22-12-2022 | 12:18
خليل زيدان
رغم ظهوره فى السينما أمام أجيال عديدة بشخصية تكاد تكون واحدة، وهى شخصية الشرير الظريف الأنيق، إلا أن الكثير لا يعرف قيمة ومكانة الفنان استيفان روستى، فالرجل هو أول مخرج سينمائى فى مصر، وولدت السينما على يديه عندما تكاتف مع السيدة عزيزة أمير التى أنشأت السينما، وأخرج لها استيفان فيلم «ليلى» عام 1927، بل والأدهى أن السينما ولدت يوم ميلاد استيفان .. فى ذكرى رحيله نسرد التفاصيل والأسرار.
ابن القنصل أو البارون
أكد استيفان روستى فى أكثر من حوار له بأنه ابن قنصل أو سفير، وفى عدد الكواكب بتاريخ 26 مايو 1964، أى بعد أيام من رحيله، أكد صديق عمره الفنان يوسف وهبى فى مقال بقلمه للكواكب تحت عنوان «السر الذى قاله لى استيفان» بأن استيفان أخبره أن والده كان بارونا نمساويا من أكبر الأسر هناك، ويقطن قصرا فى فيينا، وقد تعرف على والدته الإيطالية فى روما وتزوجها، وجاء إلى القاهرة واشترى منزلا فى حدائق شبرا ليعيش فيه مع زوجته .. وبعد عدة أشهر وصلت للبارون رسالة من أهله أجبرته على العودة إلى فيينا، وبعد عدة أشهر من غيابه علمت الزوجة بأنه كان متزوجا من أخرى، وكان يرسل لوالدة استيفان المال لتعيش منه، ووعدها بأن الحياة ستعود إلى مجاريها قريبا.
ولد استيفان روستى فى حدائق شبرا فى 16 نوفمبر 1891 فى غياب أبيه، وهو لا يعلم عنه شيئا، وهناك رواية تؤكد أن البارون أو القنصل لم يعد إلى مصر، وفور علمه بأن الزوجة أنجبت استيفان طالب بضم الابن فهربت الزوجة إلى الإسكندرية ومعها استيفان لتلحقه بمدرسة رأس التين.
شرير منذ الطفولة
فى مرحلة الصبا عُوقب استيفان فى مدرسة رأس التين بتناول الخبز فقط، ولم يقدر على تنفيذ العقوبة طوال الحصص فأرسل الفراش لشراء علبة سردين، وبعد أن أكلها وضع العلبة الفارغة تحت التختة، وتصادف في ذلك اليوم مرور وزير المعارف سعد باشا زغلول ومعه مستر دانلوب مفتش الوزارة فى زيارة رسمية للمدرسة، وكان استيفان يجلس فى آخر الفصل، فاقترب منه المفتش وأمسك بعلبة السردين وسأل استيفان عنها، ومتى أكلها .. ويعترف استيفان بأنه ارتكب أول موقف شر فى حياته، فقد قال للمفتش إنه أكل السردين فى حصة مدرس اللغة الإنجليزية، رغم أنه أكلها فى حصة الرسم، والسبب أنه كان على عداوة مع مدرس الإنجليزية، فأمر المفتش بنقل المدرس إلى الصعيد بعد توبيخه .. هذا ما سرده استيفان بنفسه فى البرنامج الإذاعى كرسى الإعتراف، وطلب من أستاذ الإنجليزية أن يسامحه على جريمته لو كان يسمع الراديو آنذاك.
طردنى أبى
قال يوسف وهبى فى مقاله للكواكب أن استيفان أكد له إنهاء دراسته فى مدرسة الخديوية بالقاهرة، وفى مسرح تياترو عباس تعرف على راقصة جعلته يهوى التمثيل، فالتحق بفرقة باليه وعمل بها «ريجسير»، وبعد أن ألح على والدته لمعرفة اسم أبيه أخبرته، وسافر استيفان إلى فيينا مع الفرقة وهناك أصر على مقابلة والده الذى رحب به ترحيبا كبيرا، لكن بعدما عرف أن استيفان يعمل فنانا قام بطرده شر طردة، وتسكع استيفان فى أوروبا مدة طويلة وصل فيها إلى نابلولى، وبسبب الفقر اضطر أن يبيع التين الشوكى على عربة صغيرة، ونظرا لأنه يجيد اللغة العربية فقد عمل هناك أيضا مساعدا لمتعهد المهاجرين اللبنانيين الذين يتوافدون إلى نابلولى للهجرة إلى الأمريكيتين، وعمل أيضا «كومبارس» مع الفرق الأجنبية التى تزور مصر، وفى القاهرة استقر استيفان والتقى بنجيب الريحانى ليعمل معه فى مسرحية ذات فصل واحد على مسرح «الآيبى دى روز» ، وهكذا بزغ نجم استيفان الذى اتسم بالأناقة فأصبح أجمل فنان فى مصر وكسب قلوب الجميع، ووصف بالكرم ونبل الأخلاق.
