانت شخصية جدتي الحقيقية في الواقع قريبة من تلك الشخصية التى قدمتها في التمثيل، قوية الشخصية وتمسك بزمام الأمور في غياب رب الأسرة، وتتمسك بالتقاليد وتربي أبناءها عليها، ولذا كانت أحب شخصية إلى قلبها شخصية "حفيظة" في مسلسل عادات وتقاليد.
"منذ توفت جدتي في 22 فبراير عام 99 19وانا أعيش في شقتها مع أسرتي الصغيرة، زوجي وولداي، فلأنها تحب اللمة طلبت منى أن آت للحياة معها، فقد كانت أمي منشغلة طوال الوقت بعملها كمرشدة سياحية، وتزوج اثنين من اخوتي وتركا البيت، وبقى واحدا لم يتزوج وظل يعيش معنا حتى توفي في 2015، وبعدها بثلاث سنوات لحقت به أمي في2018".
فقدت عقيلة بصرها خلال تصويرها فيلم "المنحوس" عام 87 ، آخر أفلامها ،اقتصرت زيارات الوسط الفني لجدتي على الفنان سلامة إلياس وزوجته، أما صلاح ذو الفقار وآثار الحكيم وفيفي يوسف وإحسان شريف فكانوا دائمى السؤال عليها تليفونيا، فكانت تقول دائما البيت له حرمته".
خزين جدتي
تبتسم الحفيدة جيني، وهي تتذكر حكاية جدتها عن الملك فاروق الذى جاء للمسرح وهي تمثل، وعندما نزلت بعد العرض لتسلم عليه أعطاها منديله، واحتفظت به طوال حياتها، ولازال موجودا حتى الآن، لونه كريمي، حرف إف مكرر مرتين، يعني فاروق فؤاد.
كرمها جمال عبد الناصر 63 في عيد العلم، وجائزة الدولة في المسرح في نفس العام عن مسرحية حلمك ياسي علام، وجائزة أحسن ممثلة عن فيلم لاتطفىء الشمس، وجائزة الجدارة 1978، وكرمها الرئيس السادات ومنحها وسام الدولة في نفس العام، ودرع المسرح عام 92، وجائزة الريادة من جمعية الفيلم، وميدالية طلعت حرب بمناسبة مرور نصف قرن على السينما المصرية.
"ظلت أحب أعمال جدتي لقلبها مسلسل عادات وتقاليد الذى عرضت في أوائل الستينات واستمرت حتى 1976 ، وحزنت عند انتهاء المسلسل في الحلقة 338، الذى جسدت فيه دور حفيظة هانم، الذى عرفت بها في الشارع، وساهمت خلاله بأفكار لبعض الحلقات، استقتها من مشكلات ومواقف عاشتها مع أقاربها أو سمعتها منهم، وكانت تقولها للمؤلف عبد الله بركات، ليكتبها وتقاضت عن كل حلقة فيه 40 جنيها، وكان أعلى أجر لممثلة وقتها".
تتذكر الحفيدة كيف كانت جدتها تتعجب من نفسها عندما تعيد مشاهد فيلمي زقاق المدق، واسكندرية ليه، وتقول:مين الست الشعبية دي، وإزاى بتتكلم كده، "جدتي صاحبة شخصية جادة ولها هيبة، لا يمكن أن نتلفظ أمامها بأي ألفاظ قد تزعجها، أمي كانت تعمل لها ألف حساب، تحب اللمة والأقارب، بيتها دائما مفتوح، تقدس الوقت والمواعيد، خاصة مواعيد الطعام، الافطار والغذاء والعشاء، تعلمت منها أن يكون عندى خزين في البيت، المربي والجبن والمخللات التى تجيد عملها، فقد كان لديها دولابا كاملا في البيت وثلاجتين، تخزن فيها الخزين، وفي أيام الأزمات لم نكن نحتاج لأن نشترى شيئا من الشارع، وهو ما حدث معي فخلال ثورة يناير وما تلاها، كان لدي خزيني".