يدهشك هذا الرجل كلما جاء ذكره، وما أكثر ما نتذكره أو قل أنه لم يغب عن ذاكرتنا حتى نستدعيه من جديد ..
لا أظن أن فنانا عربيا وربما عالميا جاء أو سوف يأتى كان له هذا الخلود الطاغى مثلما هو عند عبد الحليم حافظ، خمسة وأربعون عاما مضت على رحيله فى الثلاثين من مارس 1977 وما زال هو الأبرز فى ذاكرة المواطن العربى والأقرب إلى الوجدان الجمعى غناء وتمثيلا وتجربة إنسانية مثيرة كل ما فيها يدعو إلى الاهتمام والتأمل، وهو ما يؤكده تصدره لمحركات البحث ولهفة الملايين على متابعة كل ما يخصه مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا، هذه الظاهرة الحليمية المتفردة والاستثنائية تدفع الكثيرين كلما مرت السنوات على رحيله إلى طرح السؤال الكبير:
ما سر هذا الرجل؟ لماذا بقى هو على هذا الحضور اللافت حتى لدى أجيال لم تعش زمانه أو ترتبط به؟
كثيرون غيره تمتعوا بالموهبة وبراعة الأداء، بل أن بعضهم فاقوه فى قوة الصوت ومساحته، وكثيرون مثله كان لهم حضورهم على الساحة فى زمن العمالقة الكبار أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، نعم لم يكن الأقوى، لكنه كان الأقرب إلى الوجدان الجمعى – كما قلت - فى عصر كان الالتفاف حول الرمز والمشروع العام سمة له، نعم لم يكن صاحب المساحة الصوتية الأكثر اتساعا لكنه كان أصدق من تغنى بالعربية فى زمانه وأى زمان، نعم لم يكن قديسا بلا أخطاء كما أراد أن يصوره البعض، لكنه كان الأذكى والأكثر قدرة على امتصاص الصدمات ومواجهة النوات والأعاصير.. هل هذا فقط؟ أو بعبارة أخرى هل كان هذا كافيا لخلود عبد الحليم وحضوره على ذلك النحو الذى يستوقفنا جميعا؟ لا أظن.. تعالوا إذن نحاول تأمل هذه الظاهرة الاستثنائية بعد خمسة وأربعين عاما من رحيل صاحبها ربما نستجلى الصورة :
أولا: لا خلاف على موهبة عبد الحليم الغنائية وعلى قدرة صوته على التعبير الصادق عن أدق المشاعر الإنسانية ، وهذه الموهبة هى أساس كل مجد صنعه عبد الحليم فلولاها ما استطاع أن يوفر بقية الأسباب الأخرى التى دعمت أركان دولته الفنية فى حياته وبعد مماته.
ثانيا: ظهر عبد الحليم فى زمن كانت فيه الأذن العربية بحاجة إلى النقلة الثانية بعد تلك الأولى التى أحدثها الموسيقار سيد درويش وعمل فى ظلها سابقوه عبد الوهاب وفريد الأطرش وإبراهيم حمودة ومحمد فوزى وغيرهم لا سيما مع تغير كثير من الأمزجة وعادات الاستماع والسلوكيات الاجتماعية وإيقاع الحياة بوجه عام فى أعقاب قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 والتغييرات التى أحدثتها، وقد صنع لعبد الحليم هذه النقلة الثانية مجموعة من الأسماء أبرزها على مستوى الألحان كل من كمال الطويل ومحمد الموجى ومنير مراد ثم بليغ حمدى ومعهم المتطور والمتكيف مع كل جديد محمد عبد الوهاب، وعلى مستوى الكلمة كان هناك سمير محبوب ومحمد على أحمد واسماعيل الحبروك ومرسى جميل عزيز ومعهم الحرفجى حسين السيد، فإذا ما امتص حليم صدمة اللقاء الأول مع الجمهور وجد الأذن العربية مهيأة لتقبل اللون الغنائى الذى يقدمه ثم استطاع بحسن إدارته لموهبته الغنائية أن يحافظ على هذا الجمهور الذى بات معظمه وفيا لذلك اللون حتى بعد رحيل عبد الحليم وداعما له عند أجيال لم تعشه.
ثالثا: الأمر نفسه حدث فى السينما فارتبطت الأفلام التى قدمها الممثل عبد الحليم حافظ بوجدان المتلقى وبذكرياته وعبرت عن مواقف عاطفية إنسانية صالحة للاستعادة فى كل زمان ومكان، ولذلك بقيت حتى بعد رحيل عبد الحليم كل هذه السنوات.
رابعا: استفاد حليم من هذه المواقف الإنسانية التى وفرتها له قصص أفلامه فى إعمال ذكائه فى اختيار أفكار أغنياته بحيث يندر أن تجد حالة شعورية لم يعبر عنها عبدالحليم بالغناء، فتجد له أغنيات فى النجاح وأعياد الميلاد ورحلات المصايف ونزهات المحبين وكل مراحل الحب من لهفة لقاء ولوعة فراق وغدر وخيانة وعتاب وألم وعذاب ، ومن هنا فإن أغنيات العندليب حاضرة دائما فى كل مناسباتنا مهما اختلفت حالاتنا المزاجية ومعها يحضر اسم صاحبها الذى غناها.