أول فيلم سينمائى
أكد استيفان روستى فى حوار نادر له بمجلة الكواكب عدد 5 مارس 1963، أنه بعد عودته من أوربا سعى للقاء الفنان عزيز عيد وكان متيما به، واتفق معه على العمل معه فى مسرحية «خللى بالك من ايلى»، وتعرف على يوسف وهبى الشاب الذى اختلف مع أهله بسبب التمثيل فاحتضنه استيفان روستى فى فرقة عزيز عيد، وعندما أنشأ وهبى فرقة باسمه وهى فرقة «رمسيس» ضم إليها أعز أصدقائه وهو استيفان روستى الذى عمل مدة طويلة بالفرقة، ونال أدوارا كبيرة فى مسرحيات «المجنون» و«غادة الكاميليا» و«لوكاندة الأنس».. وغيرها من المسرحيات، وبرغم تأكيد يوسف وهبى أن استيفان أصبح نجما لامعا وكوميديانا بارعا إلا أن استيفان أكد أن وهبى كان يستحوذ على دور البطل فى كل مسرحياته، وتنقل استيفان من فرقة رمسيس إلى فرقة الريحانى ثم إلى فرقة إسماعيل ياسين .. أما أول فيلم سينمائى شارك فيه استيفان فقد كان فرنسيا وليس عربيا، وذلك عام 1915، عندما أسند إليه المخرج الفرنسى «بيير مارادو» دورا فى الفيلم، فسافر إلى فرنسا ليمثل أول أدواره بالسينما هناك.
البوسطجية اشتكوا
استطرد استيفان فى حواره للكواكب، فأكد أنه هوى التمثيل منذ أن كان تلميذا بمدرسة رأس التين، وتم فصله منها لأنه يصر على التمثيل رغم تحذيره، وعند مطلع الشباب التحق بمصلحة البريد ليعمل بها بوسطجيا، واشتغل بالفعل لمدة ثمانية أيام فقط، ثم جاء للمصلحة تقرير يفيد بأن استيفان يهوى التمثيل ويعمل به أيضا فى المساء فتم طرده من مصلحة البريد.
أول مخرج فى مصر
حتى عام 1927 لم تكن السينما المصرية قد ولدت، وحملت الفنانة عزيزة أمير على عاتقها نشأة السينما فى مصر، وساعدها فى ذلك زوجها الوجيه أحمد الشريعى، وتعرفت عزيزة على شخص يدعى أنه نابغة فى فن السينما وهو وداد عرفى، ونظرا لذياع سيطه فى المجتمع الفنى آنذاك فقد اتفقت معه عزيزة أن يخرج لها أول فيلم سينمائى مصرى باسم «نداء الله»، لكن بعد إتمام الفيلم ومشاهدته فى عرض خاص اكتشفت أن الفيلم عبارة عن لقطات غير مترابطة وأن وداد عرفى شخص عصبى وموتور يهتم فقط بتصويره على الجياد فى الفيلم، وهنا قررت عزيزة عدم التعامل معه والبحث عن مخرج آخر للفيلم .. ولم ينقذ عزيزة أمير غير استيفان روستى الذى تسلم منها المشاهد التى صورت، فانتقى منها القليل واستغنى عن الكثير، وبذلك اضطروا إلى البحث عن قصة أخرى للفيلم فاتفقوا على قصة «ليلى» ليبدأ استيفان فى إخراجها كأول فيلم روائى مصرى.
ولدت السينما يوم ميلاده
عمل استيفان فى إخراج فيلم «ليلى» تحت ضغوط كثيرة، منها مطالبة طلعت باشا حرب لعزيزة أمير بالعدول عن فكرة نشأة السينما، لأن عائلة زوجها اتهموها بالجنون وتبديد ثروته، وأيضا كان هناك الصراع مع المخرج وداد عرفى الذى فشل فى الإخراج ويصر على وجوده كممثل فى الفيلم، أما العامل الثالث فكان صراع الوقت مع الأخوين بدر وإبراهيم لاما، فهما شابان فلسطينيان بارعان فى التمثيل والإخراج السينمائى وصلا إلى الإسكندرية ليخرجا أول فيلم سينمائى فى مصر بعدما جاءا إليها ومعهما معدات السينما من تشيلى .. وبرغم هذه الضغوط استطاع استيفان روستى أن يخرج فيلم «ليلى» من بطولة عزيزة أمير التى ساعدت أيضا فى الديكور والملابس وغيرها من المتطلبات، ليصبح الفيلم جاهزا للعرض السينمائى كأول فيلم روائى مصرى .. وهنا طلب منها استيفان أن يكون عرض الفيلم فى السينما يوم مولده.
واعترافا بفضله وافقت عزيزة أمير أن يعرض الفيلم يوم ميلاد استيفان بسينما «متروبول» يوم 16 نوفمبر 1927، واختارت عزيزة تلك السينما لأنها لم تطلب سوى 200 جنيه كإيجار أسبوعى لعرض الفيلم، ووقف زوجها أمام السينما يستقبل كبار المدعوين من رجالات السياسة والثقافة والفن والصحافة، ورغم أن طلعت حرب ومدحت يكن كانا من أكبر الوسطاء لمنع عزيزة من المغامرة بنشأة السينما إلا أنهما كانا أول الحضور مع باقات ورد كتب على إحداها بتوقيع طلعت حرب «إن هذا النجاح فخر لكل المصريين» .. وحضر العرض الأول للفيلم أيضا أمير الشعراء أحمد شوقى.
سبع صنايع
بعد نجاح استيفان روستى فى إخراج أول فيلم روائى مصرى، وبعد أن لاقى الفيلم نجاحا كبيرا، استمر مشواره السينمائى كمخرج وممثل ومونتير للعديد من أفلام السيدة عزيزة أمير، منها فيلم «الورشة» و»بياعة الورد» وابن ذوات»، ورغم فضله فى أن تصبح نشأة السينما مصرية خالصة بعدما سبق الأخوين لاما، فإن المخرجين بعد ذلك حصروا استيفان فى أدوار الشر الظريف .. واستطاع بخفة دمه وروحه المرحة أن تكون أدواره متنوعة بين الشر والكوميديا، فابتكر أجمل اللزمات التى اشتهر بها منها «نشنت يا فالح» و»مدام .. تسمحى لى بالرقصة دى»، وفى حواره مع الكواكب لام استيفان على المخرجين الذين يقتلون المواهب بحصرها فى أدوار محددة.
حفل تأبين لمين
تزوج استيفان روستي من فتاة إيطالية وهى «مارى» التى واجهت الكثير من التحذيرات عند زواجها منه، فقد كان الزواج من ممثل «بعبع» يخيف العائلات، ورزق استيفان بولد أسعد حياته هو وزوجته، لكن الطفل مات بعدما تعدى سن الخامسة مما جعل الحزن يخيم على حياة الزوجين وتصاب الأم بحالة اكتئاب شديدة، ومحاولة منه للترويح عن زوجته، فقد ذهبا إلى الإسكندرية وانقطع عن التمثيل أكثر من شهرين، ولم يخبر أحدا من زملاء الفن عن مكانه، فاعتقد الجميع أنه مات وأن زوجته سافرت إلى بلدها، ووفاء منهم للزميل استيفان قرروا إقامة حفل تأبين له .. ويوم التأبين جلس من يبكى بنحيب ووقف من يذكر محاسنه ونبل أخلاقه، وعاد استيفان من رحلته فى نفس اليوم وعرف أن الجميع فى حفل بنقابة الممثلين فذهب إليهم ودخل الحفل فى صمت وقال لهم «ده حفل تأبين لمين؟» والتفت الجميع لصاحب الصوت ليجدوا أمامهم استيفان حيا يرزق، فانقلب الحزن والدموع إلى فرحة وزغاريد.
7 جنيهات كل ثروته
فى يوم رحيله جلس استيفان روستى على المقهى كعادته يلعب الطاولة، وينتظر أن يأتيه دور فى السينما أو تمثيلية فى الإذاعة أو التليفزيون، وشعر بألم شديد فى صدره، فذهب إلى صديقه الطبيب على عيسى وكان استيفان لا يملك إلا سبعة جنيهات، فدفع منها اثنين جنيه للطبيب الذى شخص حالته بمرض فى القلب، وغادر استيفان العيادة وذهب إلى بيته ليموت بعد دقائق فى منزله .. وبعد أيام من رحيله ناشد إسماعيل ياسين الجهات المختصة من خلال مجلة الكواكب عدد 26 مايو 1964 بالسماح لزوجة استيفان روستى بالسفر إلى بلدها لتكون فى رعاية أهلها هناك، فلم يترك استيفان لها غير خمسة جنيهات، وشقته كانت متواضعة، وتعجب إسماعيل ياسين فى كلمته للكواكب وقال إنها فاجعة ونهاية مؤلمة لرجل أعطى للفن من عمره 60 عاما وأظهر وجوها جديدة للفن، وتسبب موت ابنه فى انهيار أعصاب زوجته، فقد كانت تقضى فى مستشفى بهمان بحلوان 45 يوما وتعيش مع استيفان خمسة أيام فى بيتها، حتى السيارة الصغيرة التى تركها ذهبت الزوجة إلى الجراج لتأخذها وتبيعها فأخبروها أن الخواجة استيفان أخذها للتصليح، والحقيقة أن اللصوص سرقوا سيارة أول مخرج مصرى، وأظرف شرير فى السينما استيفان روستى .. أو «زكى بشكها».