خامسا: وعلى مستوى الغناء الوطنى فقد عبر العندليب عن كل الأحداث الوطنية التى مرت بها مصر والأمة العربية واستطاع بذكائه أن يبيع لنا فكرة قربه من الرئيس عبدالناصر وأنه كان يعتبره بمثابة الوالد بينما أكد كل المقربين من الرجلين أن عبد الناصر كان يفضل أم كلثوم وفريد على عبدالحليم حتى وإن استفاد من صوت العندليب فى أن يكون «جبرتى الثورة» ومن هنا أصبحت حياته الفنية والشخصية أيضا كما لو كانت تاريخا موازيا لتاريخ مصر المعاصر يمكن استرجاعها عند كل واقعة تاريخية مر بها الوطن، فالرجل الذى أبصر النور فى الحادى والعشرين من يونيو 1929 بالحلوات شرقية أتى يتيماً إلى زحام القاهرة لدراسة الموسيقى فى النصف الثانى من أربعينيات القرن العشرين كان الوطن يعيش أكثر سنوات غليانه السياسى، وحينما قامت ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 كان المطرب الشاب يبحث عن بصيص ضوء فى الجدار الصلب من الإرث الموسيقى العتيق، وحينما تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية فى الثامن عشر من يونيو 1953 كان عبد الحليم فى اللحظة ذاتها والحفل بعينه يشدو بـ«صافينى مرة»أولى أغنياته للناس فى حفل عام، فكان ميلاده الفنى ملاصقا لميلاد الجمهورية فى مصر، ومن تلك الليلة أصبح الشاب البسيط صوتا للثورة فى كل أحلامها وإنجازاتها مثلما كان صوتا لها فى إحباطاتها وانكساراتها، هو الذى غنى للتأميم والاشتراكية ومبادئ يوليو، وللسد وللعائدين من اليمن ولثورة الجزائر وللزهو القومى ، وهو أيضا الذى غنى فى يونيو 1967 للنهار الذى عجز أن يدفع مهر تلك التى على الترعة تغسل شعرها ، وهو نفسه الذى غنى فى أكتوبر 1973للصبية التى كان مهرها النصر والعريس ابن البلد.
سادسا: أما عن لحظة الرحيل نفسها، فلن تنسى الذاكرة المصرية والعربية هذا الوداع الجنائزى المهيب باحتشاد جماهيرى نادر التكرار، ومشاهد انتحار لا تزال عالقة فى الأذهان، إن الجماهير التى احتشدت من ميدان التحرير وحتى مثواه الأخير لم تكن تودع جثمان عبدالحليم بقدر ما كانت فى وداع عصر بأكمله كان العندليب عنوانه الأبرز، وانتحار الفتاة التى ألقت بنفسها من عليين كان بمثابة انتحار لزمن الرومانسية على أعتاب مقبرة العندليب فى البساتين، وهكذا بات التأريخ لنهاية عصر الرومانسية مرتبطا باسم عبدالحليم تماما مثلما كان رحيله على المستوى الفنى إيذانا بقرب نهاية الأغنية الطويلة ومن ثم أفول نجم الحفلات العامة التى يقف فيها المطرب يغنى بالساعات لجمهور يستمع بإنصات وهو جالس فى مكانه قبل أن يظلنا زمان الأغنية الإيقاعية السريعة حيث الاستماع بالخصر كما وصفه الموسيقار عبد الوهاب.
سابعا: يمكن القول أن عبد الحليم كان صوتا مثقفا حتى لو كانت ثقافته سمعية بفضل اقترابه من أرباب الفكر والأدب والصحافة أمثال كامل الشناوى وإحسان عبد القدوس ومصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم، فإذا ما احتشد وعيه الثقافى مع ذكائه الفطرى أصبح هذا الشاب النحيل قادرا على إدارة موهبته والحفاظ على مكتسباته خاصة فى ظل شبكة العلاقات العامة التى كونها من كبار الصحفيين والإذاعيين الذين شكلوا له حائط صد منيع ضد من يحاولون تقويض دلوته الفنية، فعاشت هذه الدولة حتى بعد رحيل زعيمها ببقاء أعضاء هذه الشبكة الفولاذية التى كونها عبد الحليم.
ثامنا: استطاع العندليب بذكائه أن تتماس حياته مع كل نجوم عصره فى الفن والأدب والسياسة والصحافة والرياضة والدين والمجتمع بحيث يصبح هو صفحة مهمة فى سيرة حياة هؤلاء يتم استدعاؤها عند الحديث عن هؤلاء، ومن ثم باتت سيرة عبد الحليم حاضرة دائما وبقوة عند الحديث عن أى منهم، فطال عمر سيرته الذى امتد باحتشاد كل هذه السير واجتماعها عند اسمه.
تاسعا: يمكن القول بارتياح بعد كل هذا العمر الذى قضيته فى التأريخ للحياة الفنية أن عبد الحليم كان أكثر فنان مصرى وربما عالمى اهتماما بالصورة الفوتوغرافية، وهذا الكم الكبير
والمتنوع من الصور كان أحد الأسباب التى دعمت الحديث الدائم عنه حتى بعد رحيله وخاصة فى الصحافة التى ظلت تفرد له أعدادا كاملة من إصداراتها كل عام فى ذكرى ميلاده ورحيله على السواء.
عاشرا: لا يمكن إغفال الدور المهم الذى قام به صديق عمره مجدى العمروسى – حتى لو تداخلت فيه المصالح التجارية – فى الإبقاء على سيرة عبد الحليم حية طازجة ، فقد دأب العمروسى كل عام وحتى رحيله على مفاجأة جمهور حليم بما هو جديد الذى يثير الجدل ويجدد الاهتمام بسيرته.
باختصار: لقد اجتمع لدى عبد الحليم دون غيره على هذا النحو كل أسباب الحضور الدائم فى الذاكرة العربية وأظنه سوف يبقى لأجيال وأجيال قادمة